عن القراصنة في الصومال "أنا القبطان من الآن وصاعدا!"

"أنا القبطان من الآن وصاعدا"، عبارة قالها بَرْخَدْ عبد الرحمن في دور القرصان موسى عبد الولي لتوم هانكس الذي لعب دور القبطان فيليبس ريتشارد، فرسمت خطًا فاصلًا بين ما سبق من الأحداث وما أتى بعدها، في تسارع خارج المتوقّع، بحيث لا يمكن تخيّلها لولا أنها حدثت بالفعل على ظهر السفينة "ميرسك آلاباما"، جراء عملية الاختطاف التي واجهها طاقمها سنة 2009 في المياه الدولية قبالة الساحل الصومالي.قد
2014-01-14

محمود عبدي

كاتب من الصومال


شارك
لقطة من الفيلم

"أنا القبطان من الآن وصاعدا"، عبارة قالها بَرْخَدْ عبد الرحمن في دور القرصان موسى عبد الولي لتوم هانكس الذي لعب دور القبطان فيليبس ريتشارد، فرسمت خطًا فاصلًا بين ما سبق من الأحداث وما أتى بعدها، في تسارع خارج المتوقّع، بحيث لا يمكن تخيّلها لولا أنها حدثت بالفعل على ظهر السفينة "ميرسك آلاباما"، جراء عملية الاختطاف التي واجهها طاقمها سنة 2009 في المياه الدولية قبالة الساحل الصومالي.
قد يحق للمراقب اعتبار فيلم "الكابتن فيليبس" أيضا خطًا فاصلًا واختراقًا ملفتاً في التعامل مع صورة الصومالي بالمجمل. فثمة ندرة في المقاربات الفنية المحترفة لمفردات المسألة الصومالية كما برزت خلال العقدين الماضيين. والفيلم الحالي يأتي بعد الفيلم الأميركي "سقوط النسر الأسود" (Black Hawk Down 2001) حول التدخل العسكري الأميركي في الصومال في بداية التسعينيات، ومقتل ثمانية عشر جنديا أميركيا إضافة لإسقاط طائرة مروحية من طراز (Black Hawk)، والفيلم الدانماركي "اختطاف" Kapringen) 2012)، الذي عالج قضية القرصنة الصومالية من زاوية أخرى، تمثلت بالضغوط التي تسببت بها عمليات القرصنة على مدراء شركات الشحن (الدانماركية في هذه الحالة)، وإن كان هذا الفيلم أقل حظًا بالشهرة والانتشار. تلك الأعمال بالمجمل اتسمت على المستوى الفني بالكثير من الحرفية والإثارة، كما تناول كل منها من زاويته، وبشكل مختلف بين فيلم وآخر، جوانب من أحجية العلاقة المعقدة بين الإنسان الصومالي والغرب. إذ ينتقل التعامل مع الصومالي من اعتباره مجرّد مصدر للخطر يجب إبادته للنجاة، وكائنا هزيل الجسم عدوانيا بصورة عصية على الفهم، غير مبالٍ بالموت في سبيل قتل أكبر عدد ممكن من الجنود الأميركيين، كما في فيلم "سقوط النسر الأسود"... ينتقل إذاً إلى مرحلة أخرى في فيلم "اختطاف"، إذ يبدو فيه الصومالي إنسانا واثقا وأكثر تعقيدا، يقوم بدور إحترافي معيّن ضمن عملية مركّبة، تتوزّع فيها الأدوار بصورة يصرّ معها "عبد الحكيم أسغر" في دور المترجم الصومالي "عمر" على أنه من المهين وغير المقبول الخلط بين الأفراد الصوماليين ومهامّهم في عمليتي القرصنة والتفاوض!
يحاول فيلم "الكابتن فيليبس" تفسير الحالة غير الطبيعية التي دفعت بأولئك الفتية لمحاولة اختطاف سفن ضخمة بقواربهم الصغيرة. فبمقابل دوافع القبطان الواضحة تماما، وهي إنقاذ السفينة، هناك هؤلاء المغامرون الخطرون الصغار، الذين يجبرهم طرف محلي (مجهول الارتباطات) على القيام بما يقومون به. لكن تساؤلات يطرحها القبطان محاولا بحذر إظهار معرفته بأن ما يحصل عليه أولئك الفتية قليل جدا بالنظر إلى ما يتم جنيه من فدى، تبيّن لنا سبب الرفض المتعالي الذي أظهره القرصان موسى لأخذ المال (الثلاثين ألف دولار) الموجود على ظهر السفينة.
تركز العملية العسكرية كما يقدمها فيلم "سقوط النسر الأسود" (والتي لحق بها الفشل الذريع نتيجة للخلل الاستخباراتي الواضح لدى قوة عسكرية كبرى كأميركا، وكانت تهدف لإلقاء القبض على القائد الأكثر شعبية في البلاد آنذاك الجنرال محمد فارح عيديد)، على حالة الاندفاع الجماعي للصوماليين نحو مواجهة التفوق الناري الأميركي، تركيزا يبرز حالة الصدمة التي عاشها العسكريون الأميركيون في الصومال، بسبب عدم إدراكهم أن الكثير من أولئك المقاتلين الصوماليين كانوا ينظرون إلى تلك المواجهة على أنها "تذكرة إلى الجنة"، سواء بالانتصار الجماعي للتحالف المعقد بين ذوي الدافعين الديني والقبلي، أو الموت الفردي الموصوف بالشهادة أو الشجاعة. هذا علاوة على محاولة صانعي الفيلم وضع مقدّمات تقنع المواطن الغربي بأن الصوماليين دفعوا في تلك المعارك خسائر بشرية هائلة، لقاء ممارستهم تكتيكات الرعب والإهانة في الترويج للهزيمة الأميركية، قبل وأثناء وبعد المعركة الشهيرة.
وقد لا تختلف بدايات فيلم "الاختطاف" عن فيلم "كابتن فيليبس"، إلّا أن الفيلم الدانماركي هو محاولة للتأريخ لمرحلة القرصنة التي تقرر انتهاؤها "فجأة"، بالطريقة ذاتها التي تقرر توسعها توسّعا أشغل العالم، واصاب القائمين على شركات الشحن البحري بالقلق الدائم، وأجبرهم في كل مرّة على اتخاذ قرارات مكلفة ومؤلمة. فالسفينة يتم اختطافها فجأة لتدخل إدارة الشركة المالكة لها في مفاوضات شاقة بغية التقليل من قيمة الفدية، ويظهر الفيلم كيفية اختبار المسؤول المباشر لحالة استثنائية من الضغط النفسي على مدى الشهور الأربعة من المفاوضات مع "عمر"، وتكون النتيجة الانهيار النفسي لبعض أفراد الطاقم ومقتل أحدهم خطأً في نهايتها.
وبالمقارنة، فالملفت في فيلم "الكابتن فيليبس"، هي قدرة فريق التأليف والإخراج على إنتاج عمل يمرر إشارات ثنائية الاتجاه، تتيح للطرفين المتفاعلين، (الصومالي والغربي)، الشعور بأن جزءا ولو بسيطًا من رسائلهما المتبادلة تصل. وفي الوقت ذاته، يجد المتابع المحايد البعيد عن الأحداث نفسه مغمورا بسيل من اللحظات والمشاهد المدهشة. في المشهد الأول يعبر القبطان "فيليبس" عن مخاوفه لزوجته وهو يقود سيارته نحو المطار "من عالم (مختلف) أصبح أكثر صعوبة، لا يمكن أن يتجاوز مخاطره إلّا من كان قويا كفاية"، بينما يخشى في المشاهد الأخيرة على نفسه من التدخل مفرط القوة الذي لا بدّ ستتخذه قوات بلاده البحرية لإنهاء الأزمة بأي حال، مرورا بالمشهد الذي يعلن فيه مهندس السفينة عن عدم استعداده للموت مدافعا عن السفينة لقاء راتبه الهزيل، واضطرار المراهق "بلال" لتقديم القات للقرصان "موسى" ليسمح له بمرافقته في رحلة قد تخفف عبء الفاقة عن أسرته التي تعتاش من "بسطة" لبيع القات في قرية "أيل" الراقدة تحت أطلال قلعتها القديمة، في ذلك العالم المخيف المختلف الذي حلَّ سريعا على سواحل الصومال، وينتظر أطفال الكابتن لاحقًا في المستقبل القريب كما تنبّأ.
ويتأكّد التناقض الحاصل أكثر وأكثر مع كل مشهد، حين يحاول قائد فريق القرصنة "موسى" تقديم الحد الأقصى الممكن من الثقة للقبطان الاميركي، معوّلًا على منطق "السلامة" الذي يجب أن يكون مسيطرا على ذهن قباطنة السفن، في مواجهات خطرة ومتكررة يضطر لخوضها مع رعونة زميله "ناجي" الذي يرى أنه من السذاجة الثقة بـ"اليانكي". وتثبت الأحداث أن التهوّر في أعالي البحار ليس حكرا على الصوماليين، وأن الأميركي "الجبان" شديد العشق للحياة ـ حسب المنطق التقليدي الصومالي ـ سيستثمر كل ما هو ممكن ليحطم تلك الفكرة النمطية التي يحملها الصومالي حوله، فصحيح أنه لا يمكن الثقة به، لكنه ليس جبانًا البتة!
والملفت أن القبطان "فيليبس" المتعجل للحاق بطائرته، يصادف تلك المجموعة من الفتية الصوماليين في عرض البحر، ويتكلم عن "شدّة التنافس في سوق العمل" على التراب الأميركي. ويلتمع في ذهن من شاهد الفيلم تأكيد "موسى" على أن ما يجري هو مجرّد "عمل"، وهو الذي لا يتردد في تفنيد استعطاف القبطان له ليترك السفينة، (بحجة أنها تحمل "مساعدات غذائية لإفريقيا")، قائلًا: "لم تتركوا لنا سمكا في البحر".
لكن خاتمة الفيلم تأتي حاملة مغزى شديد الوقع على الصومالي، ففي الذهنية التقليدية الصومالية يبقى البطل الفعلي للقصة "ناجي" الذي لا يثق بالأميركي، والذي يستمر مؤكدا أن الثقة بالأميركي الذي "لا يحترم أحدا" سيؤدي بالجميع للموت، وهو ما سيحدث له هو ومعه "بلال" الذي يحتاج للمساعدة، و"علمي" المنشغل بقيادة القارب، في حين ينجو "موسى" الذي بذل كل ما في وسعه ليصل إلى القيادة في تلك العملية، مواجها بعدها السجن الطويل، وهو من فضّل منح فرصة أخرى للأميركي، الذي لم يعد مجرّد سفينة مدنية وقبطانٍ ماكرٍ، بل أتى هذه المرة على هيئة قوّة صرفة ببوارجها وطائراتها.
     

مقالات من الصومال

للكاتب نفسه