شهرٌ وأكثر قليلاً في الحفرة

الدولة الفارغة والمجرِمة غائبة. هناك فقط ناس عاديون تجمّعوا ليحثّوا فرق الإنقاذ على المتابعة، ليدينوا الجيش الذي يتحجج بأتفه الأسباب للتوقف عن البحث، ليأتوا بالرافعات بأنفسهم وعلى كلفتهم حين يتطلب الأمر. وأمامهم، هناك متطوعو الدفاع المدني اللبناني الذي يعملون بلا حقوقهم وأجورهم منذ سنوات، وهناك تشيليون شابات وشبان لا يتكلمون لغتنا ولا يعرفون شوارعنا، ولكنّهم أتوا.
2020-09-10

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
جوني سمعان - سوريا

نفتح، من عالم الأموات، كوّة صغيرة على الحياة. إنّه "الخارج"، نراه من حيث نحن قاعدون نلمّ ركبنا بأيدينا كالأطفال، ونتأرحج إلى الأمام والخلف، ونتفرّج بعيون مفتوحة غيّرها الخوف على يوميات الدنيا – ما عدانا. مرّ شهر ونحن قاعدون قائمون على هذه الحال، حالِ الأموات، ولكن الآن فقط، بعد كلّ هذا الوقت ننتبه للخارج، فيزعجنا انتباهنا أكثر. كنّا في موت السبات – موت الليمبو، والآن صرنا في موت الانتباه – موت اليقظة. يحرقنا الضوء الذي يدخل من الكوّة، فنودّ لو نسدّها بكفوف الأيدي أو بأقدامنا أو بأسناننا حتّى.

إذاً، هذا هو العالم، وهو يسير، ونحن الأموات لسنا جزءاً منه. انفجرنا في الرابع من آب/اغسطس، منذ أيام قليلة فقط، وكانَ كأنْ لفظتنا الدنيا. وفي حفرتنا المعتمة، سمعنا خبراً عن نبضٍ في حفرة أخرى غير حفرتنا، فنهضنا وفتحنا عيوننا أكثر، أكبر، أوسع، وفتحنا آذاننا كذلك وقلوبنا، وعلّمنا أنفسنا الصلاة بعد انقطاع، من أجل نبض مجهول في حفرة أخرى، ظنناه نبضنا. لم يعد يزعجنا ضوء الخارج داخلاً من الكوّة الصغيرة، لأننا صرنا متأهبين لسماع خبر واحدٍ آخر عن النبض الكامن. بأنانية وبلا عقلانية تامة انتظرناه علّنا نطمئنّ على رمقٍ بقي من أنفسنا الموزّعة تحت الحطام. لقد امتلأنا واكتفينا – نحن الناجين من انفجار بيروت – من عقدة الذنب التي أقعدتنا حاضنين ركبنا الراجفة في الحفرة. أمّا الآن، فنريد بأنانية أيّ خلاصٍ يقودنا لاستعادة شيء من توازن.

عكس التوازن هو ما وجدناه في أنفسنا في الأيام القليلة الماضية.

رأينا على الشاشات أناساً أتوا من قارة في أقاصي الدنيا ومعهم كلب جميل أبيض وأسود اللون. اسمهم "توبوس تشيلي"، وهم فريق إنقاذ في الكوارث، وقد وجدوا نبضاً، فظننا أنفسنا وجدناه أيضاً. نحن اللذين نتكلّم بكل مفردات اليأس كل يوم منذ حدث ما حدث، صرنا في لحظة واحدة أرباب الأمل. "ان شالله"، "يا رب"، "30 يوم عايش تحت الردم؟ صايرة من قَبل، ممكن"، "80 سنتمتر وبيوصلوا"، "في نفَس"، "حيصوروا بالكاميرا داخل المبنى"... يومان وثلاثة بلياليها خلعنا فيها عنّا معجم اليأس وتمسّكنا بالأمل، رغم أن كل إحصاء وعقلانية ومنطقٍ ورقم يرجوننا ألّا نفعل، فلماذا فعلنا ذلك؟

رأينا على الشاشات أناساً أتوا من قارة في أقاصي الدنيا ومعهم كلب جميل أبيض وأسود اللون. اسمهم "توبوس تشيلي"، وهم فريق إنقاذ في الكوارث، وقد وجدوا نبضاً، فظننا أنفسنا وجدناه أيضاً. نحن اللذين نتكلّم بكل مفردات اليأس كل يوم منذ حدث ما حدث، صرنا في لحظة واحدة أرباب الأمل.

الدولة الفارغة والمجرِمة غائبة طبعاً. هناك فقط ناس عاديون تجمّعوا ليحثّوا فرق الإنقاذ على المتابعة، ليدينوا الجيش الذي يتحجج بأتفه الأسباب للتوقف عن البحث، ليأتوا بالرافعات بأنفسهم وعلى كلفتهم حين يتطلب الأمر. وأمامهم، هناك متطوعو الدفاع المدني اللبناني الذي يعملون بلا حقوقهم وأجورهم منذ سنوات، وهناك تشيليون شابات وشبان لا يتكلمون لغتنا ولا يعرفون شوارعنا، ولكنّهم أتوا، وهناك فوق الفريقين المتجمهرَين من منتظِرين وباحثين في الأرض، هناك أمل مخاتلٌ معلّق في الهواء، يخبو ويتوهج حسب الخبر والإشاعة وتقارير وسائل الإعلام التي تنغل في المكان.

مقالات ذات صلة

كانت اللحظة تكثيفاً مرهقاً لهشاشتنا، ولعلّنا بتنا أكثر تعباً بعد الخبر اليقين. فلماذا تأمّلنا، لماذا فعلنا ذلك؟ لا نبض ولا أحد، لا جثة ولا حيّ. كنا نبحث عن أنفسنا ووجدناها في الساعات الشحيحة التي أعدنا فيها اختراع الأمل.

أمّا وقد مرّ ذلك أيضاً بالسعي الحثيث نحو أيّ شيء ليسَ موتاً، ثمّ بالخيبة بعده، بقيت لنا الأيام الأخرى تتوالى الآن وتنفرط من بين أيدينا سريعاً ولا نعرف ما نفعل بها. ليس أي شيء على ما يُرام. أعلم عندما أفتح الآن مفكرتي اليومية لأرى ما فاتني. ألاحظ أنّ الأيام بعد الرابع من آب/اغسطس خاوية السطور في المفكرة التي كنتُ قد اشتريتها لنفسي لأعتاد تنظيم وقتي بشكل أفضل، ولأتوقّف عن التأخر عن مواعيد التسليم والخلط بين الدراسة والعمل. منذ الانفجار، صار الوقت والجهد كلّه منصبّاً في تمالك الأعصاب ومتابعة الأخبار ومحاولة الفهم دون جدوى، ثم محاولة التماسك الفاشلة مجدداً. الأصحاب يمرّون بالعوارض ذاتها، لا يعرفون أنفسهم ولا يشعرون بأيامهم ولا يشتغلون ولا يدرسون. يسكننا عجز الضعيف وحزن العاجز وغضب كلّ مقهوري الدنيا.

كانت اللحظة تكثيفاً مرهقاً لهشاشتنا، ولعلّنا بتنا أكثر تعباً بعد الخبر اليقين. فلماذا تأمّلنا، لماذا فعلنا ذلك؟ لا نبض ولا أحد، لا جثة ولا حيّ. كنا نبحث عن أنفسنا ووجدناها في الساعات الشحيحة التي أعدنا فيها اختراع الأمل.

مرّ شهر لم يتم فيه معاقبة أحد ولم يُعترف فيه بتقصير أو فساد أو مسؤولية من أي نوع. شهرٌ من اللاشيء – سوى الذهول والغضب والألم والأيام التي تمتلئ بالتحديق بالشاشات والليالي التي تصطخب بالكوابيس أو الأرق أو الاثنين معاً. إننا نرى كابوساً جماعياً، نرى موت بعضنا البعض، دم بعضنا البعض وسقوف البيوت تستوي بالأرض غير آبهة بمن وما بينهما. نرى كلّ ذلك ولا نستطيع فعلاً، نرى ونسكت، حتى وإن حكينا طوال الوقت، فإننا نشعر أن كلامنا سكوت.

مقالات ذات صلة

بعد شهر من الجريمة، يبدأ الروتين اليومي يتسلل من جديد إلى حياتنا، تتسع الكوّة على الخارج، فنعمل أو نخرج أو نتحدّث بلا نفس، ولكننا نفعل من جديد. أرى ذلك في نفسي وأصدقائي، وأخاف أن أنسى وأن ننسى. أريد لو أربّي الغضب كطفلٍ يحتاج رعاية دائمة وغذاءً كي لا ينفق وحده. تعود المهام اليومية تُكتب في المفكرة، وهذه المرّة أوّلها، كلّ يوم وساعة، "الغضبَ الغضب، فما زلنا في الحفرة وما زال الأنذال يحفرون".


وسوم: العدد 414

مقالات من لبنان

لبنان مجدداً وغزة في القلب منه

... أما أنا فأفرح - الى حدّ الدموع المنهمرة بصمت وبلا توقف - لفرح النازحين العائدين بحماس الى بيوتهم في الجنوب والبقاع وضاحية بيروت الجنوبية. لتلك السيارات التي بدأت الرحلة...

للكاتب نفسه

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-11

يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...