عصابات المراهقين معضلة المدن الصومالية

يتكرر كل يوم لعشرات المرات سيناريو هذه القصة، يرويه مئات الآلاف من سكان المدن الصومالية: قصّتي أنني قررتُ العودة باكراً إلى منزلي في أحد الأيام، على غير عادتي، كانت الساعة التاسعة مساء، والحركة في وسط مدينة هرجيسا ما زالت نشطة ومليئة بالحيوية. خلال ربع ساعة سيراً على القدمين وصلتُ إلى مدخل الحي. الطريق في الحي مظلمة لأن بعض المشاغبين يتعمّدون تحطيم أضواء الأمان التي يعلقها السكان
2015-09-24

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك

يتكرر كل يوم لعشرات المرات سيناريو هذه القصة، يرويه مئات الآلاف من سكان المدن الصومالية:
قصّتي أنني قررتُ العودة باكراً إلى منزلي في أحد الأيام، على غير عادتي، كانت الساعة التاسعة مساء، والحركة في وسط مدينة هرجيسا ما زالت نشطة ومليئة بالحيوية. خلال ربع ساعة سيراً على القدمين وصلتُ إلى مدخل الحي. الطريق في الحي مظلمة لأن بعض المشاغبين يتعمّدون تحطيم أضواء الأمان التي يعلقها السكان بالتعاون مع شركة الكهرباء، وهذه تكفلت بمجانية الخدمة. إنّما يعجز الجيران عن الاستمرار في تركيب ضوء جديد كلفته خمسة دولارات بعد تعرضه للتحطيم كل بضعة أيام!
أسير مسترخياً في طريق لا يتجاوز 600 متر،أنا الذي كنت، حين أعود بعد منتصف الليل، أستجمع شجاعتي وأستنفر كل حواسي لأكتشف اللصوص قبل أن يبصروا بي. إلا أن الوقت كان باكراً ولا إشارة لأي شيء مريب، أو لحركة غريبة في طريق الحيّ. فجأة، من وسط الظلام، يخرج سبعة فتية مراهقين، تتراوح أعمارهم بين السابعة عشرة والعشرين، أقول "فتية" لأن بنياتهم ضعيفة لكثرة حركتهم طوال النهار، وعدم عناية الأسر التي ينتمون إليها بتغذيتهم كما يجب، أو عجزها عن توفير الغذاء الذي يسمح لهم بالنمو الطبيعي، ناهيك عن تعاطيهم القات والحبوب المخدرة، ما يتسبب بالنحول الشديد الذي يبدو عليهم.. أصيح بهم قائلًا ماذا تفعلون هنا؟!، يناديني زعيمهم "بروفيسوري، ستعطينا كل ما معك". أشتبك معهم في عراك! كانت نتيجة العراك غير معتادة: لم يسلبوني شيئاً ولم يطاردوني بعد أن بدؤوا يحاولون ضربي بالحجارة لأستسلم. فهناك من يفقد ممتلكاته أو يُصاب إصابة معيقة أو يخسر حياته في حالات، كانت نادرة لكنها تتزايد الآن.

ملامح المشكلة وأسبابها

غالباً ما ينتهي النقاش حول هذه الأزمة القائمة بحائط مسدود لأسباب متعددة. فأولى العقبات التي تقف حجر عثرة أمام السعي لحل المشكلة هي صعوبة القيام بالجهد التوعوي، نتيجة لإفساد الهيئات الدولية للأخلاق العامة، عبر منحها المستهدَفين من التوعية مبالغ رمزية تصل إلى خمسة دولارات مكافأة لهم على حضور أنشطتها. ويجعل هذا إقامة البرامج التوعوية أمراً مكلفاً للغاية للأنشطة المحلية، القائمة على التمويل الذاتي والتبرعات المحلية. وتزداد الكلفة باتساع المساحة السكانية المستهدفة في المدن والبلدات الكبيرة. وقد يكون الوضع المتردي هذا، ثمرة لإشكالات أسرية واجتماعية وتقصير ظاهر من قبل الجهات الحكومية المعنية نتيجة للفساد الواسع الذي تتشارك تلك الجهات فيه مع منظمات المجتمع الأهلي والهيئات الدولية العاملة في البلاد.
وأولى أسباب حالة الشغب واعتياد الخروج على القانون التي يمارسها المراهقون واليافعون، وجود التفكك الأسري الناتج عن غياب دور الأب نتيجة للوفاة، أو إدمان مخدّر القات أو السفر خارجاً، مما يجعل أكبر الأعباء تقع على عاتق الأم في التربية والتنشئة، ليس معنوياً فقط بل وماديّاً أحياناً كثيرة، بما يفوق قدرتها ويؤدي لخروج الأبناء عن سلطتها، وقيامهم بالتمرّد على المجتمع من ناحية، أو محاولة تأمين الاحتياجات الخاصة بهم من خلال السرقة والمشاركة في العصابات، وتحقيق "الشعور بالانتماء" بالمشاركة في أعمال الشغب الجماعي أو المواجهات بين أبناء الأحياء المختلفة في أماكن التقاء تلك الأحياء.
كما يزيد من تفاقم المشكلة سيادة العرف القبلي على القانون، بحيث يُصار إلى تعليق العملية القانونية عند مرحلة اعتقال المتسبب، من دون رفعها إلى النيابة العامة، بغرض تحقيق "الصلح والتعويض"، وهو أمر يتخطّى حدود من تعرّض للتجاوز ومن قام بالتجاوز إلى المجتمعين الذين ينتميان إليهما، كالقبيلتين أو العشيرتين إن كانا من نفس القبيلة، أو العائلتين التي ينتميان إليها في حال كانا من العشيرة ذاتها. وهنا تبدأ مرحلة المزايدات والابتزاز لصاحب الحق وعائلته، ليقوم بتحمّل تكاليف الاجتماعات الكبيرة التي تُعْقَد، خاصة أن الطرف المتضرر هو "المُطالِب" بحقّه ويجب إثباته أولًا، ومن ثمّ مراجعة تاريخ المجموعتين التي تضمه هو والجاني، بحثًا عن أعلى عقوبة من ناحية، أو التمننِّ على جماعة المتضرر بعفو سابق قامت به جماعة الجاني بحق جانٍ آخر من جماعة المجني عليه، بهدف إسقاط العقوبة.

السلطات؟

ولم يكن كل هذا التسيّب المؤدي لتراكم العداوات والأحقاد ممكناً لولا أن عناصر الأمن وقادة الأجهزة الأمنية يسعون بكل ما في وسعهم لتجنّب الوقوع تحت وطأة سخط عائلة كبيرة أو عشيرة أو قبيلة. كما برّرَ ذلك بالمقابل تحيّز الأطراف الأمنية لانتماءاتها القبلية، ليكون مصدراً للشعور الشخصي بالتقدير والأمان، وضمانة دائمة لعدم خسارة المركز أو الوظيفة، ما دام أن الآلاف مستعدون لأن يعقّدوا عمل الحكومة في المدينة والريف، حتى إعادة "ابنهم المفضّل" لمركزه بل وترقيته ومكافأته! وقد يكون تعمّد الجهات التنفيذية في أنحاء البلاد (بكل أجزائه: شماله وشرقه ووسطه وجنوبه)، في عدم منح العناصر الأمنية رواتب تتناسب مع احتياجات أسرهم عامة، ناهيك عن التأخير الدائم والمتكرر في دفع الرواتب في حالات أخرى، وشيوع توظيف مدمني القات لدى الجهات الأمنية، عمّم ممارسة الرشوة، ودفع الإتاوات كجزء من الحياة اليومية في عموم أرجاء البلاد، بحيث لا تفاجئ سوى المغتربين العائدين، فيصطدمون بها. وتزداد الصدامات شراسة بين أفراد من الأمن وأفراد مدنيين.. غالبا في النصف الثاني من الشهر!


وسوم: العدد 162

للكاتب نفسه