«إذا كان على رجلٍ دَين وخَرَّبَ إلهُ الأعاصيرِ حقلَهُ أوْ دَمَّرَه الفَيضانُ أوْ أنَّ الغلة لمْ تَنبتْ في حقلِهِ لِقلّةِ الماءِ. فَفِي هذه السّنةِ لا يُعيدُ الحُبوبَ التّي اقترَضَها إلى دائنِه ويُلغَى عَقدُه ولا يَدفعُ فائضاً لتلك السّنةِ». قانون حمورابي - المادّة 48
للجمهوريّة التّونسيّة تاريخ مع المديونيّة يعود إلى بدايات الاستقلال. وهو تكثّف في السّتينيات من القرن الماضي حيث بدأ التّعاون بين تونس والبنك الدّولي في سنة 1963. وكان هذا التّعاون محتشما في بداياته، إذ لم يكن له تأثير واضح في الاقتصاد إلا مع بداية السّبعينات، فترة الانفتاح على الاقتصاد العالمي. ورغم الأزمات الاقتصاديّة التّي مرّت بها تونس ، فإن حجم الاعتمادات التّي خصّصها البنك الدولي لم يتجاوز، وفق تقرير لمنظمة بريتن وودز، مبلغ الـ 5,5 مليارات دولار بين سنة 1963 و2009.
نواقيس الخطر
استقبل التّونسيّون سنة 2013 على خبر مفجع مفاده أنّ البنك المركزي التّونسي لم يعد يحوي في خزائنه إلاّ مبلغ 129 مليون دينار. فسارع المسؤولون الماليّون إلى محاولة طمأنة المواطنين، مؤكّدين أنّ الوضعيّة لا تدعو للقلق. وأمكن فعلا إعادة شحن خزائن الدّولة بفضل عائدات الاداءات والضّرائب والمعاليم والأتاوات، وخاصّة بفضل القروض الخارجيّة والعائدات الاستثنائيّة المتأتّية من بيع الأملاك المصادرة لعائلة بن علي، وهو ما يمكّن من تغطية ثلاثة أشهر تقريبا من حاجات الاستيراد. إلاّ انّ المختصّين في المجال المالي والاقتصادي لم يستأنسوا إلى هذه الإعلانات وواصلوا دقّ نواقيس الخطر.
لم يدق نواقيس الخطر التّونسيّون المتابعون للشّأن الاقتصادي، فالوكالات العالميّة للتّرقيم السّيادي ما انفكت تخفضّ من تصنيفها للتّأمين السّيادي للاقتصاد التّونسي. ففي 19 شباط/ فبراير 2013 بادرت وكالة «ستاندارد أند بورز» إلى تخفيض تصنيفها من علامة «ب ب« إلى علامة «ب ب سلبي»، وفي 28 من الشّهر نفسه، قامت وكالة «موديز» كذلك بتخفيض العلامة وكذلك فعلت وكالة «فيتش» في 12 كانون الأوّل/ديسمبر 2012، حين خفّضت العلامة المُسندة إلى تونس ثم أعلنت في 7 شباط/فبراير أنّه من الممكن أن تخفّضها من جديد.
تتوافق جميع هذه الوكالات حول الآفاق السّلبيّة لقدرات الاقتصاد وحول العوامل المتسبّبة في ذلك، والتّي تحصرها أساسا في المعطيات السّياسيّة. فبالنّسبة إلى وكالة «فيتش» ، فإنّ «الانتقال الاقتصادي والسّياسي للبلاد بات أطول وأعسر ممّا كان مُتوقّعا». وفي حين تُرجع وكالة «موديز» هذا التّخفيض إلى التّداعيات السلبيّة لعدم الاستقرار السّياسي على الاقتصاد، وإلى طول فترة صياغة الدّستور، وتأخير موعد الانتخابات، فإنّ وكالة «ستاندارد أند بورز» تشكّك في «قدرة الحكومة الانتقاليّة على النّهوض الكافي بالاقتصاد». فوكالات التّصنيف العالميّة تُنزل جميعها الاقتصاد التّونسي من مستوى «المتوسط المتدنّي» إلى مستوى «المُضاربة» وهو ما من شأنه أن يساهم في زيادة تكلفة موارد التّمويل الخارجيّة نظرا للزّيادة في منحة المخاطر ونسبة الفائدة على القروض الجديدة في الأسواق العالميّة. إلاّ انّ ذلك لم يمنع الحكومة من المواصلة في النّهج نفسه معتمدةً الاستدانة كحلّ أساسي للأزمة.
الهروب إلى الأمام
إضافة للقرض الذّي أسنده البنك العالمي إلى تونس في شهر كانون الاول/ ديسمبر 2012 بقيمة 500 مليون دولار (الدولار يساوي 1,557 دينار تونسي)، أعلن سيمون غراي، رئيس قسم المغرب العربي بالبنك الدولي أثناء زيارته إلى تونس في 23 و24 كانون الثاني/يناير 2013، أنّ البنك تفاوض مع السّلطات التّونسيّة بشأن امكانيّة تقديم دعم إضافي للميزانيّة في سنة 2013 تبلغ قيمته 500 مليون دينار. كما أعلن «الرّائد الرّسمي للبلاد التّونسيّة» في عدده السّادس الصّادر في الشّهر نفسه أن البنك المركزي التّونسي قد أبرم عقدا لفائدة الدّولة مع قطر لإسنادها قرضا تبلغ قيمته هو الآخر 500 مليون دولار. ويذكر العدد نفسه من الرّائد الرّسمي أن الدّولة أبرمت اتفاقيّة أخرى مع ليبيا لإسنادها قرضا تبلغ قيمته 100 مليون دولار، وتعلن النشرة في العدد 19عن قرض إضافي بين البنك المركزي التّونسي وبنك أوروبي يُقدّر ب 73 مليون يورو (اليورو يساوي 2,065 دينار تونسي)
وبالإضافة إلى هذه الدّيون التّي تمّت المصادقة عليها والتّي قد تضاف إليها ديون جديدة، فإنّ السّلطات التّونسيّة بصدد المفاوضة مع صندوق النّقد الدّولي على قرض ائتماني يقدّر بـ 2,7 مليار دينار، يؤكّد السّيد الشاذلي العيّاري، محافظ البنك المركزي التّونسي، أنّه لن يتمّ اللّجوء إليه «إلاّ في الحالة القصوى».
إلاّ انّ المتأمّل في قانون الماليّة الجديد، يمكن له أن يلحظ في الجزء الثّاني من فصله الثّالث أنّ مبلغ فوائد الدّين العمومي التّي يتوجب على تونس سدادها في سنة 2013 تقدّر بـ 1,36 مليار دينار، كما يبيّن الجزء الرّابع من الفصل نفسه أنّ مبلغ أصل الدّين المتوجّب سداده يُقدّر بـ 2,86 مليار. ما يعني أنّ النّهم الاقتراضي لسنة 2013 يفوق بـ 1 مليار دولار المبلغ المُخصّص لسداد الدّيون وفوائدها. كما أنّ هذا الباب يستأثر بسُدس نفقات ميزانيّة الدّولة لسنة 2013 (المقدّرة بـ 26,692 مليار دينار) وتتجاوز الاعتمادات المخصّصة له الاعتمادات المُخصّصة للاستثمار المباشر في نفقات التّنمية بما يقارب ملياري دينار.
حقيقة الديون التونسيّة
وفق نشريّة «وُرلد فاكتس بوك» التّي تصدرها وكالة المخابرات االمركزية لأميركيّة، يبلغ الدّين التّونسي 45,10 في المئة من النّاتج الدّاخلي الخام لسنة 2011، وتصنّفه في المرتبة 67 عالميّا. أمّا صندوق النقد الدّولي فيقدّره بـ 42,412 في المئة للسّنة نفسها ويصنّفه في المرتبة 84 عالميّا. ويعتبر محافظ البنك المركزي (خلال ندوة عقدها في بداية شهر شباط /فبراير2013)، أنّ حجم الدّين الخارجي «غير مُفزع» و أنّه «تحت السّيطرة»، ويتمّ استعماله «لإحداث قيمة مضافة للاقتصاد»، و يقدّره بـ46,1 في المئة من النّاتج الدّاخلي الخام. ويبيّن تقرير البنك المركزي عن الاستدانة الخارجية لسنة 2011 (صفحة 10) أنّ نسبته كانت تُقدّر في سنة2011 بـ 36,3 في المئة، و34,4 في المئة في سنة 2010، و 34,2 في المئة في سنة 2009. ألا يدعو قفز نسبة الاستدانة الخارجية بما يناهز العشر نقاط مئوية في ظرف سنة واحدة إلى القلق، خاصّة وأنّ الميزان التّجاري يواصل زيادة عجزه ليمرّ من 21,8 في المئة سنة 2008 إلى 24,8 في المئة في 2009، و26 في المئة في سنة 2010، وينخفض بنسبة طفيفة في سنة 2011 الى 25,5 في المئة، ليعود من جديد إلى الارتفاع سنة 2012 بنسبة تُقدّر بـ 30,5 في المئة.
إنّ مجمل عائدات الدّولة القائمة على الإنتاج وخلق الثّروات، وغير المتأتيّة من القروض والتّمويلات الأجنبيّة، غير قادرة على سداد أصول الدّيون وخدماتها، ما يُجبر الدّولة على الاقتراض من جديد من أجل سداد هذه الدّيون، ورفع عدم قدرتها المستقبليّة على سدادها، ممّا يحمل على الاعتقاد بأن نهاية سياسة الهروب إلى الأمام في مواجهة المديونيّة ستُفضي إلى كارثة اقتصاديّة.
لكن حقيقة الدّيون التّونسيّة تكون مُفزعة أكثر حين تُزال عنها المساحيق التّي تتعمّد المؤسّسات الماليّة وضعها على الأرقام لطمأنة الرّأي العام والمواصلة فيما لا تُحمد عقباه.
التلاعب بالأرقام
يلاحظ المتتبّع لأرقام الاقتصاد التّونسي عدم التّطابق في الأرقام بين جميع المصادر. فمعطيات صندوق النّقد الدّولي المتعلّقة بنسبة المديونيّة تختلف عن معطيات وكالة وورلد فاكس تبوك وعن معطيات البنك الدّولي وعن معطيات البنك المركزي التّونسي الذي تختلف معطياته أحيانا عن معطيات وزارة الماليّة. ففي النّدوة الصّحافيّة المذكورة أعلاه، والتّي صرّح فيها محافظ البنك المركزي أن نسبة المديونيّة تبلغ 46,1 في المئة من النّاتج الدّاخلي الخام، صرّح وزير الماليّة أنّ هذه النّسبة تبلغ 43 في المئة.
في عددٍ من الدّراسات الاقتصاديّة القيّمة التي أعدّها المحلّل الاقتصادي مهدي خوجة الخيل عن هذا الموضوع، انتقد طويلا شحّ الأرقام، وعدم التزام المؤسسّات الماليّة التّونسيّة بالشفافيّة في إصدار المعلومات. ومن خلال ما تيسّر له الحصول عليه من معطيات توصّل إلى الاستنتاج بأنّ مؤشّر النّاتج الدّاخلي الخام ومؤشّر الدّخل الوطني الخام لا يمثّلان مؤشّران موضوعيان و جديّان لقياس حجم المديونيّة. فهذان المؤشّران لا يبيّنان ثقل المديونيّة ويهمّشان خطورة فوائضها، بل إنّهما قد يحثّان على مواصلة الاستدانة. وباعتماده منهجا يَفصل بين أصل الدّين وبين فوائضه، توصّل الباحث إلى رصد وقْع المديونيّة على الاقتصاد التّونسي. ففي سنة 2009 مثلا، دفعت تونس مبلغ 8802,7 مليون دينار لسداد أصل الدّين ومبلغ 19623,9 مليون دينار لسداد الفوائض، بما يعني أن حجم الفوائض المتراكمة تجاوز ضِعفَ المبلغ المُسدَّد.
بلغ مقدار الدّين الخارجي الاجمالي التّونسي وفق معطيات البنك المركزي إلى حدود شهر حزيران/يونيو من سنة 2012 مبلغ 34636,9 مليون دينار. وإذا ما أضفنا ذلك إلى الدّين الدّاخلي لسنة 2011 والمُقدّر بـ 58612 مليون دينار، فإنّ المجموع يكون 93248,9 مليون دينار. أمّا إلى حدود شهر شباط/فبراير 2013، فإن الدّين التّونسي قد جاوز وفق ما صرّحت به إيفا جولي، عضو البرلمان الأوروبي، الـ 20 مليار يورو، أي ما يفوق الـ 40 مليار دينار. وبذلك تكون نسبة الدّين العام، الدّاخلي منه والخارجي، قد جاوزت الـ 150 في المئة من النّاتج الدّاخلي الخام.
دراسات مهدي خوجة الخيل شكّكت في أهمّ أرقام البنك المركزي التّونسي وفي تحليلاته لراهن الوضع الاقتصادي ومستقبله. ففي حين صرّح تقرير البنك المركزي عن المديونيّة لسنة 2010 أنّ الدّيون قصيرةُ المدى قد شهدت ارتفاعا يُقدّر بـ 4,1 في المئة وأنّ الديون بعيدةُ المدى شهدت تراجعا بـ 7,8 في المئة، أثبتت دراساته أن الأولى قد ارتفعت بين سنتي 2009 و 2010 بنسبة 7,49 في المئة والثانية بنسبة 4,18 في المئة. و بناء على هذه التّحقيقات، فإنّ المعطيات تشير إلى امكانيّة ارتفاع مخزون الدّين العام الخارجي في سنة 2020 إلى نسبة تتراوح بين 43 مليار دينار (39 في المئة) في أحسن الحالات و 57 مليار دينار (84 في المئة) في أسوأ الحالات. وسواء ارتفعت هذه النّسبة إلى أبسط مستوى مُرتقب لها أو أعلى مستوى، فإنها تقول أن الاقتصاد التّونسي غير قادر على سداد الدّيون قريبا.
فدوّامة المديونيّة هي أبعد من أن تكون مجرّد عملية اقتراض مالي، انّها سياسة محكمة تهدف إلى وضع الاقتصاد تحت السّيطرة واخضاعه لاملاءات سياسيّة يصبح بموجبها الاستقلال الاقتصادي عن الدّوائر المانحة مستحيلا. فالمديونيّة لا تقف عند حدود الاستغلال الفاحش للطّبقات الاجتماعية الأقلّ حظّا والاعتداء على مكتسباتها، بل تتعدّاها إلى التّهديد الصّارخ للسّيادة الوطنيّة. وليس أدلّ على ذلك من أن مديونيّة تونس في القرن التّاسع عشر قد كان أهمّ نتائجها وقوع «الحماية « وبداية الاستعمار المباشر.