شهادة: أنا أيضاً غريب في هذه المدينة

لم يمر أسبوعان على عودتي من مدينة مقديشو العاصمة، حتى تقاطرت الأنباء الصادمة عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف وزارة التربية والتعليم العالي والثقافة وسط العاصمة. صورة قائد قوة الأمن التي كانت تحرس المبنى، في نعوة على موقع للتواصل الاجتماعي، أعادتني لابتسامته واعتذاره منّا لأن رجاله مضطرون لأداء واجبهم الأمني في التفتيش والتدقيق قبل مقابلة الوزيرة. انقبض قلبي والتهبت عيناي بدمعة لم أستطع ذرفها
2015-05-05

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك

لم يمر أسبوعان على عودتي من مدينة مقديشو العاصمة، حتى تقاطرت الأنباء الصادمة عن الهجوم الانتحاري الذي استهدف وزارة التربية والتعليم العالي والثقافة وسط العاصمة. صورة قائد قوة الأمن التي كانت تحرس المبنى، في نعوة على موقع للتواصل الاجتماعي، أعادتني لابتسامته واعتذاره منّا لأن رجاله مضطرون لأداء واجبهم الأمني في التفتيش والتدقيق قبل مقابلة الوزيرة. انقبض قلبي والتهبت عيناي بدمعة لم أستطع ذرفها أو بلعها، فتبخّرت مكانها بعد أن ملّت حالة الحيرة التي سببتها مرارتها في جفوني المحمرة. هذا حدث مهم ينبغي أن أقف عنده طويلاً.
بالنسبة لي، أنا الصومالي من منطقة أخرى، ناهيك عن الأجنبي، تتمحور الفكرة الأولى عن مقديشو من خلال ما توفره التغطيات الإعلامية حول حالة الانفلات الأمني، والخوف من الوقوع ضحية لتفجير اعتباطي أو رصاصة طائشة. إلّا أنني ومنذ اللحظة الأولى لخروجي من مبنى القادمين، غمرني شعور غريب بالألفة والأمان، رسم على وجهي السخرية من مظاهر الوجود العسكري. شعرت بأن كل تلك الدشم والمتاريس والحواجز الموضوعة حول المطار، وفي الطريق منه وإليه، ليست سوى محاولة لإظهار وجود الخلل الأمني، الذي لم يكن له أثر في وجوه جميع من قابلتهم من سكان المدينة.
لكن القلق الأمني لم يترك لي برهة طويلة من الزمن لأستمتع بشوارع المدينة الجيدة، الصيانة في الجزء الذي كان فيه الفندق الذي نزلتُ به. كنتُ في محل يقدّم الحلويات مع مضيفتي وأصدقائها، ولم ننه الحلوى والقهوة حتى بدأت هواتف الجميع ترنّ تقريباً دفعة واحدة. أنا الوحيد الذي تأخر الاتصال به من قبل صديق. الجميع من رفقائي تحاشى إبلاغي بما يجري في شارع "مكة المكرمة". كانت محاولة لطيفة منهم لتجنيبي الشعور بالذعر، لأنني لستُ من العاصمة!
اتصال صديقي الدكتور محمود بي، يطمئن علي ويطمئنني، جعلني في صورة الموقف. على بعد 700 متر تقريباً من الفندق الذي أقيم فيه، لم يكن أحدٌ ممن كنت معهم أو قابلتهم يُظهر الشعور بالخوف أو القلق. فقط كان هناك محاولة لترتيب بقية اليوم ومشاويره حتى تكون بعيدة عن موقع التفجير الذي حدث في فندق "مكة المكرمة".
ملاحظة ذكية من صديق جعلتني أتجنّب الحديث تماماً مع أي أحد في الطريق إلى فندقي. شعوري بالكدر دفعني لأن آوي باكراً إلى غرفتي، والنوم قبل العاشرة ليلًا، على غير عادتي في السهر. لكن ضجيجاً متكرراً ومتقطِّعاً جعلني أقلق: كانت أصوات رشقات نارية وقذائف خمّنتُ أنها لمضادات الدروع طوال الليل.
في مساء اليوم التالي تعذّر لقائي بصديقي الطبيب، لكنه زارني في اليوم الذي يليه. أخبرني أنه عانى من ضربة شمس خفيفة لأنه كان يؤدي واجباته تجاه أستاذه البروفيسور الذي خسر أخته الدكتورة كما أن والدته أصيبت مما أدى لبتر ذراعها. شارك صديقي في مراسم دفن الدكتورة وذراع أمها معها (كما أتصوّر!).
في اليوم الثالث من بداية أحداث فندق "مكة المكرمة"، اتضح المزيد من التفاصيل حول كيفية اقتحام المهاجمين للمبنى بعد تفجير انتحاري، ودخول ستة مقاتلين من "حركة الشباب المجاهدين" مرتدين بزّات الجيش، واندفاع الكثير من النزلاء للقفز من نوافذ المبنى العالي فراراً، وشهادات بعض الناجين الذين تظاهروا بالموت بعد أن سقطوا وسط الجثث الغارقة في دمائها.. كل ذلك أعادني لواقع يغص بالمعاناة التي تعيشها تلك المدينة.
تحوّلت في عيوني بسمة طرقها النظيفة والمعبدة في إضاءتها الليلية الجميلة، إلى خواء يمور بأشباح خوف مبهم من المجهول، يجعل الإنسان يشعر بالقلق والغضب والكآبة، القلق من أن يكون مشتبهاً به لدى الأمن نتيجة لوشاية، أو لمجرّد كلامه بما لا يعجب رجل الأمن الذي يأمره بالترجّل للتدقيق الأمني، والرعب الصامت من أن يتعرّض للموت دونما سبب أو ثمن، فقط لأنه كان يحاول تناول فنجان قهوة طيّب أو قطعة كعك جيّدة في أي مكان.

 

للكاتب نفسه