اختصّ القضاء العسكري التّونسي بالنّظر في قضايا شهداء الثّورة وجرحاها استنادا إلى الفصل 22 من القانون الرقم 70 لسنة 1982، الذّي ينصّ على أن المحكمة العسكريّة تختص بالقضايا التّي يكون أعوان الأمن طرفا فيها. وهو ما ينطبق على جميع قضايا القتل والجرح التّي وقعت في تونس في الفترة الممتدّة بين 17 كانون الاول/ ديسمبر 2010 و17 كانون الثاني/يناير 2011.
هل القضاء العسكري قضاء استثنائيّ؟
في التّسعينيات، اعتبرت الأمم المتّحدة القضاء العسكري التّونسي قضاء استثنائيّا لا يحققّ شروط المحاكمة العادلة. إلاّ انّ وكيل الدّولة العام مدير القضاء العسكري، يعترض على ذلك ويوضّح أنه لا يمكن "بعد الثّورة نعت القضاء العسكري بالقضاء الاستثنائي أو القضاء الموازي"، ويعتبر أن المحاكم العسكريّة اليوم في تونس محاكم مختصّة والقضاء العسكري "منخرط تمام الانخراط في المنظومة القضائيّة الجزائيّة من خلال علنيّة الجلسات واحترام مبدأ المواجهة وضمان حقّ الدّفاع وتمكين المحامين من الوقت الكافي للاطّلاع على الملفّات وإعداد وسائل الدّفاع وخاصّة التّقاضي على درجتين"، مضيفا انّ المرسومين 69 و70 المؤرخين في 29 تموز/يوليو 2011 قد غيّرا جذريّا المنظومة القضائية العسكريّة وأنّه وقع الاستلهام من قوانين أخرى على غرار القانون السويسري والقانون الإيطالي، وتمّ اعتماد مبادئ إيمانو الديكو أستاذ القانون العام وعضو اللّجنة الفرعيّة لتعزيز وحماية حقوق الإنسان التّابعة للأمم المتحدّة.
لا تبدو هذه التّغييرات كافية لنزع الصّبغة الاستثنائية عن القضاء العسكري. فرئيس المرصد التّونسي لاستقلال القضاء، يعتبره قضاء استثنائيّا يطبّق أحكاما استثنائيّة، وكذلك أحد محامي مجموعة الـ 25 المتطوّعة للدّفاع في قضيّة شهداء الثّورة وجرحاها، يصنّفه كسلطة تنفيذيّة نظرا لارتباطه الهيكلي بوزارة الدّفاع، معتبرا القضاة العسكريّين "مجرّد موظّفين يطبّقون التّعليمات لارتباطهم بالسّلطة التّنفيذية إداريّا". و كذلك يذهب عضو آخر من مجموعة الـ 25 الى أن إدراج حقّ استئناف الحكم والقيام بالحقّ الشّخصي وجملة التّنقيحات الأخرى المدرجة لا تكفي لضمان محاكمة عادلة، مشيرا إلى العديد من التّجاوزات التّي انتابت المحاكمة في قضيّة شهداء الثّورة وجرحاها. أمّا الرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان، فقد ندّدت بمحاكمة المدنيّين أمام المحكمة العسكريّة باعتبارها محكمة استثنائيّة.
أمام هذا الجدل القائم حول أحقيّة القضاء العسكري وقدرته على النّظر في هذه القضيّة، يجدر التّذكير بأنّ تخلّي القضاء العدلي عنها في أيار/مايو 2011 قد قوبل بارتياح كبير نظرا للسّمعة السّيئة للقضاء العدلي واتّهامه بالفساد وبعدم الاستقلاليّة عن السّلطة التنفيذيّة وبالتّورّط مع النّظام السّابق، ممّا من شأنه أن يعيق مهمّة الكشف عن الضالعين في هذه الجرائم. إلاّ ان اختصاص القضاء العسكري بهذه القضيّة كان بدوره محلّ انتقادات كبيرة.
قضاء عاجز أم متورّط؟
"نحن عائلات الشّهداء المعتصمين أمام المحكمة العسكريّة بصفاقس منذ يوم عيد الفطر، وبعد اطّلاعنا على قرار ختم البحث لقضيّة شهداء وجرحى الّثورة بدقاش أدركنا بما لا يدع مجالا للشّك أن قاضيا لتّحقيق العسكري بصفاقس تعمّد تزييف الحقيقة وتشويهها وتجلّى هذا بوضوح في إصراره على إخفاء العديد من الوثائق وتجاهله شهادات على غاية من الأهميّة من شأنها كشف الحقيقة". هكذا وصف المعتصمون المحاكمة في الرّسالة التّي وجّهوها إلى كلّ من رئيس الجمهورية ورئيس المجلس التّأسيسي ورئيس الحكومة. الحقوقيّون بدورهم لم ينفكّوا عن إدانة سلبيّات عمل القضاء العسكري. ففي ندوة سبقت الجلسة الأخيرة لقضيّة شهداء مدينة القصرين في شهر أيار/مايو الفائت، صرّح رئيس الرّابطة التّونسيّة لحقوق الإنسان بأنّ الأبحاث في ملف شهداء الثّورة غير مكتملة وأنّ الاختبارات منقوصة. كما أدانت مجموعة الـ 25، أكثر من مرّة، عدم جدّية التّحقيقات وسطحيّتها وعدم السّعي إلى الحصول على الوثائق التّي من شأنها أن تكشف عن المجرمين. فالقضاء العسكري قد رفض، على سبيل مثال، طلب المحامين القائمين بالحقّ الشّخصي في تسخير شركة "اتصالات تونس" للحصول على كشف المكالمات الصّادرة والواردة على القادة الأمنيّين كما رفض طلب استجلاب دفاتر استلام وتسليم الذّخيرة والأسلحة المسجّلة بالوثائق الرّسمية الصّادرة عن المطبعة الرّسمية للأمن الوطني.
يَكون الأمر أكثر خطورة حين يُبقي القضاء العسكري على بعض المتّهمين الأساسيّين في قضايا القتل حرّا طليقا مباشرا لعمله، فإبقاء "متّهمين بحالة سراح وبقائهم في مناصب متنفّذة يمكّنهم من طمس معالم الجريمة والتأثير على الشّهود" مثلما صرّح بذلك أحد محامي مجموعة الـ 25. بل أنّ "منصف العجيمي"، أحد المتّهمّين بقضايا القتل، قد تمّت ترقيته في مناسبة أولى ليصبح مديرا عاما لقوّات التّدخّل، ثم تمّت ترقيته مرّة أخرى ليصبح مستشارا لوزير الدّاخليّة. ولم تستطع أيّة قوّة تنفيذ بطاقة الجلب التّي صدرت في حقّه.
تراكم السّلبيّات وتعدّد الاتّهامات الموجّهة إلى القضاء العسكري دفعا بعائلات الشّهداء إلى أنّ يسحبوا منه الثّقة التّي كان أهلا لها في بدايات الثّورة. الفاضل بالطّاهر، شقيق الشّهيد حاتم بالطّاهر، يعتبر أنّه لا توجد إرادة "لمحاكمة القتلة الحقيقيين بل هناك بحث عن أكباش فداء". البعض الآخر من عائلات الشّهداء يعتبر أنّ القضاء العسكري حاول الخروج من هذا المأزق الذّي وجد نفسه فيه بمحاولة تحويل قضيّة الشّهداء من قضيّة حقّ إلى قضيّة تعويضات. كذلك كان الأمر عندما أهدت الحكومة مئة فرد من عائلات الشّهداء إمكانيّة الحجّ مجانا، بعضهم، على غرار علي المكّي شقيق الشّهيد عبد القادر المكّي، اعتبرها هديّة ملغومة ورفض التمّتع بها.
والآن، مع بداية نظر المحكمة العسكريّة في قضايا شهداء الثّورة في طور الاستئناف، ومع تأكّد عائلات الشّهداء من فشل القضاء العسكري في مهمّته، يمكن أن تشتّد وتيرة الاحتجاج والبحث عن البدائل لقضاء يعتبره القليل من المعنيّين بالأمر عاجزا في حين يعتبره جلّهم متورّطا.
احتجاجات و مقترحات بديلة
"وحيث ان الأبحاث رغم جديتها فإنه قد تعذّر التّعرف الى هويّة من تعمّد من العناصر الأمنيّة الميدانية التّي ساهمت بمعيّة المتّهمين في قضيّة الحالفي إزهاق أرواح المتظاهرين أو حاولت ذلك بمدن تالة والقصرين والقيروان، واتجه بالتّالي لحفظ القضيّة موقتا في حقّ كل من سيكشف عنه البحث لحين التّوصل لمعرفته". هكذا ختم قاضي التّحقيق العسكري بمحكمة الكاف بحثه في قضيّة شهداء مدن تالة و القصرين وسيدي بوزيد والقيروان.
في تونس العاصمة، لوزارة الدّفاع ثلاث محاكم عسكريّة، ولم تختلف نتائج أبحاث قضاة التّحقيق في محاكم تونس وصفاقس عن نتيجة أبحاث قاضي التّحقيق بمدينة الكاف. جميع الأبحاث عجزت على التّعرّف على هويّة "العناصر الأمنيّة التّي ساهمت في إزهاق أرواح المتظاهرين". لعلّ ما دفع بعائلات الضحايا إلى التّصعيد هو تيقنّهم من غياب الإرادة السياسيّة لإرساء العدالة ومحاولة التّلاعب بها وأحيانا الضّغط على المطالبين بها لصدّهم عنها.
ففي شهر أيلول/ سبتمبر 2011، على إثر إفصاح أخوي الشّهيدين حلمي الشّنيتي وعصام عمري لقناة تلفزيّة بهويّة قاتل أخويهما، تمّ إيقافهما بطريقة تعسفيّة وتهديدهما. وكثيرا ما انسحبت عائلات الشّهداء من قاعات المحكمة وقاطعت ما وصفته "بمسرحيّة القضاء العسكري"، وكثيراً ما تجمّعوا احتجاجا، واعتصموا رفضا، واضربوا عن الطّعام وعقدوا النّدوات و لاجتماعات حتّى يعلم الجميع حقيقة ما يحصل. كثيرا ما تحوّلت قاعات المحاكم العسكريّة إلى غرف إسعاف لأمّهات الشّهداء ساعة سماعهم التّصريح بالحكم، وكثيرا ما اعتصمت هذه العائلات على عتبات المجلس التأسيسي أملا في العدالة. بعض النّواب بالمجلس التّأسيسي طالب رسميّا بسحب قضايا الجرحى والشّهداء من القضاء العسكري.
المختصّون في القانون، من المتابعين للقضيّة، أدانوا المنظومة القضائيّة الحاليّة، العسكريّة منها والعدليّة، واعتبروها غير قادرة على تكريس آليات العدالة الانتقاليّة، وطالبوا بتأسيس مُجمّع قضائي مختصّ تُعهد إليه قضايا شهداء الثّورة. هذا الطّلب بدوره لم يجد آذانا صاغية.
في لجنة المحامين الـ25، هناك من يطالب بضرورة اللّجوء إلى محكمة العدل الدّوليّة بسبب عدم رغبة وعدم قدرة القضاء العسكري في الوصول إلى الحقيقة وتكريس العدالة. كان من المفروض أن تكون العدالة بعد الثّورة عدالة انتقاليّة إلاّ أنها لا تعدو أن تكون، وفق وصف بعضهم، عدالة انتقائيّة. ففي تونس بعد الثّورة أصدرت السّلطات 197 مرسوما دخلت جميعها حيّز التّنفيذ بمجرّد نشرها في الرّائد الرّسمي، إلاّ المرسوم 69 المؤرّخ في 29 تموز/يوليو 2011 فلم يدخل حيّز التنفيذ إلاّ يوم 16 أيلول/سبتمبر. هل تعلمون لماذا؟ لأنّ هذا المرسوم، الذّي تقول وزارة الدّفاع انّه يُحوّل القضاء العسكري من قضاء استثنائي إلى قضاء مختصّ، أرادت له السّلطات ألا يدخل حيّز التّنفيذ إلاّ بعد انتهاء التّحقيقات في قضايا الشّهداء.
خلاصة القول، القضاء العسكري حين اختصّ بقضيّة شهداء الثّورة وضع نفسه في قفص الاتّهام. ليس له من خيار ثالث سوى الاعتراف بعدم رغبته أو بعدم قدرته على إرساء العدالة. في كلتا الحالتين، ستكون العدالة موضوعا للقرار السّياسي. فقط القرار السّياسي يمكنه السّماح بالإجابة عن سؤال: "من قتلهم؟".
صحافي من تونس