الأرض والسلطة السياسية: السياسات الزراعية في المغرب

مع استقلال المغرب، برزت طبقة اجتماعية من الملاكين، أرادت لنفسها أن تكون وريثة المصالح الاستعمارية القديمة على الأرض. وكان عليها بالتالي التشبث ببنى السلطة والتسيير الموروثة من المرحلة الاستعمارية، مما يفسر دوام التهميش في المناطق الزراعية إبّان المرحلتين.
2020-08-20

المختار منودي

باحث من المغرب


شارك
علي طالب - العراق

"هؤلاء هم المستعمرون الجدد!". هذه الجملة سجلها الأنثروبولوجي "كليفورد جيرتز" حينما كان يقوم بتدوين ملاحظاته حول الملاّكين المغاربة للمزارع الاستعمارية في جنوب مدينة فاس. وهي الملاحظة التي تدفعنا إلى التساؤل التالي: لماذا فشلت كل السياسات الزراعية، منذ الحقبة الاستعمارية إلى الآن، في تغيير جوهري للثنائية الزراعية التي خلّفها الوضع الاستعماري في التشكيلة الاجتماعية المغربية؟ وما نقصده هنا بالثنائية الزراعية، هو تلك الثنائية التي استحكمت وما زالت تستحكم بالبنية الزراعية في المغرب، والتي تعبر عن نفسها بوجود نمطين متناقضين من استغلال الموارد الطبيعية والإنسانية، متعايشين في بنية واحدة. أي حالة التعايش المتكافئ بين الزراعة التقليدية والزراعة الرأسمالية في بنية واحدة من الإنتاج الزراعي. والتساؤل مزدوج، يبحث أساساً في أسباب هذا التعايش وظروفه التاريخية، ويسائل في آن، تاريخ السياسات الزراعية في المغرب منذ "المخطط الخماسي" إلى غاية "المخطط الأخضر".

ميلاد المسألة الزراعية و"المخطط الخماسي الأول"

في السياق الاستعماري، لم يكن للعالم القروي، وللمسألة الزراعية في المغرب أهمية تُذكر. كانت الزراعة بالنسبة إلى المستعمرين الأوروبيين هي جوهرياً زراعة المستعمِر، أما العالم القروي المغربي فلم يكن بالنسبة لهم إلا مجالاً فولكلورياً ينظّم فيه رجال السلطة المركزية (خاصة القادة) حفلاتهم الفخمة. أما برجوازية المدن، كفاس ومراكش على سبيل المثال، فلم ترَ في القرية سوى مرادفاً للفقر. وبالتالي فلم تُطرح المسألة الزراعية في المغرب كقضية سياسية إلا بعد موجات الجفاف والمجاعة التي عصفت بالمغرب في أعوام 1945/1946. ولعل كل دراسة جادة للمسألة الزراعية في المغرب تقتضي تفحص التحقيقات التي قام بها مفتشو "ضريبة الترتيب" (1) الزراعية الذين كانوا في غالبيتهم مهندسين زراعيين، وذلك لمعرفتهم الدقيقة بوضع الفلاحين، وبطبيعة الاستعمار، وبثراء الملاكين المقيمين بالمدن وطبقة "القيّاد" المحليين. فعلى سبيل المثال، كان مفتشو ضريبة الترتيب يقومون كل سنة بجرد وضع الإنتاج الزراعي الذي على أساسه تتم عملية انتزاع الضريبة. لهذا، وكما سبق ل "جريجوري لازاريف" أن لاحظ ذلك، فأن أرشيف "الترتيب" هو ذاكرة المسألة الزراعية في المغرب (2).

ومن الضروري كذلك هنا العودة إلى جاك بيرك لأنه كان المنظر لسياسات النمو والتحديث القرويين في المغرب منذ منتصف سنوات الأربعينيات من القرن الماضي. لقد كان من الضروري إذاً، وحتى يتحقق النمو المرغوب، تطوير التقنيات الزراعية، وتغيير الشروط الوجودية والاجتماعية للمزارعين. لقد تعرض مشروع "جاك بيرك" و"جوليان كولو"، الهادف إلى خلق مجالات لتحديث المزارعين، للهجوم من قبل السلطات الاستعمارية. حتى أن بعض النقاد نظروا إلى هذا المشروع، وكأنه محاولة لتطبيق سياسة "الكولخوزات" السوفياتية على المغرب. في حين أن غرض جاك بيرك لم يكن سوى التحديث التقني للوضع الزراعي والفلاحي في المغرب.

بعد الاستقلال، اتخذت سياسات التحديث التقني اسم "عملية الحرث". لقد أرادت الدولة من خلال "عملية الحرث" إظهار حضورها الإيجابي في البوادي. ولكن العملية لم تؤدِ إلا إلى زراعة تقليدية ميكانيكية. لقد تخلت عن فكرة تجميع الفلاحين القاطنين بدوار واحد، أو في دواوير مختلفة ضمن مجموعات إنتاجية جماعية متوفرة على الخدمات العامة الأساسية مثل الصحة، المدرسة الخ. كما أنها لم تهتم بخلق بنى جديدة لتسيير المجالات الزراعية.

تتكون الثروة العقارية الزراعية في المغرب من 9.2 مليون هكتار صالحة للزراعة، 21.1 مليون هكتار من أراضي مسار، 8.8 مليون هكتار من الغابات، و32 مليون هكتار من الأراضي غير المزروعة، وبالتالي ما مجموعه 71 مليون هكتار.

المنعطف الحاسم في تاريخ السياسات الزراعية كان ميلاد المخطط الخماسي الأول الذي أطلقه وزير المالية والاقتصاد عبد الرحيم بوعبيد (الذي كان وزيراً من سنة 1955 إلى غاية سنة 1960 في ظل الحكومات الأربع الأولى في تاريخ المغرب المستقل، ونعني هنا حكومتي البكاي، حكومة بلفريج وحكومة عبد الله إبراهيم).

في الفقرة المختصة بالزراعة ضمن هذا المخطط، كان الاهتمام واضحاً بضرورة تطوير تقنيات الري الجديدة والبنى التحتية في العالم القروي، كذلك تهيئة نقاط الماء والأسواق القروية، بالإضافة إلى توفير دعم مالي للخدمات البيطرية في البوادي، وكذا لعمليات القضاء على الجراد. كان غرض عبد الرحيم بوعبيد الأساسي من هذه الفقرة المختصة بوضع الزراعة في مغرب ما بعد الاستعمار، البدء بوصف دقيق للقرى في المغرب، وإظهار التأخر الحاصل في الزراعة التقليدية والعوائق التي تحول دون تحديثها، أي رأسملتها. من هذا المنظور، لا بد للزراعة أن تتطور لتتمكن من توفير الحاجيات الضرورية للسكان، والزيادة في التصدير والاستفادة من الفائض الذي سيمكّن من تطوير الأنشطة الأخرى الثانوية للاقتصاد. هذا هو أساس مشروع الإصلاح الزراعي في المخطط الخماسي الأول، وهو في عمقه يعكس على نحو جلي الفكر الاقتصادي التقدمي لتلك الحقبة، خاصة أفكار "شارل بتلهايم" حول التخطيط الاشتراكي، وعن أهمية الزراعة ودورها في توفير الفائض الضروري لتطوير المجالات الاقتصادية الأخرى. ولكي يكون للإصلاح الزراعي تأثير قوي، كان من الضروري الاستناد إلى معرفة دقيقة بالبنى الزراعية، وأشكال الملكية السائدة حتى تتم عملية إعادة توزيع أراضي الاستعمار، وتحديث الوضع القانوني للأراضي الجماعية. إذاً كانت المهمة مزدوجة، فمن جهة كان يراد للإصلاح الزراعي أن يكون مدخلاً لتحديث الزراعة التقليدية، والتأسيس من جهة أخرى لزراعة اجتماعية تأخذ بعين الاعتبار وضع الفلاحين حتى تتم عملية إدماجهم في الاقتصاد الوطني.

لكن النظام السياسي الملكي كانت له آراء أخرى فيما يخص هذا المخطط الخماسي الأول. لم يكن الوقت قد حان بعد من وجهة نظر رئيس الحكومة ووريث العرش، الحسن الثاني، للقيام بمخطط إصلاح زراعي. وفي مقابل ذلك، أعطيت الأولوية إلى التصنيع، خاصة كل ما يتعلق بالصناعة الوطنية للأسلحة. ففي الوقت الذي كان فيه المخطط الخماسي الأول يؤسس لسياسات تعطي الأولوية للتوفير الوطني، كان التغيير الذي ألحقه النظام السياسي بهذا المخطط يعطي الأولوية للرساميل الخارجية. ولعله من الواضح، انطلاقاً من تجربة المخطط الخماسي، التناقض بين بنية النظام السياسي القائم، وضرورة حل المسألة الزراعية. وقد سبق للمهدي بن بركة، الذي كان حينها منفياً، أن لاحظ التحول السياسي الذي طرأ على مخطط الإصلاح الزراعي، بعد التغييرات التي ألحقت على المخطط الأصلي، مما دفعه إلى كتابة نص عن المسألة الزراعية ما زال يحمل طابعاً راهنياً: "شروط إصلاح زراعي حقيقي في المغرب" (3) . في هذا السياق، كانت الولادة العسيرة للمسألة الزراعية في المغرب. ولكنها ولادة تميط اللثام عن الطبيعة الإصلاحية السياسية في البلاد، وعن العائق البنيوي الذي يحول دون تجاوز الثنائية الزراعية، أي البنية السياسية للحكم. إن ما ميز حكومات المغرب المستقل الأولى (1956/1959) هو الإصلاحية الاقتصادية. كانت القناعة السائدة آنذاك، في أوساط المثقفين الإصلاحيين، أن الإصلاح الاقتصادي سيؤدي على نحو تراكمي إلى تحويل سياسي في بنية نظام الحكم. وكانت هذه القناعة تُصفع دائماً من قبل نظام الحكم السياسي نفسه.

مشروع سبو

سنة 1963، قامت الحكومة المغربية، بشراكة مع منظمة الأمم المتحدة من أجل التغذية والزراعة، بمجموعة من التحقيقات والدراسات حول العالم القروي بالمغرب، أريد لها أن تقوم بدور المهيئ الهيدروليكي (التسيير والعناية بمجالات المياه) لحوض سبو ولسهول الغرب. ولقد أريد أيضاً لهذا المشروع أن يهتم بمشاكل النمو في كل جهات الحوض، الذي تبلغ مساحته أربعين ألف كلم مربع. إن الفكرة المهمة في هذا المشروع كانت تخص تنظيم الأراضي والإصلاح الزراعي انطلاقاً من القرية كقاعدة أساسية للإصلاح.

أراد إذاً "مشروع سبو" من خلال برنامج المقترحات الذي قدمه، إعادة الاعتبار إلى الآمال والأهداف التي وضعها كل من "جاك بيرك" من خلال مجالات تحديث المزارعين، وكذلك مشروع "عملية الحرث"، لكن هذه المرة في ظل ظروف سياسية، اقتصادية واجتماعية مختلفة. تجسدت هذه المقترحات من خلال فكرة الانطلاق من تجميع مشترك للأراضي يضم أراضي المزارع الكولونيالية، بالإضافة إلى تطوير وسائل الإنتاج، خاصة من خلال الري. هذه المقترحات تعرضت للرفض (خاصة ما يخص منها استعادة أراضي المزارع الكولونيالية) من قبل وزارة الداخلية التي كان يترأسها آنذاك الجنرال أوفقير.

سعى المخطط الخماسي الأول، 1955-1960، الذي تبناه وزير المالية والاقتصاد عبد الرحيم بو عبيد، إلى الإصلاح الزراعي استناداً إلى معرفة دقيقة بالبنى الزراعية وأشكال الملكية السائدة، تمهيداً لإعادة توزيع أراضي المستعمرين، وتحديث الوضع القانوني للأراضي الجماعية.

كان الاهتمام واضحاً بضرورة تطوير تقنيات الري الجديدة والبنى التحتية في العالم القروي، كذلك تهيئة نقاط الماء والأسواق القروية، بالإضافة إلى توفير دعم مالي للخدمات البيطرية في البوادي، ولعمليات القضاء على الجراد.

تكررت الظاهرة وما زالت تتكرر، وذلك لوجود نمط من الاستمرارية بين الحقبة الاستعمارية ومرحلة الاستقلال. فبمجرد ما تتم مساءلة التوزيع القائم للأراضي، وقضية الوضع القانوني للأرض من قبل مشروع إصلاحي ما، سواء إبّان الاستعمار أو بعده، تواجه الطبقة السياسية ذلك بالرفض. فمع الاستقلال، تشكلت طبقة اجتماعية من الملاكين، أرادت لنفسها أن تكون وريثة المصالح الاستعمارية القديمة على الأرض. وبالتالي كان عليها التشبّث ببنى السلطة والتسيير الموروثة من المرحلة الاستعمارية، مما يفسر دوام التهميش في المناطق الزراعية إبّان المرحلتين.

لم يحقق "مشروع سبو" سوى الأهداف التي تخص البنى التحتية الهيدروليكية في المنطقة. أي كل ما يخص بناء السدود في غرب البلاد (سد إدريس الأول، وسد الوحدة اللذان يعتبران أهم السدود التي حققها مشروع سبو). ولكن الأهداف الأخرى، من قبيل إعادة توزيع الأراضي، وخلْق تنظيمات في البوادي تعبّر عن الفلاحين والمزارعين، والقضاء على التهميش الذي يعيشه الإنتاج الزراعي الصغير، لم تتمكن من رؤية النور. لماذا؟ لقد رفضت السلطات تحويل أراضي الاستعمار، وأراضي الدولة إلى أراضٍ جماعية. السلطات نفسها لم تقم بأي رد فعل تجاه تحويل أراضي الاستعمار الخاصة إلى المشترين المغاربة. لم يتوسع إذاً مجال الأراضي ذات الملكية الجماعية لرفض السلطة السياسية لعملية تحويل أراضي الاستعمار الرسمي والخاص إلى ملكيات جماعية. مما عمق من التهميش الذي كان يعيشه الإنتاج الزراعي الصغير.

الحق في الأرض

كانت المياه تاريخياً معطًى محورياً في المناطق القاحلة والصحراوية منذ أقدم العصور، في حين لم تصبح الأرض ثروة نادرة إلا بتفوق الزراعة على تربية المواشي. ونعني هنا الأسس القانونية المؤسسة لسياسات تعمير واستعمار الأرض، أي مختلف أشكال الملكية القانونية التي تُشكّل في المغرب أساس استغلال الأرض. إن الحق على الأرض، أو الإجابة عن التساؤل: من يملك الأرض في بلد ما؟ هو الشرط الأولي والرئيسي في كل إصلاح زراعي.

تتكون الثروة العقارية الزراعية في المغرب من 9.2 مليون هكتار صالحة للزراعة، 21.1 مليون هكتار من أراضي مسار، 8.8 مليون هكتار من الغابات، و32 مليون هكتار من الأراضي غير المزروعة، وبالتالي ما مجموعه 71 مليون هكتار. تستحكم في هذه الأراضي أنماط قانونية متعددة ومختلفة. فالأراضي الزراعية تنتمي إلى خمسة أنماط قانونية: نمط الملكية الخاصة، نمط الملكية الجماعية (أي النمط السائد في الأراضي القبلية، والذي يعطي حق استخدام الأرض لمجموعة محددة)، نمط الحبوس أو الوقف (وهي الملكيات التي تسيرها وزارة الأحباس والأوقاف الإسلامية، وهي لا تباع ولا تعطى كما أنها لا تورّث)، نمط الكيش، (أي النمط الذي يخص الأراضي التي منح سلاطين وملوك المغرب حق الانتفاع منها إلى التجمعات القبلية التي تحارب في صفها)، ونمط ملكيات المجالين الخاص والعام للدولة.

كان للنظام السياسي الملكي رأي آخر بما يخص المخطط الخماسي الأول. فرئيس الحكومة ووريث العرش، الحسن الثاني، اعتبر أن الوقت لم يحن بعد للقيام بإصلاح زراعي. وفي مقابل ذلك، أعطيت الأولوية إلى التصنيع، خاصة لكل ما يتعلق بالصناعة الوطنية للأسلحة.

نُفّذ الجانب التقني الهيدروليكي من مشروع سبو، ورُفض الجانب المتعلق بمساءلة التوزيع القائم للأراضي وقضية الوضع القانوني للأرض. وكان ذلك هو مصير أي مشروع إصلاحي سواء إبّان الاستعمار أو بعده. وهناك لهذه الجهة استمرارية بين الحقبة الاستعمارية ومرحلة الاستقلال.

لم يتمكن المغرب المستقل من تعميم نظام موحد لتسجيل ملكية الأرض. وهذه الظاهرة هي من الظواهر المميزة للبنى الاجتماعية الكولونيالية، والتي تساهم في خلق تعتيم أيديولوجي حول الوضع العقاري، وانتقائية فيما يخص التمتع بالحقوق المعترف بها. هذه الوضعية تخدم أساساً مصالح الطبقة الاجتماعية المهيمنة، فهي تمكّنها من إدامة التهميش، وعدم الاستقرار فيما يخص الحقوق التقليدية للفلاحين والمزارعين المتوسطين والصغار. تقودنا الثنائية الزراعية إلى الثنائية العقارية التي تتسم أساساً بطابع مزدوج. فهي من جهة تدافع وتحمي الملكية الخاصة الرأسمالية الحديثة بضمان التسجيل في التحفيظ العقاري (السجلّ العقاري)، ومن جهة أخرى، تمكن بنى عقارية تنتمي إلى أنماط إنتاج اجتماعية سابقة من الاستمرار، قابلة للاستغلال من قبل أفراد الطبقات المهيمنة في المجتمع على حساب الفئات الفقيرة. الإبقاء على هذا الوضع من قبل المخططات الزراعية لم يكن يعني سوى أن السلطة السياسية تستغل قضية الأرض، التي هي قضية مركزية وحيوية للفلاحين المتوسطين والصغار، من أجل إدامة التوازنات الاجتماعية التي تخدم مصلحتها في البوادي. مما جعل الفلاحين الصغار في تبعية مطلقة لجهاز الدولة، وللفئات الأرستقراطية الزراعية.

منذ الحكومة العاشرة المعينة في شهر حزيران/ يونيو 1965، إلى غاية الحكومة العشرين المعينة في آب/أغسطس 1992، راقب العالم القروي تتابع عشرة وزراء للقسم الوزاري المختص بالزراعة والإصلاح الزراعي، والذي كان من وظائفه الأساسية تنمية البوادي من خلال الحد من الفوارق الاجتماعية. وعلى طول هذه المرحلة تخلت السلطة السياسية عن سياسات الحد من الملكيات وتوزيع الأراضي.

ومع ذلك ظلت الوزارة تسمي نفسها "وزارة زراعة وإصلاح زراعي" إلى غاية مجيء الوزير التكنوقراط عبد العزيز مزيان بلفقيه سنة 1994 لتتم إزالة كلمة "إصلاح زراعي" بالمطلق، ولينتصر في النهاية مبدأ الواقع على مبدأ الوهم. لم يعد تدّخل الدولة في المسألة الزراعية يتعدى المسألة التقنية والقرض الفلاحي.

مخطط المغرب الأخضر

منذ منتصف العقد الأخير، نرصد سياستين طرحتا قضية التنمية القروية والزراعية على المدى البعيد. السياسة الأولى تخص "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" أما الثانية فتخص "مخطط المغرب الأخضر". قدمت السياسة الأولى نفسها على أساس ضرورة الحد من الفقر في الأوساط الحضرية والقروية في الوقت نفسه، مع إعطاء الأولوية للأحياء والمناطق المهمشة. أما "مخطط المغرب الأخضر" فركّز على ضرورة تطوير الإنتاجية في الأوساط القروية التي تسمح بنيتها بتطوير الإنتاجية ورفعها، والتي ستتمكن من الاستفادة من استثمارات خاصة تسمى في لغة المخطط استثمارات "العمود 1". ومن جهة أخرى شدد على ضرورة دعم وتحسين البنى الجبلية والواحات المهمشة من خلال "العمود 2". تدخل السياسة الأولى ضمن نطاق مسؤوليات وزارة الداخلية، أما الثانية فتدخل ضمن اختصاصات وزارة الفلاحة.

سنة 1963، قامت الحكومة المغربية، بشراكة مع منظمة الأمم المتحدة من أجل التغذية والزراعة، بدراسات حول العالم القروي بالمغرب أريد لها أن تقوم بدور المهيئ الهيدروليكي لحوض سبو، ولسهول الغرب التي تبلغ مساحتها 40 ألف كلم مربع. الفكرة المهمة للمشروع كانت تخص تنظيم الأراضي والإصلاح الزراعي انطلاقاً من القرية كقاعدة أساسية للإصلاح.

الأساس الفلسفي لمخطط المغرب الأخضر هو النظر إلى المسألة الزراعية من خلال النموذج التقني للمزارع الرأسمالية الكبيرة. من هنا هيمنت شعارات الإنتاجية، التنافسية والاستثمار على لغة المخطط. تُركت إذاً قضية الفوارق الاجتماعية، والبنية العقارية، والقضية الإيكولوجية، ومخلفات الوضع الكولونيالي إلى العناية الإلهية. استناداً على هذا المنطق، يشكل كل من الاستثمار المكثف والتقنيات المستوردة أساس الزراعة التنافسية. وهكذا أعطيت الأولوية إلى مجالات التصدير والأسواق العالمية.

أريد "للعمود 2" في المخطط أن يكون مدخلاً لتمكين الإنتاج الزراعي الصغير الحركية نفسها، ومن تنافسية الإنتاج الكبير الرأسمالي الذي هو موضوع "العمود 1". لكن النتيجة الواقعية كانت إبقاء الوضع على ما هو عليه. فعلى المستوى الإنتاجي، نلاحظ اليوم عالمين متمايزين: عالم إنتاج الحبوب الموجود في أغلب الاستغلاليات الزراعية في البلد، والذي يهم خاصة الإنتاج الزراعي الصغير والمتوسط، وقد ظل على ما هو عليه، أي تابعاً للتغيرات المناخية والطبيعية. ثم عالم الزراعات التصديرية والصناعية (الخضر والفواكه بالإضافة إلى اللحوم البيضاء والحليب)، والتي كانت دائماً تتمتع بوضع متميز. هذا الأخير عرف اهتماماً كبيراً من قبل المخطط الأخضر على حساب القطاع الأول. عبّر هذا الاهتمام عن نفسه من خلال عملية ذات ثلاثة أبعاد وظيفية: توسيع المساحات، الزيادة في الإنتاج، ثم التصدير. أما الزيادة في الإنتاجية من خلال إدخال الوسائل الميكانيكية في العمل، والاستثمار المكثف فقد أدت إلى نتائج وخيمة فيما يخص البطالة، وفقدان فرص الشغل في هذا المجال.

***

تتميز البنية القائمة أساساً بوضع تكون فيه الأرض ملكية لأقلية حاكمة همّها الأساسي تصدير ثروات البلد إلى الخارج. من هنا عجز السياسات الزراعية، لأن منطقها هو عين المنطق الكولونيالي نفسه. أما قضية السلطة السياسية فهي الأساس في كل مسألة زراعية - وهذا ما يوضحه تاريخ السياسات الزراعية في المغرب منذ المخطط الخماسي- ذلك أن حل قضية توزيع الأرض والأوضاع القانونية للأرض، ثم المشكلة الإيكولوجية، والقضاء على الفوارق الطبقية بين الفلاحين من خلال خلق تنظيمات تعكس مطامح الإنتاج الصغير والمتوسط عوض الجماعات الإدارية التي تهمين عليها الأرستقراطية القروية، هو في أساسه توجه سياسي، أي طبقي. وإذا كانت مصالح الطبقات الاجتماعية السائدة سياسياً في تناقض مع هذا التوجه، فلا يمكن لأي إصلاح زراعي حقيقي أن يرى النور.

______________

1-كانت ضريبة الترتيب تفرض كل سنة على حسب الملكيات والمواشي وعدد الأشجار، مقابل الإعفاء من الأعشار والزكاة والمكوس، وكانت تهدف إلى توحيد الضرائب
2-Grigori Lazarev, Les politiques agraires au Maroc (1956/2006), Un témoignage engagé, ECONOMIE critique, p :33. Voir aussi : Postface de Mohamed Naciri « Un siècle de dualisme agraire : les raisons de l’impossible décollage » p :200.
3-Mehdi Ben Barka, « Les conditions d’une véritable réforme agraire au Maroc », in Réforme agraire au Maghreb, actes du séminaire organisé à Paris, en Janvier 1962, par l’Union nationale des étudiants du Maroc à Paris. Publié par Maspero, coll. « Textes à l’appui », Paris, 1963.

مقالات من المغرب

أنا وليالي الضّوء في الغابات

لم أتوقف عن الرسم، لأنني تعلّمتُ نقش الحناء بسرعة بعدها، لوجود جمهور متحمس، مع إمكانية الاختراع، وانجذاباً إلى رائحة الحناء، وتدرجات اللون البني على الأصابع والراحات والأكفّ. كنتُ أخترع بنفسي...

للكاتب نفسه