أطفال مغاربة يتلحّفون سماء إسبانيا

تقدر إسبانيا عدد المهاجرين المغاربة القصّر على ترابها بأزيد من 13 ألف طفل بدون مُرافق، وهم يمثلون حوالي 70 في المئة من مجموع القصر اللاجئين. ووفق القانون، فعندما يبلغ هؤلاء 18 سنة من العمر يحق لهم التمتع بالجنسية الإسبانية إذا مكثوا لمدة سنتين في مراكز الإيواء الموزعة إقليمياً.
2020-08-24

ريتا سليمان

كاتبة صحافية، من المغرب


شارك

مضت 11 سنة بالتمام على احتفاء الحقوقيين الإسبان بما اعتبروه وقتها "انتصار" المحكمة الدستورية الإسبانية لحقوق الطفل، بعدما أصدرت قراراً يمنع ترحيل المهاجرين القاصرين إلى بلدانهم الأصلية. غير أن هذا "الإنجاز" تحول مع مرور السنين إلى "نقمة" جعلت إسبانيا في مأزق كبير، وهي تحاول مواجهة سيل المهاجرين القُصّر الموجودين تحت رعاية الدولة، والذين هم في تزايد مستمر.

صدر ذلك الحكم في كانون الأول/ ديسمبر 2009 عندما أجهض المحامي الإسباني إغناثيو دي لاماتا عملية ترحيل طفل قاصر مغربي بحجة عدم وجود كفيل له، وهو في وضعية غير شرعية، منتزعاً اعترافاً من أعلى سلطة قضائية في إسبانيا، المحكمة الدستورية، مسجلاً أن القوانين الدولية لحماية حقوق الطفل هي المرجع الأصلي، وأن الجهاز القضائي الإسباني مجبر على توفير كل ضمانات الدفاع للمهاجرين القاصرين، والامتثال لقراراتهم سواء كانت بالمكوث في إسبانيا أو مغادرتها.

70 في المئة من المهاجرين القاصرين مغاربة

وتقدر إسبانيا عدد المهاجرين المغاربة القصّر على ترابها بأزيد من 13 ألف طفل بدون مُرافق. ووفق القانون، فعندما يبلغ هؤلاء القُصّر 18 سنة من العمر يحق لهم التمتع بالجنسية الإسبانية إذا مكثوا لمدة سنتين في مراكز الإيواء الموزعة إقليمياً.

وتشتكي مدن الجنوب الإسباني، وخاصة الأندلس، من ارتفاع عدد الأطفال المشردين الذين يبيتون في العراء، ويرفضون الاستقرار في مراكز الإيواء، التي أصبحت تستوعب ضعف العدد المخصص لها. كما طالبت الحكومة المحلية بمدينة مليلية المغربية (المحتلة من إسبانيا)، الحكومة الإسبانية بالتدخل من أجل إيجاد حل لمشكلة القاصرين المغاربة غير المصحوبين.

ويأتي الأطفال والقاصرون المغاربة في مقدمة المهاجرين القاصرين الذين نجحوا في عبور مضيق جبل طارق، بحثاً عن مستقبل يستعصي ضمانه في بلدهم. هناك حوالي 7 آلاف طفل مغربي يعيشون في مختلف مراكز الإيواء. أما سائر الاطفال فيجولون في شوارع إسبانيا. وهم يمثلون 70 في المئة من مجمل هذه الفئة الاجتماعية الهشة ويتعرضون لانتهاكات جسيمة، من تعنيف وسب وشتم، غالباً على أساس العرق أو الدين. وقد اتخذ المغرب الرسمي موقف "اللاموقف"، متجاهلاً المشكلة.

بحسب "العنف المؤسساتي في نظام حماية الطفولة" وهو تقرير حديث لمؤسسة "جذور" المهتمة بوضعية الأطفال في إسبانيا، فإن المهاجرين القاصرين المغاربة غير المصحوبين، هم أكثر الأجانب عرضة لسوء المعاملة في مراكز الإيواء الإسبانية لأسباب مرتبطة بالبلد الأصلي أو العرق أو الدين. ويُمنع هؤلاء القصّر من الدفاع عن أنفسهم قانونياً أمام المؤسسات المعنية، مما يجعلهم يعيشون تحت ظروف قاسية.

المقيمون في مراكز الإيواء يتابعون دراستهم، إلى حين بلوغهم 18 سنة. وعندها فيمكنهم مبدئياً الحصول على الإقامة مع شهادة ترخص لصاحبها البقاء والعمل داخل بَرّ إسبانيا، في حين يُلقى بالبقية، ممن لم يواظبوا على التعلم، إلى الشارع فيكون أمامهم مواجهة ظروف الاعتقال، أو التشرد، في انتظار أن يتخذ المغرب قراراً بإرجاعهم.

حقوقيون إسبانيون يؤكدون حجم الانتهاكات

وأكد عدد من الحقوقيين الإسبانيين أن ما يعانيه الأطفال المهاجرون من مختلف الجنسيات، وخاصة العربية والأفريقية "مخزٍ".

يقول الحقوقي إيغانسيو غونساليز إن الأطفال القاصرين "قادهم حلم واحد إلى بَرّ الفردوس الإسباني، وهو تحسين ظروفهم المعيشية والاجتماعية، غير أنهم واجهوا انتهاكات لحقوقهم، ومضايقات وعنفاً بمختلف أنواعه. ولا يسعهم الاحتجاج أو حتى اللجوء إلى الجمعيات الحقوقية والصحافة، ويفضلون طأطأة رؤوسهم تجنباً لإجلائهم إلى بلدانهم، والعودة إلى النقطة الصفر في مسار أحلامهم".

ويحمّل الحقوقيون مسؤولية ما يحدث للسلطتين الإسبانية والمغربية، اللتين لم تبذلا مجهوداً "محترماً" لإغلاق هذا الملف، بطريقة تضمن حقوق وكرامة هؤلاء الأطفال بل لجئتا إلى "المماطلة" في كل مرة.

العرق واللون والدين.. أسبابُ التنكيل

وكانت "مؤسسة جذور" المهتمة بوضعية الأطفال في إسبانيا، قد قدمت المساعدة منذ كانون الثاني/يناير 2016 إلى 537 طفلاً/ةً ومراهقاً/ةً أجنبياً غير مصحوب، مشيرة إلى أن 349 قاصراً من أصل هؤلاء اعتبروا أن حقوقهم انتُهِكت تحت وصاية أو حماية مراكز أو إقامات أو شقق إيواء تابعة لجهة مدريد.

وبحسب ما ورد في تقريرالمؤسسة الصادر حديثاً بعنوان "العنف المؤسساتي في نظام حماية الطفولة"، فإن المهاجرين القاصرين المغاربة غير المصحوبين، هم أكثر الأجانب عرضة لسوء المعاملة في مراكز الإيواء الإسبانية لأسباب مرتبطة بالبلد الأصلي أو العرق أو الدين. ويُمنع هؤلاء القصّر من الدفاع عن أنفسهم قانونياً أمام المؤسسات المعنية، مما يجعلهم يعيشون تحت ظروف قاسية.

ورصد التقرير 50 حادثة عنف واعتداء جسدي ونفسي ما بين تشرين الأول/ أكتوبر 2016 وحزيران/ يونيو 2020، تتناول 55 طفلاً وطفلة ومراهقاً، على يد حراس الأمن أو المربين أو العناصر الأمنية في مراكز الإيواء في جهة مدريد. يقول التقرير: "إن الأمر يتعلق بأطفال وطفلات تتراوح أعمارهم ما بين 12 و17 سنة، أغلبهم من المراهقين الذكور، الذين وصلوا إلى إسبانيا، وينحدرون من المغرب، ويخص بمعدلات أقل المنحدرين من غينيا والجزائر وغامبيا وجمهورية الدومنيكان والكاميرون".

يحمّل الحقوقيون مسؤولية ما يحدث للسلطتين الإسبانية والمغربية، اللتين لم تبذلا مجهوداً "محترماً" لإغلاق هذا الملف، بطريقة تضمن حقوق وكرامة هؤلاء الأطفال، بل لجئتا إلى "المماطلة" في كل مرة.

سليم البالغ من العمر 14 عاماً، روى تفاصيل رحلته صوب الفردوس الإسباني: "غادرت المغرب للعمل لكن لم أستطع تحقيق ذلك، ووجدت نفسي في قبضة مركز الاستقبال هنا في إشبيلية، وحراسه يضربوننا باستمرار''. مضيفاً: "تعبت، فكرت بالهروب من المركز، وحاولت أيضاً، لكن باءت محاولاتي بالفشل، كما أنهم يهددوننا بإرجاعنا إلى المغرب". سعيد مراهق هو الآخر، يبلغ من العمر 16 عاماً، يقول إن قدومه إلى إسبانيا لم يكن أبداً بالهين، فقد اضطر إلى سرقة ذهب والدته وبيعه، وأخذ هذه الأموال إلى أحد الأشخاص الذين ساعدوه في الهروب على متن قارب: "كان أمامي إما الموت وأن أكون طعاماً للسمك بعد انقلاب القارب المطاطي المهترئ، وإما أن أتجاوز بضعة أمتار، وأستقر في مرفأ أحلامي.. للأسف الحلم تحول إلى كابوس، فالحياة هنا ليست أفضل مما عشته في المغرب".

وعلى عكس الطفلين، قالت كريمة البالغة من العمر 11 سنة، وهي واحدة من الأطفال المغاربة الذين يعيشون في الشارع، أنها قدمت إسبانيا متخفّية على متن حافلة، وقررت "الاستقرار هنا، وإن كان في الشارع". تقول كريمة بنبرة خجولة: "أنا أعيش في الشارع منذ شهر تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، جائعة ولا أملك شيئاً، ولا حتى لحاف يقيني برد أوروبا، وأتعرض للمضايقات من طرف الأمن، والتحرش من بعض السكان خاصة من الجنسيات العربية.. أهرب منهم". وعن سبب رفضها الذهاب إلى مركز الإيواء، قالت إنها تعرضت لسوء المعاملة من طرف المشرفين عليه: "كانوا يجوّعوننا، ويهددوننا بإرجاعنا إلى المغرب، وهذا ما أرفضه تماماً، لذلك هربت".

وبخصوص الاعتداءات التي تعرض لها هؤلاء القاصرون، يحكي أغلبهم أنهم تلقوا "ضربات على كل أنحاء الجسم، ولكمات في الوجه والرأس، والركل والرفس على مستوى البطن والعنق، والضرب بـالعصي، بل حتى العض وشد الشعر والأذن أحياناً أخرى".

ممنوعون من التبليغ.. مأسسة العنف

ومن الآثار الأكثر بروزاً على هؤلاء الأطفال هي "الإجهاد الناتج عن الصدمة، والقلق العام، الشعور العميق بانخفاض احترام الذات، والتطبيع مع العنف من الناحية النفسية والكدمات والخدوش والانقباضات والألم والجروح والقيء الدموي والكسور على مستوى الذراعين"، بحسب تقرير مؤسسة "جذور".

ولم يتوقف الأمر عند الاعتداءات النفسية والجسدية، بل إن القاصرين غير المصحوبين الذين سعوا إلى التبليغ والتنديد بما يتعرضون له، واجهوا عراقيل عديدة من قبل المربين والمربيات والفريق المسيّر للمراكز، أو الإقامة التي يعيشون فيها. وحتى الأطفال الذين استطاعوا التواصل مع جمعيات مدنية، كذّب المربون رواياتهم، كما أنهم حالوا دون وضع شكاية تكشف عن الاعتداءات التي يتعرض لها هؤلاء الأطفال..

اتفاق ثنائي غامض بين المغرب وإسبانيا...

تريد الحكومة الإسبانية أن تعالج مشكلة المهاجرين القُصّر الأجانب، غير المصحوبين بذويهم، والتي تعد واحدة من أكثر المشكلات ترسخاً، والناشئة عن الهيئة التشريعية السابقة. اقترح وزير السياسات الاجتماعية، ألبرتو رييرو، في شهر تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي عقد اجتماع للتوصل إلى ما يمكن أن يكون أول اتفاق للسلطة التشريعية. وساهم كل حزب سياسي في إسبانيا برؤيته للمشكلة في "اجتماع استكشافي"، كما يقول رييرو الذي أكد أن الاجتماع هو "التشخيص الأول الذي وضعنا فيه هدفين: ضمان رفاهية هؤلاء الأطفال، والتي يجب حمايتها بموجب اتفاقية حقوق الطفل، وتحسين التعايش مع الجيران".

بدأت المفاوضات وبدت ناجحة مع تأكيد الاتحاد الأوروبي منح دعم مادي إضافي للمغرب بقيمة 140 مليون يورو لتحقيق المشروع. وأطلقت الحكومة الإسبانية، تجنباً للإحراج الحقوقي الدولي، على هذه العملية صيغة "العودة الطوعية"، مبرزة أنها لن ترحّل القاصرين الذين لا يرغبون بالعودة إلى المغرب، وأنها ستقوم بدراسة كل حالة على حدة.

من جهته كان المغرب قد أبرم اتفاقاً ثنائياً مع إسبانيا في 2007، من أجل مواجهة تنامي ظاهرة المهاجرين القُصّر الموجودين تحت رعاية حكومات إسبانيا الإقليمية، غير أنه يرفض في الوقت نفسه إرجاع أطفاله دون أن يبلغوا السن القانوني تحت مسمى احترام تشريعات الاتفاقيات الدولية التي تصادق عليها المملكة المغربية في حقوق الطفل.

ويتضمن الاتفاق الثنائي المذكور، والذي تم تفعيله في تشرين الأول/ أكتوبر من سنة 2012، تعهداً مغربياً بتحديد هوية القاصرين وعائلاتهم، وهو ما بدأ البلدان في دراسة تطبيقه في سنة 2019، غير أن روبرتو آباد، الذي يعد واحداً من أهم المدافعين عن حقوق المهاجرين القصّر بإقليم الباسك، يقول إن بنود هذه الاتفاقية غير معروفة، وكأنها "محاطة بنوع من السرية والغموض الذي يجعلها محطَّ استفهامات".

وكان البلدان قد عقدا مفاوضات متتالية بالتزامن مع الانتخابات التشريعية الإسبانية الأخيرة، خلاصتها أن عملية ترحيل القاصرين المغاربة غير المصحوبين بإسبانيا، ستنطلق عبر مراحل، في أفق ترحيل أكبر عدد ممكن من بين أكثر من 7000 قاصر مغربي يقيمون في مراكز الإيواء، ويتسكعون في الشوارع الإسبانية في كل من كاتالونيا في اسبانيا كما في مليلية وسبتة (المدينتين المغربيتين المحتلتين)، حيث يفترشون الأرض ويتلحّفون السماء.

وجاء ذلك بعد مفاوضات بين البلدين، إذ أن أعضاءً في الحكومة الإسبانية انتقلوا إلى الرباط لإقناع الحكومة المغربية، لكن هذه الأخيرة تجنبت في البداية التفاعل مع هذا المقترح قبل تقبّل الجلوس إلى طاولة التفاوض في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. وعن الأسباب التي جعلت الحكومة المغربية تتحفّظ في البداية على الدخول في مفاوضات مع الإسبان، يبدو أنها بسبب شكّها في الأعداد الحقيقية للقاصرين المغاربة.

وبدأت المفاوضات تشق طريقها نحو النجاح، مع تأكيد الاتحاد الأوروبي منح دعم مادي إضافي للمغرب بقيمة 140 مليون يورو لتحقيق المشروع. وتوجت تلك المفاوضات بعقد الاجتماع الأول بين ممثلين سامين للبلدين في مدريد، للشروع في إجراءات ترحيل القاصرين، فيما المنظمات الحقوقية الإسبانية والإقليمية والدولية، رفضت ترحيل القاصرين المغاربة الذين اختاروا الهجرة إلى إسبانيا. وقد أطلقت الحكومة الاشتراكية الإسبانية، تجنباً للإحراج الحقوقي الدولي، على هذه العملية صيغة "العودة الطوعية"، مبرزة أنها لن ترحّل القاصرين الذين لا يرغبون بالعودة إلى المغرب، وأنها ستقوم بدراسة كل حالة على حدة.

توقفت المفاوضات بسبب الانتخابات الإسبانية التي أفرزت فوز الحزب الاشتراكي بأغلبية نسبية، وتحالفه مع حزب "بوديموس"، نظراً إلى رفض الحزبين مبدئياً ترحيل الأطفال المغاربة المهاجرين، باستثناء من يرغبون في العودة طواعية إلى بلدهم.. وهي العودة التي يرفضها أولئك الأطفال، ليبقى مصيرهم "قيد المجهول" إلى حدود الآن.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...