العنف ضد النساء في العراق، ما هو المختلف؟

بعد 2003 غُيّرت وعُدلت قرارات "مجلس قيادة الثورة" المنحل، لكن حوفظ على القوانين التمييزية ضد النساء. يتلاشى في العديد من فقرات تلك القوانين المسوغ "الديني المقدس"، وتستند بدلاً عن ذلك على مخزون العرف الثقافي، المتغير تاريخياً، باستثناء ما يتعلق بحقوق النساء الإنسانية. يمنح العرف المبررات المناسبة لممارسات العنف ضد النساء، حتى وإن كانت تناقض الشريعة.
2020-09-08

إلهام مكّي

باحثة، من العراق


شارك
أسماء فيومي - سوريا

ماتت ملاك، الشابة ذات العشرين ربيعاً، ليس بسبب كورونا أو لمرض ما أو في حادث عرضي.. ماتت حرقاً في بيت زوجها، وهي تحاول تخليص روحها وكرامتها من الذل والإهانة والعنف الممارس ضدها. راقب المجتمع رحيلها عن الدنيا وسط مشاعر امتزجت بين الشفقة والأسف على حياتها، وردود فعل منددة بفعل الانتحار، واتهامات لملاك بأنها ماتت كافرة، وأيضاً متمردة، لأنها خرقت المعايير السائدة التي تلزم المرأة بتجسيد صورة ثقافية متخيلة حول ما يجب أن تكون عليه: المرأة المثالية، المرأة المطيعة والصبورة. كسرت ملاك حاجز الصمت إزاء ممارسات العنف ضد النساء - وهو شيء نادراً ما يحدث - حين ذكرت من هو المسؤول عما حدث لها. صورة ملاك تغطيها آثار الحروق وصراخها، كشفت ستر المعاناة والوجع الداخلي. شعورها بالإحباط وفقدان القدرة على التحمل، والرغبة بالتخلص من الألم النفسي والواقع المرير الذي كانت تعيشه.

ما مرت به ملاك تواجهه غيرها من النساء، حيث كشفت دراسة قام بها مركز الإحصاء المركزي التابع لوزارة التخطيط العراقية 2012 حول العنف ضد المرأة، بأن البيانات ونسب ممارسات العنف الواردة في الدراسات لا تعكس أساساً واقع المشكلة. يعود السبب بحسب التقرير، إلى اعتبار النساء، وبنسبة 55 في المئة، للعديد من سلوكيات العنف بأنها ممارسات عادية تدخل من ضمن حقوق الرجال داخل الأسرة.

تنقل القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، قبل وبعد قصة ملاك، حوادث وجرائم عنف أخرى ضد النساء، دون أن تلقى أدنى اهتمام من قبل الحكومة ومؤسساتها المسؤولة عن حماية "مواطنيها" كما يذكر الدستور العراقي. استمر النقاش والجدل حول العنف ضد النساء يدور في فلك التبرير والبحث عن مسوغات عجيبة لأسباب حدوثه، رغبة بالتخلص من إحساس بالمسؤولية، وأيضاً النأي عن الاعتراف بوجود العنف وواقع تعايش ملايين النساء معه ضمن تفاصيل حيواتهنَّ اليومية.

كشفت دراسة حول العنف ضد المرأة قام بها في العام 2012 مركز الإحصاء المركزي التابع لوزارة التخطيط العراقية ، بأن البيانات ونسب ممارسات العنف الواردة في الدراسات لا تعكس واقع المشكلة. يعود السبب بحسب التقرير، إلى اعتبار النساء، وبنسبة 55 في المئة منهن، للعديد من سلوكيات العنف بأنها ممارسات عادية تدخل من ضمن حقوق الرجال داخل الأسرة

لكن لماذا تستمر ممارسات وحوادث العنف تلك؟ ولماذا تتحمل مئات الآلاف من النساء والفتيات في العراق العنف الممارس ضدهنّ يومياً؟ وما الذي يجعل العنف ضد النساء في العراق يختلف عن باقي المجتمعات؟

العنف السياسي الهيكلي والعنف ضد النساء

لطالما فُسر العنف ضد النساء باعتباره ممارسات ثقافية هي المسؤولة عن إدامة المشكلة، وأهملت الأسباب الهيكلية والجذرية غير المرئية، وهي المسبب والمسؤول الأول عن وجوده واستمراره. الاستبداد السياسي والحروب والنزاعات المسلحة التي شهدها العراق على مدار العقود الأخيرة، ساهمت في تفاقم العنف الممنهج ضد النساء والفتيات، وقد أكدت العديد من الأدلة والوثائق استخدام نظام البعث العنف والعنف الجنسي ضد النساء كجزء من سياساته القمعية والعقابية ضد المعارضين للنظام. كما أدى استخدام العنف والقوة العسكرية لتغيير النظام السياسي 2003، وما نتج عنه من نزاعات مسلحة بين أطراف مختلفة، وانهيار سلطة الدولة والقانون، والنزوح من مناطق النزاع، وانتشار السلاح وعسكرة المجتمع، وانهيار شبكات الدعم الأسرية والاجتماعية، إلى استفحال العنف الممارس ضد النساء والفتيات في أوقات السلم، سواء في المجال الخاص/الأسرة أو في المجال العام.

يخرج العنف ضد النساء أثناء الحروب والنزاعات المسلحة من سياقاته المعتادة، من حيث مستويات حدوثه وتواترها، ودخول أطراف جديدة ضمن دائرة مرتكبي العنف. استخدمت أطراف النزاع في العراق أجساد النساء كساحة قتال لتصفية خصومها، حيث واجهت جميع شرائح النساء في مناطق النزاعات أشكالاً مختلفة من العنف والاستعباد الجنسي أحياناً بُررت بحجج "دينية" كما حدث مع النساء الأيزيديات بعد هجوم جماعات داعش الإرهابية 2014. إنَّ استمرار الإضطراب الأمني والسياسي وتنامي النزعة العسكرية، يؤدي إلى تكييف مرتكبي العنف، والضحايا من النساء، ضمن السياق والوضع الأمني الجديد، وبالتالي تطبيع ممارسات العنف ضد النساء، واستمرارها حتى في أوضاع ما بعد النزاع.

قوانين حماية معطلة وقوانين تشرعن العنف ضد النساء

القوانين هي إحدى أهم آليات تشكيل الوعي المجتمعي، في الوقت نفسه الذي تعبّر فيه بالضرورة عن توجهات وأيديولوجية النظم السياسية. وتعزز فرضية ارتباط العنف الأسري بالعنف الهيكلي في العراق وجود مواد وفقرات في القانون تسوغ وتشرعن العنف ضد النساء. التغيير السياسي الذي أتى به احتلال العراق في 2003 لم يساعد النساء على التخلص من القوانين التمييزية بحقهنَّ. هذا ما أكده قرار المحكمة الاتحادية لسنة 2019 حين ردت دعوى طالبت بإلغاء المادة 41 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 المشرع في زمن نظام البعث، وذلك لعدم دستوريتها. حيثيات قرار المحكمة الاتحادية أكد من جديد على أن ضرب ("تأديب") الزوجة/المرأة حق للزوج/الرجل، وأن الغرض منه هو إصلاح وتقويم، ولا يعد جريمة لأنه "في الحدود المقررة شرعاً أو قانوناً أو عرفاً".

لم يبذل المشرّع العراقي أي جهد لتحديد ما هو المقصود بالحدود القانونية لفعل التأديب/نوع ودرجة الضرب؟ وما هي حدود الشرع أو العرف المكانية والزمانية؟ بعد 2003 تم تغيير وتعديل وإلغاء العديد من قرارات "مجلس قيادة الثورة" المنحل، لكن استمرت القوانين التمييزية ضد النساء بفاعليتها العالية في تعزيز العنف الهيكلي ضدهنَّ.

استخدمت أطراف النزاع في العراق أجساد النساء كساحة قتال ضد خصومها، حيث واجهت جميع شرائح النساء في مناطق النزاعات أشكالاً مختلفة من العنف، والاستعباد الجنسي أحياناً، بُررت بحجج "دينية"، كما حدث مع النساء الأيزيديات بعد هجوم جماعات داعش الإرهابية 2014

لم يجد المشرع العراقي شائبة في استمرار عقوبة الإعدام بحسب قرار مجلس قيادة الثورة المنحل 234 لسنة 2001 أولاً الفقرة الثالثة: ضد المرأة التي "يثبت تعاطيها البغاء"، وعدم شمول العقوبة المنصوص عليها في القرار مشتري المتعة المحرّمة من الرجال، ما جعله محصناً ضد التجريم. وبدلاً عن ذلك، عُدّ شاهداً يخلى سبيله بعد الاستماع إلى أقواله، وليس شريكاً أصيلاً في الجريمة، التي بدون وجوده لا تكتمل أركانها. كما رفضت القوى السياسية بمختلف توجهاتها سواء كانت إسلامية أو علمانية، ولا تزال ترفض إقرار قانون مناهضة العنف الأسري، الذي قدم إلى البرلمان منذ 2012.

العديد من فقرات القوانين التي تشرع العنف ضد النساء، يتلاشى منها المسوغ "الديني المقدس" وتستند بدلاً عن ذلك على مخزون العرف الثقافي، المتغير تاريخياً، باستثناء ما يتعلق بحقوق النساء الإنسانية. خلطة السلطة الأبوية التاريخية المكونة من الدين والعرف تكبل حقوق النساء وتشرعن العنف، فإن لم يوجد تبريرٌ لها في "الشريعة" يمنح العرف بكل سخاء المبررات المناسبة لممارسات العنف ضد النساء، حتى وإن كانت تناقض "الشريعة". في تشرين الأول /أكتوبر 2018 اعتبر المشرّع العراقي أنَّ قيام مسلحين ينتمون لعشيرة ما بالهجوم على بيت خصم من عشيرة أخرى باستخدام السلاح والقنابل (ما يعرف ب"الدكة العشائرية") عمل إرهابي وعقوبته الإعدام، على الرغم من أنها ممارسة وعرف عشائري قديم، إلا أنه لا يزال يمنح أحكاماً مخففة لما يعرف ب"جرائم القتل بداعي الشرف" المخالفة لأحكام الشريعة، بحسب أقوال الفقهاء والخبراء المختصين في القانون، بحجة أنها قيم وأعراف اعتاد الناس عليها.

التراتبية والتبعية الاقتصادية والعنف ضد النساء

هناك أدلة كثيرة تربط بين العنف الموجه ضد النساء وبين قدرتهنَّ وقوتهنَّ الاقتصادية. مع ذلك غالباً ما يتم إهمال النظام الاقتصادي السياسي في تحليل العنف ضد النساء. بشكل عام يرتبط ويتأثر الوصول للموارد، والتحكم بها لكلا الجنسين بشكل الاقتصاد الموجود في المجتمع. عندما تحصل المرأة على الموارد الإنتاجية، وتتمتع بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية، فإنها تكون أقل عرضة للعنف في جميع المجتمعات. في العراق تفتقد أعداد وشرائح كبيرة من النساء للقوة والاستقلال الاقتصادي، من حيث الوصول المحدود إلى الموارد والتحكم بها، كالأرض والممتلكات والدخل والتوظيف والتعليم والتكنولوجيا.

ردت المحكمة الاتحادية لسنة 2019 دعوى طالبت بإلغاء المادة 41 من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، المشرع في زمن نظام البعث، وذلك لعدم دستوريتها. حيثيات قرار المحكمة الاتحادية أكد من جديد على أن ضرب ("تأديب") الزوجة/المرأة حق للزوج/الرجل، وأن الغرض منه هو إصلاح وتقويم، ولا يعد جريمة لأنه "في الحدود المقررة شرعاً أو قانوناً أو عرفاً".

حوفظ في قوانين ما بعد 2003 على عقوبة الإعدام ضد المرأة التي "يثبت تعاطيها البغاء"، وعلى عدم شمول العقوبة مشتري المتعة المحرّمة من الرجال، ما جعله محصناً ضد التجريم. وبدلاً عن ذلك، عُدّ شاهداً يُخلى سبيله بعد الاستماع الى أقواله، وليس شريكاً أصيلاً في الجريمة، التي بدون وجوده لا تكتمل أركانها.

يعتبر اقتصاد العراق من الاقتصاديات الهشة والضعيفة، لأنه اقتصاد ريعي يعتمد على بيع مادة النفط الخام الذي يمثل نسبة 90 في المئة من الدخل المحلي. في أوج فترات التنمية التي شهدها العراق، كانت نسبة النساء اللواتي يملكن العقارات والأصول المالية ضئيلة جداً مقارنة بالرجال، بسبب طبيعة الاقتصاد العراقي الريعي، كما أن مجالات العمل المتاحة للنساء، كانت مرتبطة بأدوارهن الجندرية التقليدية كالتعليم والصحة ضمن القطاع الحكومي الرسمي، فلم يكن مقبولاً ثقافياً عمل النساء في القطاع الخاص، الذي كان بالأساس يعاني من مشاكل وتحديات هيكلية بسبب السياسات الحكومية المتعثرة.

استمرار اعتماد العراق بعد 2003 على الاقتصاد الريعي، ألقى بآثاره السيئة ليس على الجانب الاقتصادي فحسب، بل امتد أيضاً إلى الجانبين الاجتماعي والسياسي، حيث تفاقمت الفجوة الاجتماعية وتعاظم التهميش الاجتماعي وارتفعت نسبة البطالة والفقر في المجتمع العراقي، كما الديون الخارجية وتزايد استبداد الدولة وإخفاقها في إرساء وتدعيم مبادئ الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. كما ازدادت نسبة الأمية بشكل كبير، خاصة بين الفتيات، ومنعت النساء من العمل والمشاركة في المجال العام، نتيجة التوتر الأمني في المحافظات التي شهدت نزاعات مسلحة. وهذه الظروف طالت أيضاً النساء في المحافظات البعيدة عن النزاع. واجهت النساء، حتى المتعلمات منهنَّ، تحديات كبيرة في إيجاد فرص عمل في القطاع الحكومي -المقبول ثقافياً واجتماعياً - بسبب إقبال واستئثار الرجال بالوظائف في القطاع الحكومي نتيجة زيادة الرواتب فيه بعد 2003 . استخدم النظام القائم ممثلاً بالأحزاب السياسية، فرص العمل والموارد الاقتصادية في المؤسسات الحكومية في تدعيم نظام العلاقة القائم على المحسوبية والزبائنية لضمان استمراره في السلطة. المستفيد الأكبر من شبكة العلاقة الزبائنية بطبيعة الحال هم الرجال، حيث استبعدت النساء من تولي المناصب والمراكز القيادية ومن توزيع الامتيازات والصفقات والعقود التجارية والاستثمارية. يعاني حالياً السواد الأعظم من النساء في العراق من التراتبية والتبعية الاقتصادية، حتى العاملات منهنَّ غير قادرات على تحقيق الاستقلال الاقتصادي بعيداً عن أسرهنَّ، وهو الذي يمثل أهم عامل لدرء العنف ضدهنَّ.

غالباً ما يتم إهمال النظام الاقتصادي السياسي في تحليل العنف ضد النساء، على الرغم من الأدلة الكثيرة التي تربط بين العنف الموجه ضدهن، وبين قدرتهنَّ وقوتهنَّ الاقتصادية. التغيير السياسي الذي أتى به احتلال العراق في 2003 لم يساعد النساء على التخلص من القوانين التمييزية بحقهنَّ.

التراتبية السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والتمييز وعدم التكافؤ في السلطة داخل الأسرة/المجال الخاص، المرتبط بالعنف الهيكلي في المجتمع، عوامل تفاعلت تاريخياً، وجعلت النساء في العراق أكثر عرضة لخطر العنف سواء داخل الأسرة أو في المجال العام أو في العمل أو مكان آخر. من هنا تظهر الحاجة لتكوين رؤية شمولية وتكاملية حول ممارسات وجرائم العنف ضد النساء، لأنها ليست مشكلة تخص النساء فحسب بل تؤثر على جميع أفراد المجتمع، هي جزء من النضال الأوسع لتحقيق المساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

مقالات من العراق

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...