تونـس: هل تبخّر حلم الثورة؟

في عيدها الثاني، لم يحتفل التّونسيّون بالثورة بل أعلنوا الحِداد. خيّم الحزن وعمّت الحيرة. في مدينة سيدي بوزيد، مهد الاحتجاجات، خرج المواطنون من صمتهم ورفعوا نعوشاً رمزوا بها إلى موت الثورة. وفي مدينة القصرين، عاصمة الشّهداء، بعد تظاهرة «أسبوع الغضب»، تجمّع الجرحى وعائلات الشّهداء رافعين صور أبنائهم متسائلين عن العدالة. وكذلك كان الأمر في جلّ المدن الأخرى. ولئن حرصت وزارة
2013-02-06

أنيس منصوري

صحافي من تونس


شارك
في أحد شوارع العاصمة التونسية (من الانترنت)

في عيدها الثاني، لم يحتفل التّونسيّون بالثورة بل أعلنوا الحِداد. خيّم الحزن وعمّت الحيرة. في مدينة سيدي بوزيد، مهد الاحتجاجات، خرج المواطنون من صمتهم ورفعوا نعوشاً رمزوا بها إلى موت الثورة. وفي مدينة القصرين، عاصمة الشّهداء، بعد تظاهرة «أسبوع الغضب»، تجمّع الجرحى وعائلات الشّهداء رافعين صور أبنائهم متسائلين عن العدالة. وكذلك كان الأمر في جلّ المدن الأخرى. ولئن حرصت وزارة الدّاخليّة على إحلال الأمن وتجنيب الفرقاء السّياسيّين خطر المواجهة، فقد عجزت الحكومة عن حشد أنصارها، ولم تقوَ على إقناع المواطنين بالابتهاج.

لا فرق بين النظام البائد والنظام القائم إلاّ بالتقوى

النسق الثوري في تونس لم يتوقف بمجرّد الإطاحة ببن علي، بل تواصل رافعا شعارات الحريّة والشّغل والعدالة والكرامة. وهو تمكن من تحقيق توافق واسع على الحاجة لوقف العمل بالدستور القديم وإنشاء جمعية تأسيسية والإعلان عن المرحلة الانتقالية. ولكن الثورة تسير في الاتجاه المعاكس. فزبانية ما يحلو للبعض تسميته بالنظام البائد، أصبحوا الآن زبانية السلطة القائمة. أولئك الذين كانوا العصا الغليظة لنظام بن علي في وزارة الدّاخليّة وفي حزب التجمّع وفي وزارة العدل وفي قطاع الإعلام وفي جميع المجالات الاخرى... أمِنوا شرّ المحاسبة بمجرّد عرض مهاراتهم وخبراتهم على الحزب الحاكم. قد يكون ذلك أهمّ أسباب انتكاسة المسار الثوري في تونس. فالحكومات المؤقّتة المتعاقبة طوال سنتين لم تقطع مع نظام بن علي واختارت ترميمه والاختباء بحصونه عوض هدمه ومحاسبة القائمين عليه.
إنّ أهمّ خصائص الحكومة المؤقتة الحالية هو حرصها على البقاء في الحكم. فحزب النهضة لم يجعل في قائمة اهتماماته تحقيق مطالب الثائرين، بل عمد إلى مماطلتهم إلى حين إرساء بنيان حكمه، وإن كلّفه ذلك التّنكّر لمطالب الثورة واستنساخ معالم النظام القديم. فإضافةً إلى عدم محاسبة المجرمين، وعادة إدماج الفاسدين من رجال الأعمال والموظّفين والسّياسيين، ممّن دخلوا بيت الطّاعة النهضوي، بذلت الحكومة ما بوسعها حتى تبقى السّلطة التّنفيذيّة على حالها، وحتى تؤبّد تبعيّة السّلطة القضائيّة لها، وحتى تحُدّ من هامش الحريّة الذّي افتكّه حديثاً قطاع الإعلام. إذ لا فرق بين النظام البائد و النظام القائم إلاّ بالتقوى.

جهاز الدولة غنيمة

قد تكون الثورة مكّنت التّونسيّين من هامش غير معهود من حريّة التعبير، لكنها لحدّ الآن لم تحدث أيّ نوع من أشكال القطيعة مع الماضي. فالمتصفح في الرّائد الرّسمي للبلاد التونسيّة يلحظ الكمّ الهائل من قرارات التسميات الإداريّة، والمتأمّل فيها يكتشف خضوعها إلى منطق المحسوبيّة والمحاباة والمحاصصة الحزبيّة، وإلى العلاقات العائليّة والجهويّة، ممّا يجعل من جهاز الدّولة أشبه بالغنيمة التّي يتنافس المنتصرون على اقتسامها. أَلم يستمت الوزير الاوّل حمادي الجبالي في الدّفاع عن ابن اخته والي «سليانة» بقوّة الحديد والنار إمعاناً منه في فرضه في منصب لم يكن أهلاً له؟ ألم يحافظ حزب حركة النهضة على وزير خارجيّة فاجأ الجميع باعتقاده أن اسطنبول هي عاصمة تركيا وأن السيشيل مجموعة دول (وليس جزر)؟ ورغم عدم كفاءة هذا الوزير وتعدّد فضائحه، بما فيها إشاعات تتناول جوانب مالية، فقد آثرت النهضة المحافظة على صهر زعيم حركتها في منصبه. غيض من فيض، أعاد إلى الأذهان شبح «الطرابلسية» (أصهار الرئيس المخلوع)، وجعل التوانسة يبتدعون شعار «الشّعب فدّ فدّ من الطرابلسية الجُدد» (الشّعب ضاق ذرعاً بالطرابلسية الجدد).
لئن كان بن علي يعوّل على جحافل البوليس وطاعة القضاة في إرساء ديكتاتوريته، فإنّ النهضة أضافت إلى ذلك فتوّة «رابطات حماية الثورة»، تلك الميليشيات التأديبيّة التي تدافع عن الحزب الحاكم بقوّة العضلات، وسطوة الأئمّة، وما لديهم من سلطة الفتاوى. في تونس اليوم، تمتزج السّياسة بالدّين وبالعنف، في محاولة لإخراجها من دائرة الممكن إلى حيّز المقدّس. وما يمنع النهضة من السّقوط هو أساسا هالتها الدّينيّة.
كان من الصّعب، قبيل الثورة، أن يتوقع وصول حركة النهضة إلى الحكم. وقد أمكن لها ذلك بعد انتخابات 23 تشرين الاول/أكتوبر 2011، حيث لم تحصل على الأغلبيّة المطلقة، لكنّ تحالفها مع حزبي «التكتل من أجل العمل والحريّات» و«المؤتمر من أجل الجمهوريّة» مكّنها من تشكيل الترويكا، أو الائتلاف الثلاثي الحاكم. وكان يمكن توسم الخير في هذا الائتلاف. لكن تلاشى ذلك مع تزايد نسبة البطالة وارتفاع حجم المديونيّة والغلاء والتضخّم المالي والفقر. ويضاف الى ذلك إمكانيّة إعلان عجز ميزان المدفوعات في بداية شهر آذار/مارس المقبل بشكل يجعل من الأزمة الاقتصادية الحاليّة فرصة لصندوق النقد الدّولي لإملاء برنامج ثالث لإعادة الهيكلة، خاصّة أمام عجز الدولة عن مجابهة ظواهر الاحتكار والرّبا والتهريب وتقديم مخططّ اقتصادي واضح المعالم في المستوى الدّاخلي، وما يبدو من تسخير الاقتصاد الوطني لفائدة أطماع خارجيّة أوروبيّة وخليجيّة أساساً.
فتونس أصبحت اليوم تشكو تشتتها، ليس فقط بين الأحزاب المتصارعة داخل الترويكا وخارجها، بل كذلك بين الأجنحة المتناحرة في مقرّ حزب النهضة نفسه. لعلّ أزمة الإضراب العام الذي طرحه الاتحاد العام التونسي للشّغل كانت أفضل دليل على ذلك. فقد طرحت هذه الأزمة سؤال من يدير شؤون الحكومة اليوم، أهو رئيسها الفعلي حمادي الجبالي أم هو رئيسها المَخفيّ راشد الغنّوشي زعيم حزب حركة النهضة؟ وبذلك يُفلت جهاز الدّولة من هيمنة الشّخص الواحد ليقع ضحيّة صراع الأحزاب والأجنحة من دون أن يتمكّن من أن يصبح جهازاً للمؤسّسات.

الدولة والدولة الموازية

قد يبدو الأمر غير ظاهر للعيان، ولكنه ذو أهميّة بمكان ويمكن اختصاره في ثلاث نقاط: الأولى تمكين السلطات الدّينيّة من حيّز تشريعي هامّ يخوّلها الانتصاب كسلطة عليا مقدّسة تتمرّد في بعض المجالات على السّلطة التشريعيّة المنتخبة عن طريق المجلس الإسلامي الأعلى وفتاوى الأئمة. الثانية تمكين مسوّدة الدّستور الحاليّة من تشكيل جماعات مسلّحة غير تابعة لا لقوات الأمن ولا لقوات الجيش، ممّا يفتح المجال لوجود سُلطات تنفيذيّة غير تابعة لجهاز الدّولة. والثالثة تمكين الجمعيات الخيريّة من الحصول على تمويلات أجنبيّة قصد النشاط في المجال التعليمي والتربوي والأسري والصّحي والاجتماعي. هذه المعطيات مجتمعةً كفيلةٌ بخلق جهاز دولة داخل الدّولة، جهاز موازٍ له سلطته التشريعيّة والتنفيذيّة والماليّة.
وهذا الأفق هو ما يفسّر حرص حركة النهضة على حماية «رابطات حماية الثّورة» والمحافظة عليها رغم تورّطها في جرائم وصلت حدّ القتل واحتوائها على عناصر من النظام السابق، وإجراميّة مشهودة، وهو ما يفسّر تعاطفها مع دعاوى وفتاوى بعض الأئمّة ورجال السّياسة المطالبين بتطبيق الحدود وبالعمل بتعدّد الزّوجات وبتشريع الجواري، وصمتها عن جماعات لا هدف لها سوى «وهبنة» المجتمع، حتى وإن تطلّب منها ذلك إدخاله في حرب أهليّة أو اتلاف جزء هام من التراث الوطني.
تخبئ النهضة جهاز الدّولة الموازي للأيّام العِجاف، وهو يشهد أوّلاً على ازدواجيّة خطابها، وعزوفها عن مقولات الدّيموقراطيّة والحريّة والمدنيّة. وقد عزز هذا الشعور فيديو لقاء راشد الغنوشي بشيوخ السّلفيّة في تشرين الأوّل/اكتوبر الفائت، الذي يقول فيه إنّ الجيش والدّاخليّة والإعلام والإدارة غير مضمونين. ويشهد ثانياً على توّقعّ النهضة للهزيمة في الانتخابات القادمة، خاصّة أنها باتت عاجزة على الإبقاء على تحالفاتها السّياسيّة، وهو يخطر باستعداداتها لدرء ذلك.

رقعة الشطرنج

لم ينفكّ المشهد السّياسي التونسي عن التشكلّ وإعادة التشكّل. كان التحالف الثلاثي الحاكم أبرز مكوّنات هذا المشهد منذ انتخابات المجلس التأسيسي، ليس فقط لكونه التحالف الحاكم، بل كذلك لكونه تحالفاً يجمع بين إسلاميّين ويساريّين وقوميّين.
في مواجهة هذا التحالف، نشأت حركة «نداء تونس» بزعامة الباجي قائد السّبسي، الوزير الأوّل المؤقت السّابق. ويتهمها النهضويون بأنها مجال لإعادة تنظيم التجمعيّين من أنصار بن علي. بينما يصور أنصار نداء تونس الإسلاميّين كخطر على الدّولة المدنيّة. وتفرّد هذين الطّرفين بالسّاحة السّياسيّة يجعل التونسيّين الرّافضين لهما في خيار بين الطّاعون والكوليرا. وبين هذا وذاك نشأت «الجبهة الشّعبيّة» كتحالف لأحزاب اليسار وأقصى اليسار. انتشار ظاهرة الأحزاب التي فاق عددها المئة قبيل انتخابات المجلس التأسيسي، يقابله اليوم وجود تكتلات حزبية تنحصر في أقطاب ثلاثة. فالجبهة الشّعبيّة التي حافظت إلى حدّ الآن على تماسكها، رفضت التحالف مع حركة نداء تونس التي تضمّ بدورها مجموعات عديدة وتسعى الآن إلى التحالف مع حزبي «المسار» و«الجمهوري» لتشكّل بذلك جبهة ثانية، ينخرط فيها اللّيبراليّون والحداثيّون وبعض اليسار المصنف معتدلاً، وتعتبر نفسها المنافس الجدّي الوحيد للإسلاميّين. وفي حين تسعى النهضة إلى المحافظة على حليفيها الرئيسين، التكتل والمؤتمر، اللذين باتا يهدّدان في كل لحظة بالانسحاب رغبة منهما في الحصول على المزيد من الصّلاحيات، فإنها تعجز عن إبرام تحالفات جديدة حتى مع أحزاب اليمين الدّيني. رغم فشلها في المحافظة على شعبيّتها وفشلها في تسيير الدّولة، استطاعت النهضة المحافظة على ائتلافها السّياسي. ولكن هذا الائتلاف أضحى هو نفسه ضحيّة الفشل في امتحان الحكم وبات بقاؤه رهين تنازل النهضة عن الكثير من صلاحيّاتها وحقائبها الوزاريّة لفائدة حلفائها. وهذه المعادلة الصّعبة هي التي جعلت من التعديل الوزاري المرتقب منذ أسابيع عديدة صعب المخاض، خاصّة أنّ حلفاءها لا يرضون الآن بأقلّ من الوزارات السّياديّة.

هاجس الثورة من جديد

بعد عام ونصف العام من انتخابات المجلس التأسيسي، لم يعكف النواب بعد على مناقشة بنود الدّستور. ولم يعد يخفى أن صياغة هذا الدّستور أصبحت شبيهة بحِيل شهرزاد. فكلّما تأخّرت صياغته كلّما أضاف الائتلاف الحاكم بعضاً من الوقت لحكمه المؤقت، خاصّة أنّ لا تاريخ قد حُدّد للانتخابات القادمة. هل تعمد النهضة إلى ذلك ربحاً للوقت بُغية إتمام السّيطرة على مفاصل الدّولة، ما يتهمها به حليفها الأبرز، الرّئيس المؤقت المنصف المرزوقي، في نقده لتفرّدها بوزارات السّيادة وحرصها على تسمية أنصارها وسعيها لتكريس نظام سياسيّ يجعلها تنفرد بالحكم. ولكن هذا لا يعفي من حالة الغليان التي يشهدها الشّارع التونسي بصفة متواصلة منذ أسابيع عديدة. فمنذ أحداث سليانة على الأقلّ، لا يكاد يمرّ يوم من دون إضراب أو احتجاج أو مواجهة مع السلطات المحليّة.
فهل تستطيع الطبقة السّياسيّة إعادة أفق الثورة إلى العيان، وتجنيب الجميع إعادة انفجار البركان؟ الإجابة عن هذا السّؤال لا يمكن أن تتحدّد إلاّ بإضافة معطيين إلى المعادلة العامة: الأوّل داخلي وهو تموقع الاتحاد العام التونسي للشّغل الذي يبقى القوّة السّياسيّة والجماهيريّة الأولى في تونس، والثاني خارجي ويتمثّل في تداعيات الحرب على مالي وما قد يرافقها من تكريس لشبح الإرهاب المتطفل على السّاحة السّياسيّة في تونس.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه

تونس: المديونيّة والسيادة الوطنيّة

«إذا كان على رجلٍ دَين وخَرَّبَ إلهُ الأعاصيرِ حقلَهُ أوْ دَمَّرَه الفَيضانُ أوْ أنَّ الغلة لمْ تَنبتْ في حقلِهِ لِقلّةِ الماءِ. فَفِي هذه السّنةِ لا يُعيدُ الحُبوبَ التّي اقترَضَها إلى...

تونس: أين العدالة الانتقالية؟

اختصّ القضاء العسكري التّونسي بالنّظر في قضايا شهداء الثّورة وجرحاها استنادا إلى الفصل 22 من القانون الرقم 70 لسنة 1982، الذّي ينصّ على أن المحكمة العسكريّة تختص بالقضايا التّي يكون...