اتصال من الحدود الإثيوبية - السودانية
أسرة "خديجة" تبحث عن ابنتها، مضى يومان بلا نوم، والاتصالات تنهال من الخليج وأستراليا وأوروبا وأميركا الشمالية، للاطمئنان على جدتها وأمها وتصبير أبيها. المصلون حتى، في مسجد الحي، تعتريهم حالة من السكون والشفقة. ومع مرور الوقت، يكتشف الجميع أنها ليست الوحيدة التي اختفت، فعدد من فتيات الأحياء المحيطة أيضا لم يعد لهن أثر. تلتقي الأمهات والآباء الخائفون من المجهول، ولا يستعيد الجميع بعضا من انفاسهم سوى بورود اتصال من رقم إثيوبي، لتتكرر التفاصيل ذاتها للمرة الألف. تتصل الفتاة قائلة إنها محتجزة في قرية على الحدود الإثيوبية - السودانية، وتؤكد أنها ليست لوحدها، فمعها زهرة وسعدة وآمنة ونعيمة، وأنهن بخير لكن يجب أن تدفع كل أسرة مبلغاً يتراوح بين بضع مئات من الدولارات وبضعة آلاف، ليقوم المهرب بإطلاق سراحهن بعد إدخالهن إلى الأراضي السودانية.
تبدأ حمّى الاتصال بالأقارب في كل مكان لافتكاك الفتيات بدفع المبالغ المذكورة، والبدء كذلك بالإعداد للمبالغ التي سيطلبها المهربون الآخرون على طول الطريق عبر الصحراء الكبرى، مرورا بليبيا وحتى الأراضي الأوروبية. والغريب في الأمر حقاً أن الجميع مقتنع أن الفتيات قد دخلن طريق اللاعودة، وأن أي محاولة لإثنائهن عن إكمال الرحلة تعني فقدانهن إلى الأبد!
الارتهان لدى الـ "مغفّه"
الـ "مغفِّه" (Magafe)، وهو الاسم الذي أصبح معتمداً لدى المجتمعات الصومالية للإشارة إلى تجار البشر المستفيدين من حمّى الهجرة غير الشرعية. الـ "مغفّه" سيّد الموقف وشريك في أرزاق جميع من يمتُّ بصلة بمراهق أو مراهقة قررا الفرار من وطنهما باتجاه الحلم القاتل ـ الهجرة إلى الغرب ـ هجرة لا فرق بين كونها شرعية أو غير شرعية، سيّان إن كانت برضا الجميع عبر تأمين كلفة السفر بجوازٍ مزوّر أو تأشيرة غير قانونية، أو كانت بأسلوب فرض الأمر الواقع الذي يبدأ بالاتصال الشهير من الحدود الإثيوبية - السودانية.
تنزف كل المدن والبلدات الصومالية من دون استثناء. والمفقودون من الفئات العمرية الشابة بالآلاف سنوياً، واللافت أن أعمار السالكين درب الارتهان لدى الـ "مغفّه"، لا تني تتناقص، والأسر تستمر في استجداء مساعدة الأسر الأخرى من العائلة ذاتها، أو تقوم ببيع ممتلكاتها لافتكاك الابناء والبنات من فخٍّ وضعوا أنفسهم فيه طواعية، لتكون المحصلة في حالات كثيرة، تعرّضهم لانتهاكات واعتداءات أو للقتل.
وحين النجاة من كل تلك الأهوال في البر، يأخذ البحر المتوسط حصّته من أسراب هؤلاء الذين اعتادوا أن يحلَّ لهم أحد مشاكلهم بمجرد اتصال هاتفيٍّ باكٍ، دون أن يدركوا أن مياه البحر لا يعنيها إن كانوا يستطيعون إجبار أهاليهم على تحويل ملايين الشلنات أو آلاف الدولارات، لو قررت أمواجه أنه لا مرور من هنا اليوم.
البحث عن الجذور والحل
تزايد الظاهرة جعل المجتمع الصومالي حيثما كان في حالة استنفار وجدل، للبحث في جذور المشكلة والحلول. وفي استطلاع للموضوع مع الفئة العمرية الشابة من الجنسين، أمكن فهم بعض جوانب المسألة: تقول "روضة سعيد الميوني" إنه على الرغم من كل شيء، فإن الكثيرين ممن يقومون بتلك المغامرة الخطيرة، إنما يسعون لتحقيق حياة كريمة لأسرهم وإن كان الثمن التضحية بالذات، عبر المرور بتلك التجربة المحفوفة بالتعرض للانتهاكات والإساءة وحتى الموت.
في حين تشير "فاطمة عبدي" إلى أنه ليس صحيحاً أن جميع من يقومون بتلك الرحلة الخطيرة يحملون تلك الأهداف النبيلة، خاصة أن منهم من يحتال للحصول على حق اللجوء دون أن يكون نازحاً أو مضطراً للجوء، على عكس ما هو الحال لدى أبناء الأقليات والمناطق المنكوبة من الصومال، إذ إن الذين يعانون بالفعل إنما هم العاجزون عن الحركة خارج البلاد، لأنهم من الفقر بمكان بحيث لا يستطيعون دفع التكاليف الباهظة التي يطلبها مهربو البشر (الـ "مغفه"). وهكذا فإن سلوك نسبة معتبرة من أولئك المغامرين والمغامِرات إنما يبعث على الامتعاض والضيق، خاصة أنهم يمارسون الكذب وينقلون صورة غير صحيحة عن واقعهم في كل مرحلة من مراحل رحلتهم بينما دوافعهم لا تتجاوز الرغبة في حياة مريحة ضمن دول الرعاية الاجتماعية.
ويضيف السيد "محمد أحمد علي" انه من خلال تعامله مع الفئات العمرية الشابة، نظراً لعمله في مجال تقنية المعلومات والوسائط المتعددة، يرى أن هناك نزيفا حقيقيا في الموارد البشرية والاقتصادية، في ظل مجتمع لا يقدر المواهب ولا يشجّع الشبيبة على الصبر والمثابرة لتحقيق الأهداف بالتدريج. وتؤكد فكرته تلك "أمل يونس" التي تعزو ازدياد الظاهرة إلى ازدياد المتخرجين والمحسوبية في التوظيف والتعيين، وكذلك إلى ما يروّجه المهاجرون الذي نجحوا في الوصول إلى الغرب من أنهم حققوا هدفهم في الحياة المنعمة التي يعيشونها في تلك البلدان، وما يرسمونه في أذهان مَن خلّفوهم في الوطن مِن صور وهمية للثراء والسعادة (بخلاف الواقع الفعلي الذي يعيشونه في بلاد الهجرة، والأمر يخضع للمكابرة أو للرغبة في نقل العدوى والتوريط، تماما مثل المدخن أو الحشاش الذي يلح على أصحابه لتقليده).
وتضيف "فاطمة علي" ان الأوضاع السيئة للناس في البلاد تصيب الإناث أكثر، نتيجة لتهميشهن واعتبارهن أقل من نظرائهن من الذكور، مما يزيد لديهن من دوافع الهرب.
وتعتبر أن المشاكل في بنية المجتمع، من حيث قلة فرص العمل الوظيفي، والفساد المالي والإداري الناجم عن القبلية السياسية، تؤدي إلى أن لا يصل من موارد البلد إلى مواطنيه سوى "الفتات"، بالإضافة إلى حالة الاستنفار الداخلي الدائمة والافتقاد للأمان، بحيث يزداد الضغط على من يرغب في تأمين حياة أفضل، ما يؤدي إلى النفور من الوطن جملة واحدة والبحث عن وطن بديل.