تدخل سيارة في عيون العراقيين وتخرجُ نكتة من أفواههم!

إذا كنت واقفاً في مكان مرتفع ببغداد، يطلّ على شارع تتكدس فيه المركبات في إطار اختناق مروري اعتاد عليه العراقيون، وساكنو بغداد على وجه الخصوص، ستلاحظ أن الشارع يتشح باللون الأصفر. وتلك الصُفرة لم تأتِ نتيجة ظاهرة كونية اجتاحت العراق مؤخراً، وإنما شكلتها الأعداد الكبيرة من سيارات الأجرة الصفراء التي بدأت بالتوافد على البلد منذ نحو سنتين، بعد أن قررت مديرية المرور العامة في ذلك الحين تبديل لون
2013-01-02

أمجد صلاح

كاتب صحافي من العراق


شارك

إذا كنت واقفاً في مكان مرتفع ببغداد، يطلّ على شارع تتكدس فيه المركبات في إطار اختناق مروري اعتاد عليه العراقيون، وساكنو بغداد على وجه الخصوص، ستلاحظ أن الشارع يتشح باللون الأصفر. وتلك الصُفرة لم تأتِ نتيجة ظاهرة كونية اجتاحت العراق مؤخراً، وإنما شكلتها الأعداد الكبيرة من سيارات الأجرة الصفراء التي بدأت بالتوافد على البلد منذ نحو سنتين، بعد أن قررت مديرية المرور العامة في ذلك الحين تبديل لون سيارات الأجرة من الأبيض والبرتقالي إلى البرتقالي المصْفر. ونالت سيارة الـ"سايبا"، "SAIPA"، الإيرانية المنشأ، حصة الأسد من تلك الصفرة، بعد أن استورد العراق أعداداً كبيرة منها، حتى بات الحديث عنها أحد هو الأكثر تداولاً بين الناس.

جِناس لفظي

باعت الشركة العامة لصناعة السيارات 30 ألف واحدة من هذه السيارة في بغداد فقط منذ بداية استيرادها عام 2010 وحتى نيسان/أبريل الماضي. نظر إليها العراقيون على أنها فرصة لا يمكن تفويتها من دون استثمارها في التندر وصناعة النكات. ولعل اسم السيارة يأتي في مقدمة الأسباب المثيرة للرغبة في التندر. فالعراقيون لا يلفظون كلمة "SAIPA" بشكل يتطابق مع اللفظ الإنكليزي لها "سايپا"، وإنما يلفظونها "سايبة"، وهو لفظ عامي واضح لكلمة "سائبة". وكلمة "سائبة"، وإن كانت تعني بالعربية الفصحى "الناقة التي تسيّب للأصنام لنحو برء من مرض أو نجاة في حرب"، لكنها بنسختها العراقية "سايبة" تعني المرأة المنفلتة. هذا التطابق بين اللفظين سهّل عملية إقحام السيارة الـ"سايبة" في جناس لفظي مع المرأة الـ"سايبة"، وبوجود عناصر مساعِدة أخرى، كصغر حجم السيارة وقلة متانتها وانتشارها الواسع في الشوارع العراقية. تبلورت لدى العراقيين رؤى عديدة لصياغة عبارات الطرفة والتندر بهذه السيارة، ملبين بذلك شيئاً من حاجتهم المُلحّة لمواجهة صعوبة حياتهم اليومية وقسوتها بالضحك والسخرية. والغريب في الأمر، أن أصحاب الـ"سايبات" هم أول من يسخرون من سياراتهم. فقد كتب أحدهم على الزجاج الخلفي لـ"سايبته" عبارة "سايبة ولفّيتچ"، (وهو تحريف للفظ "لقيتك" أي وجدتك)، ومعناها العميق: "لي فضلٌ عليكِ، فقد كنتِ منفلتة ضائعة وقمتُ بإيوائكِ!". فيما كتب الآخر عبارة "مو سايبة، بت عشاير"، ومعناها "هذه ليست منفلتة، فهي ابنة عشائر!" بمعنى انها محكومة بقوانين صارمة ومحافظة. وكتب آخر عبارة "اجه الحوت لحَدّ يفوت"، ومعناها "جاء الحوت فلا يتجرأ أحد على اجتيازه!"، وهو بقصد رد الاعتبار لها. وكتب غيره عبارة "تكبر وتصير همر"، ومعناها هذه السيارة ستنمو مثلما ينمو الإنسان وتتحول الى "هَمَر"، تلك السيارة الضخمة والفخمة الشهيرة، التي شاعت في العراق كسارة شبه عسكرية يستخدمها الجيش الامريكي! وفي موقع التواصل الاجتماعي، "فيسبوك"، أنشأ بعض العراقيين "مجموعات" متخصصة بنشر صور غير مألوفة عن هذه السيارة، مدعومة بالتعليقات الساخرة. أما البعض الآخر، فقد جعل اسمه في صفحته على الـ"فيسبوك" مقترناً باسم سيارته، من قبيل فراس سايبا وحاتم سايبا وعادل سايبا...إلخ.

... عند قوم فوائدُ

لعل القائمين على شركة "سايبا" الإيرانية التي تأسست سنة 1966، لم يخطر ببالهم يوماً أن سعادتهم ستوفرها لهم دولة مجاورة سبق أن خاضت مع بلادهم حرباً شرسة عمرها ثمان سنوات. ومع أن هذه الشركة حققت نجاحاً جيداً على المستوى المحلي عندما أعلنت سنة 2006 أن حجم مبيعاتها في السوق الإيرانية وصل إلى 55 في المئة، إلا أن هذا الحجم من المبيعات قد لا يتفوق على حجم مبيعاتها في السوق العراقية، فقد أعلنت الشركة أنها صدّرت إلى العراق في السنة الإيرانية الماضية ما لا يقل عن 18 ألف سيارة بقيمة تناهز الـ100 مليون دولار أميركي. ولم تثنِ عيوب السيارة الكثيرة وزارة التجارة عن الاستمرار باستيرادها، برغم كل ما قيل ويقال عنها. وأعلنت مديرية المرور العامة مراراً أنها سجلت على الـ"سايبا" مشكلات ميكانيكية تتعلق بإجراءات الأمان والمتانة، لكن إعلاناتها تلك اقترنت بتأكيداتها على أن وزارة التجارة لم تكترث للتقارير الشهرية التي تقدمها لها بهذا الخصوص، وتستمر باستيراد السيارة. ومن أشهر عيوب الـ"سايبا" أنها مصنوعة من دون إطار حمل أجزاء السيارة (الشاسيه)، الأمر الذي يجعلها عرضة للتحطم السريع جرّاء أبسط حادث مروري، لا سيما عند الأخذ بنظر الاعتبار رداءة المعدن المصنوع منه هيكل السيارة، ووزنها الخفيف الذي لا يتجاوز الـ940 كلغ، وقرب أدنى نقطة ارتفاع فيها من الأرض، لا يفصلها عنها سوى 16 سم. ولهذا السبب انتشرت رواية شهيرة بين العراقيين مفادها أن سيارة "سايبا" كانت تسير مسرعة فواجهها مطب مرتفع، ولم يتمكن السائق من السيطرة على السيارة لتفادي العائق، أو لتخفيف السرعة الجنونية التي كان يسير بها، فمرّت الـ"سايبا" على المطب المرتفع وهي مسرعة، وأصبحت سيارتين... أي انشطرت إلى نصفين!

مزايا مربحة

لدى وزارة التجارة مبررات تقدمها لإصرارها على استمرار استيراد سيارات الـ"سايبا" بالرغم من جميع الانتقادات التي توجه إليها. فالعراقيون يقبلون على اقتنائها لأنها سيارة "اقتصادية" بحسب ما يرون. وإذا كان لسلبياتها وزن في واحدة من كفتي ميزان الشراء، فإن المعطيات تثبت أن الإيجابيات في الكفة الأخرى أثقل وزناً. وهي تتمثل برخص سعرها مقارنة بأسعار غيرها من السيارات، وقلة استهلاكها للوقود، وانخفاض تكاليف الصيانة، كما قطع الغيار الخاصة بها. وتتراوح أسعار الـ"سايبا" بين 6 آلاف و8 آلاف دولار أميركي. ويذكر الموقع الرسمي للشركة أن خزان وقود هذه السيارة يستوعب 37 لتراً من البنزين كحد أعلى. وبحسب موقع الشركة أيضا، فإن استهلاك السيارة يبلغ 6.9 لترات لكل 100 كم، فيما تذكر بعض المواقع الإلكترونية المتخصصة بشؤون السيارات إن الـ"سايبا" تستهلك 5.3 لترات لكل 100 كم على الطرق السريعة، وتستهلك 9.55 لترات لكل 100 كم على الطرق المزدحمة مرورياً داخل المدينة. ولأن سير سيارات الـ"سايبا" ينحصر داخل المدن غالباً، فإن احتساب النسبة الأعلى من استهلاك الوقود، أي 9.55 لترات لكل 100 كم، يظهر أن سائق الـ"سايبا" الأجرة يستهلك وقوداً تبلغ تكلفته نحو 4300 دينار عراقي (ما يقارب 3.5 دولارات أميركي)، إذا ما قطع مسافة بين منطقتين تبعدان عن بعضهما 100 كم، وذلك عند الأخذ بنظر الاعتبار أن سعر لتر البنزين الواحد في العراق يبلغ 450 دينارا عراقيا (أقل من نصف دولار أميركي). ولأن أجرة التوصيل بين منطقتين تفصلهما مسافة 100 كم لا تقل عن 15 ألف دينار عراقي (نحو 12.5 دولارا أميركيا)، فإن سائق الـ"سايبا" يحقق ربحاً مقداره 9 دولارات أميركية - على وجه التقريب- في توصيلة كهذه، مستحصلاً بذلك على أكثر من نصف تكلفة ملء خزان وقود سيارته البالغة 16 ألف و650 دينارا عراقيا (نحو 13.5 دولارا أميركيا). ويبقى التناسب الطردي في الحسابات السابقة قائماً بين طول المسافات وحجم استهلاك الوقود، وبين مقدار أجرة النقل. هذه المزايا الربحية في استغلال الـ"سايبا" كسيارة أجرة، فضلاً عن تمتعها ببعض مواصفات السيارات الحديثة، وفي مقدمتها احتواؤها على منظومة تدفئة وتبريد، هي ما تدفع الكثير من العراقيين إلى الاستمرار باقتنائها. وهي ما تجعلهم قادرين على غض النظر عن كون السيارة التي يستقلونها أشبه بنكتة تسير على عجلات، بنظر الشارع العراقي.

           

مقالات من العراق

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

فتاة كقصبة ال"بامبو"

فؤاد الحسن 2024-09-29

"فاطمة" لم تستطع نيل موتها، على الرغم من دنو الموت، وتنفسه الثقيل الملتصق بتراب الأرض. فقد اختُطِفت مِن قِبل عناصر تنظيم "داعش"، على الرغم من سنواتها التسع، التي لم تنضج...

للكاتب نفسه

الموصل المحررة والعقول الأسيرة

أمجد صلاح 2017-07-22

تحرير الارض وحدها لا يكفي. فهناك عقول تأثرت بفكر "داعش" ومن بينها نساء واطفال. يحتاج التخلص الفعلي من "داعش" الى إعادة ترتيب أوراق كثيرة بعثرها عبث القوى السياسية وتخبّطها

عراق الـ 56

أمجد صلاح 2017-04-07

قبل 14 عاماً، شهد العالم غزو القوات الأمريكية وحلفائها للعراق، واحتلالهم للعاصمة بغداد، ثم إقامتهم لنظام المحاصصة. الحصيلة كارثية: سيادة النصب والاحتيال كطريقة في إدارة السلطة والثروة.