من الإنصاف إعادة قراءة المسألة الصومالية قراءة جديدة مخالفة لما تمّ خلال العقدين الماضيين، خاصة بسبب المنحى «الفريد» الذي أخذته التغطية الإعلامية والتحليل السياسي لتلك المسألة، باتجاه يهدف ـ كما يبدو ـ لإبقاء ما يجري على الأرض الصومالية بعيداً عن المقاربة الهادفة للحد من أثره المدمّر على الإنسان فيها، ناهيك عن أخذ الحيطة لعدم تكرار السير في الخطوات التي مرّت بها البلاد حتى بلغت مرحلتها الحالية المتدهورة، لتوصم دولتها بفشل لم تعد فريدة في معايشته الآن، بعدما انضمت إلى موكبه دول أخرى، تُبدي أعراضه المعلومة ومظاهره، قلّت الأعراض في كل حالة أو كثرت. فقد ظهّر تسارع المستجدات في المحيط الإقليمي هشاشة «بنيان الدولة» في العالم الثالث، مهما كان عمر تلك الدولة أو ريادة أبنائها أو ضخامة مواردها.القضاء بالكتمانفي الوقت الذي كانت وما زالت على عاتق أبناء الصومال مسؤولية ما وصل إليه الأمر في بلادهم، من دون أدنى شكّ في ذلك، فإن ما جرى ويجري يبدو كسلسلة متتابعة من الاضطرابات تحمل أنماطاً محددة، متكررة ومتصاعدة، بصورة تجعل المتابع الحريص ـ مهما قاوم نظريات المؤامرة ـ يجد نفسه منساقاً للبحث ليس عن المحرّكات الأساسية لمقدار الإجرام الذي يجري على تلك الأرض الشاسعة القليلة السكان، أو للتركيز ليس فقط على اللاعبين الخفيين/المعروفين، بل كذلك على مداخل ذلك التأثير العميق في الشأنين السياسي والميداني على مساحة خارطة الصومال، الذي يجعلها ويجعل إنسانها مستباحا. ومع تصاعد أعداد ضحايا تلك الأوضاع إلى أكثر من مليوني ضحية، تحضر تجربة الكونغو وتستحق الانتباه.
فتّش عن الثروة!
قرنٌ وسنتان هو مقدار الزمن الذي مرَّ منذ تم تسجيل أول مشاهدة للنفط في بلاد الصومال، على هيئة «نزّ» زيتي من صخور رسوبية شمال البلاد. ولم تكتمل دورة ذلك القرن، وتحديدا في سنة 2012، حتى بدأت مرحلة جديدة من التنقيب عن الثروة النفطية، في ظل مشروع فيدرالي أعرج ما زال يعتمد على القوة العسكرية للقبائل في تفريخ الأقاليم وضمها وإعادة تفكيكها، إضافة إلى خطر مستقبلي محدق ناتج عن العمل بدستور يمكن اعتبار وجوده بحد ذاته عواراً مضحكاً في مجمله، كمسخٍ يحصل على تصفيق وتشجيع دوليان. وبعيدا عن نمطية التباكي على الجياع في بلاد منتجة للفحم واللحم، وتفاديا كذلك للكلام المثير للشجن حول أرض كان وما زال سكّانها يستخرجون المعادن الثمينة والأحجار الكريمة من باطنها سراً، وقد أصبحوا على مدى عقدين مضطرين لبيعها بأبخس الأثمان لمن يملك «الوثائق الملائمة» في جنوب آسيا وجنوب شرقها، ودون الحديث عن نهب المصائد البحرية والتصدير غير الشرعي للسلالات الحيوانية المستأنسة وغير المستأنسة، والعبث الذي جرى بالمخزونات الطبيعية للنظائر المشعة (حدث نهب في فترة وجود القوات الأميركية ببداية التسعينيات لمناجم من مواد مشعة في محيط مدينة «بيدوا» وسط الجنوب، والتقارير تنقل شهادات المحليين عن نزول معدات تنقيب ضخمة قامت بإزالة تلال كاملة من أماكنها، ونقل محتوياتها إلى البحر عبر ميناء مقديشو)... تبقى الرائحة المميزة للوقود الأحفوري هي الأشدّ سيطرة على أمزجة كل من يتطرّق لشأن الثروة في البلاد.فرغم مساعي الشركات الأميركية الكبرى للحفاظ على موقعها المؤثر على الأرض الصومالية، وحضورها الملموس بعد سقوط النظام في أحداث الحرب الأهلية ببداية التسعينيات، كتحوّل مقر شركة كونوكو لمركز عمليات ورأس جسر للدخول العسكري الأميركي، فإن الرعونة الأميركية جعلت العداء الشعبي ضد أميركا نقطة من النقاط القليلة التي اتفق عليها جل الفرقاء الصوماليين، مما فرض انسحابا عسكريا سريعا، وكمونا لأي أنشطة ظاهرة للحضور الأميركي على الأرض الصومالية لعقد كامل تقريبا، واستبداله بالحضور الاستخباري عبر دول حليفة وتدخلات مسلحة من قبل دول إقليمية، إضافة لبناء علاقات «مميزة» مع أمراء حرب ومرتزقة محليين متعددي المشارب والأجندات.تدفق مدروس للمغامرين.لم يكسر ذلك الكمون سوى محاولة جنوب شرق آسيوية (ماليزية واندونيسية) مدفوعة من قبل الصين، لجسّ نبض الأوضاع في الإقليم المستقر المعلن من طرف واحد، أي «جمهورية أرض الصومال»، قبل نهاية عقد التسعينيات. لكن تلك المساعي توقّفت بشكل مفاجئ ومن دون تبرير، وبعيداً عن أي تغطية إعلامية أو تصريحات. ولم يختلف الوضع عما واجهته شركة «إلف» التي تعطّلت مساعيها للحصول على امتيازات في الجنوب، لقاء دعم الفرنسيين لمؤتمر المصالحة الذي افتتحت به الألفية في «عرتا» بجمهورية جيبوتي.
لكن كل ما حدَث فتح الباب أمام تدفق مدروس لشركات يمتلكها مغامرون من بلدان تدور في فلك الكومنولث البريطاني، كأستراليا وكندا، أو شركات مسجّلة أو مقرها الرئيسي بالعاصمة البريطانية، أو شركات مبنية على شراكات بريطانية مع دول أوروبية كاسكندنافيا.تطول قائمة الشركات الصغيرة التي قدِمَت للحصول على امتيازات التنقيب عن النفط في أقاليم البلاد، وقد يكون نجاح مرور المشروع الفيدرالي الذي دعمه الرئيس الراحل «عبد الله يوسف»، مدخلاً مهماً لتمكّن شركات التنقيب من الحصول على بيئة يتضافر فيها الوضع القانوني القابل للتبلور مع حالة الاستقرار النسبي التي تعيشها بعض المناطق إلى الشمال من مدينة «جالكعيو»، ممثلة بولاية «أرض البونت» وإقليم «أرض الصومال»، رغم أن الارتباط الاسمي حينها بين «أرض البونت» والحكومة الفدرالية الضعيفة في «مقديشو» أثمر غطاء قانونياً أوّليّاً سمح بالبدء بأعمال التنقيب، على عكس الوضع في «أرض الصومال» التي رفضت أي علاقة تربطها بـ«مقديشو»، مما أخّر أعمال التنقيب التي كان مزمعا القيام بها منذ عام 2003.
في جوف الأرض كنز
وعلى الرغم من تكرار المبالغة في تغطية بعض الزيارات التي قامت بها شركات صغيرة نسبيا لعقد اتفاقات مبدئية حول الاستكشاف والتنقيب، وتكرار سيناريو التهويل الإعلامي والمزايدات والمهاترات السياسية حول الوضع، ليصبح الأمر «كأنكم كالأطفال تؤمنون أن في جوف الأرض كنزاً ستحصلون عليه بمعجزة، وسيحل كل مشاكلكم وتقيمون فردوسا» (من «موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح)، فقد حدثت تطورات خطيرة في الشأن النفطي الصومالي، خصوصا مع دخول شركة تنقيب تركية (Genel) عملاقة مسجلة في لندن برأس مال قدره مليار دولار، وقدومها إلى «أرض الصومال» للبدء بأعمال التنقيب والاستكشاف في منطقة «أودوينه» التي لا تبعد كثيرا إلى الغرب عن وادي «نُغال» المرتبط بعقود استثمار معطّلة وأخرى جارية من قبل شركة «أفريكا أويل كورب» التي تعمل مع عدد من الشركات في التنقيب في وادي «طرور». حجم اللاعب التركي الجديد الذي دخل ساحة أعمال التنقيب بجمهورية «أرض الصومال» المعلنة من طرف واحد، والتي تتشدد قياداتها السياسية في التأكيد على استقلالها عن «مقديشو»، في الوقت الذي فشلت في تحقيق وعودها بالحصول على الاعتراف الدولي بها، يثير التساؤل حول سرّ المغامرة التركية في الإقليم، والدافع للعمل في غياب غطاء قانوني ملائم يحفظ حقوقها الاقتصادية في النشاط الذي سيكلفها ملايين الدولارات من أموال المساهمين، ضمن منطقة جغرافية لا يحظى استقلال قيادتها باعتراف دولي، وفي الوقت ذاته تجاهر برفضها أي تعاطٍ غير ندّي مع العاصمة «مقديشو» التي يبذل الأتراك المليارات في إعادة تأهيل مرافقها، عكس ما هو جارٍ من طرفهم في «أرض الصومال».
تكتّم وأكاذيب
ومغامرون سيئو الصيت
هنا يشـتعل في الأذهان الفضول لمعرفة حقيقة ما حدث بخصوص الـ 56 بئراً المحفــورة في أنحــاء البــلاد، وخاصـــة حكاية آخـــر بئرين تم حفرهما («1 Shabeel» و«2 Shabeel»، وهذا الاخير كلفت أعمال حفره 25 مليون دولار) في أرض بونت على بعد عشرات قليلة من الكيلومترات من «أرض الصومال». تسبب البئران في إطلاق مرحلة جديدة من حمّى الاستكشاف، الذي جرّ في مَن جرّ الشركة التركية الكبيرة للدخول إلى الساحة بقوّة. ثم توقف العمل في البئرين فجأة بإعلان «الفشل» في الوصول إلى مكامن ذات إنتاجية اقتصادية، مما أدى إلى هبوط أسهم شركات مثل «Africa Oil Corp». وهذا سيناريو تكرر في مناطق أخرى من العالم، ما يجعل الهمس حول الحصول على بئر واحدة منتجة بالفعل ـ على الأقل ـ في أحد الموقعين، مسألة تسترعي الانتباه. لا سيما أنه ومنذ آذار/مارس 2012 إلى اليوم فرضت الشركات العاملة في المنطقتين على العاملين فيها التكتم التّام ـ تحت طائلة المسؤولية ـ فيفترض أن ما تمّ الإعلان عنه، إضافة للخسائر الحقيقية التي منيت بها الشركات في أسواق الأسهم وضياع الكلف التشغيلية، قد تم تعويضه بالفعل بصورة أو بأخرى. ويقال إنه مقابل «إعلان الفشل» من قبل الشركات الصغيرة العاملة في البلاد التي يديرها مغامرون، بعد التأكد من وجود النفط في الآبار، تقوم شركات كبرى مثل بريتيش بتروليوم وشيفرون وشل بتقديم تعويضات لها لإخراجها من الميدان، بعد ان تكون قد بددت بطريقة احتيالية أموال مساهميها. فأصحاب تلك الشركات بالأصل مغامرون سيئو الصيت ولا يخشون على سمعتهم في الأسواق، ما دامت مغامراتهم تلك تدرّ مرابح كبيرة عليهم لاحقا.