فتيات "تيك-توك" في مصر: حاكموا "قيم الأسرة"!

ما هي "قيم الأسرة المصريّة" التي يتحدّثون عنها؟ تنتشر هذه القيم الوهميّة ذات التداعيات الحقيقية على مساحة الدول العربية، وتُرتكَب باسمها جرائم قتل وحشية تراوغ العقوبات تحت مسمّى "الشرف"، مثلاً. وتُستَحضّر من خارج كلّ سياق، مترفّعة عن مصائب بلداننا الغارقة حتى أذنيها بالوحول السياسية والاقتصادية والكوارث الكبرى والصغرى.
2020-08-14

صباح جلّول

كاتبة صحافية وباحثة في الانتربولوجيا البصرية من لبنان


شارك
آني كوركيجيان - لبنان

في البداية، قصّة رعب قصيرة: في القاهرة عام 2014، وبعد حفل باذخ في فندق "فيرمونت" الشهير المطلّ على النيل، وجد مجموعة من الشبان الأثرياء من "أولاد العيل" تسليتهم في دسّ مخدِّر في مشروب إحدى الفتيات، ثمّ اقتيادها إلى غرفة في الفندق والتناوب على اغتصابها. ولمّا كان هذا المستوى من الدناءة يبدو غير كافٍ لهؤلاء، فقد ارتأوا أن يتفوّقوا على أنفسهم بتسجيل فيديو لأفعالهم، وأن يكتبوا أسماءهم على جسمها وأن يسقوها مزيداً من المخدّر كلّما بدأت بالإفاقة وطلب الماء... هذا ما تقوله الرواية المتداوَلة على مواقع التواصل الاجتماعي في الأسابيع القليلة الأخيرة، والمقرونة بأدلّة على حقيقة حدوث الواقعة المشؤومة. ولم تتحرك النيابة العامة للتحقيق إلا بعد تقدم المجلس القومي للمرأة وهو منظمة رسمية بشكوى داعمة لإدعاء المغتصبة، فبدأت بتحرياتها هذا الاسبوع، بعد مرور 6 سنوات من التجاهل، كان خلالها الشبان الخمسة المتّهمون أحرار طلقاء، لا حسّ ولا خبر عند القضاء المصري، وقيل أن أحدهم ترك مصر إلى بيروت للترفيه عن نفسه.

لكنّ القضاء تحرّك، بلى، في قضيّة أُخرى. فيوم 27 تمّوز / يوليو 2020، حكمت المحكمة الاقتصادية بالقاهرة بمعاقبة مودّة الأدهم وحنين حسام وثلاثة أشخاص آخرين، بالحبس لمدة سنتين، وتغريم كلّ منهم 300 ألف جنيه (حوالي 19 ألف دولار)، بتهمة التعدي على "قيم ومبادئ الأسرة المصرية". يُستأنف الحكم في 17 آب/ أغسطس القادم، ويَلحظٌ العديد من المحامين والجمعيات الحقوقية المصرية كوْن هذا الحكم سابقة قضائية ذات تداعيات خطيرة في معناه، خاصة لجهة ما قد يصدر من أحكام مستقبلاً قد تطال أي مواطنة أو مواطن في مصر.

ولمن لا يعرف الصبيّتين وما اقترفتاه لاستئهال هذه العقوبة، وخلفيات ذلك، فقد يصعب شرح الموضوع لشدّة بساطته ولاعقلانيته. هما من "فتيات التيك-توك"، أي صبيّتان عاديتان – صودف أنهما مصريّتان – قامتا بتنزل تطبيق الهاتف الرائج جداً هذه الأيام، الذي يتيحُ نشر مقاطع فيديو أكثرها يعتمد على الموسيقى والرقص وتقليد الأصوات والسكتشات الكوميدية. وبالتالي قامتا بمشاركة محتوى راج بشكلٍ واسع جداً، حاصداً لهما بين المليون والمليوني متابع على التطبيق. هذا كلّ شيء. لكن، ولأنّ جريمة "نشر فيديوهات راقصة" تفتقد للجرم، فقد وجد لها القضاء اسماً أكثر إثارةً و"جُرميّة": "الاعتداء على قيم الأسرة المصرية، والتحريض على الفسق، ونشر صور ومقاطع فيديو خادشة للحياء". الآن صار بإمكان الأسرة والمجتمع والدين أن يتنفّسوا جميعاً الصعداء لتمكين حمايتهم من هؤلاء الفتيات اللواتي كنّ يقفزن ويمزحن ويستعرضن ملابسهنّ أمام العائلة المصرية والعربية الهشة.

ثمّة شروط، على ما يبدو، غير تلك المعممّة في أغلب بقاع المعمورة، لكيفية أن تكون مواطناً صالحاً في مصر. فكما قال الرئيس السيسي في الماضي أنه لا يريد مواطناً سميناً لأن مصر للنحيفين الذي يركضون بنشاط في الماراثونات، يقول القضاء الآن أنّ مصر للذين لا يرقصون على تيك-توك (إلّا لو كان هؤلاء من فاحشي الثراء المتنفذين، طبعاً). أمّا لو كانت مواطنة من النساء، لسوء حظّها، فعليها أن ترعى شروطاً أكثر تفصيلية وتعقيداً وخصوصيّة، لكونها بجسدها وهيئتها وأفعالها وأقوالها تجسّد تمثيلاً حيّاً ماشياً على قدمين للشرف المصري وسمعة البلاد وقيم الأسرة. كم هو منهك أن تكون فتاة شابة مواطنة مصرية صالحة هذه الأيام!

عن الحكم وخطورته

إذاً، في أيار/ مايو الفائت، تم توقيف مودّة الأدهم بتهمة "الاعتداء على مبادئ وقيم أسرية في المجتمع المصري"، وقبلها أوقفت حنين حسام (20عاماً) في نيسان/ أبريل، وخُصّت بتهمة "ارتكاب جريمة الاتجار بالبشر بتعاملها مع أشخاص طبيعيين هنَّ فتيات استخدمتهنَّ في أعمال منافية لمبادئ وقيم المجتمع المصري للانتفاع المادي"، بناء على فيديو تطلب فيه من متابعاتها الفتيات تسجيل فيديوهات والعمل معها لكسب المال. وبعد يومين فقط من صدور الحكم بحبسهما يوم 27 تموز/ يوليو، صدر حكم جديد على منار سامي، صانِعة محتوى أخرى على "تيك-توك"، بالحبس 3 سنوات مع الشغل وغرامة 300 ألف جنيه، بتهمة "التحريض على الفسق والفجور وإثارة الغرائز والإعلان عن نفسها عبر مواقع التواصل الاجتماعي".

ثمّة شروط، على ما يبدو، غير تلك المعممّة في أغلب بقاع المعمورة، لكيفية أن تكون مواطناً صالحاً في مصر. فكما قال الرئيس السيسي في الماضي أنه لا يريد مواطناً سميناً لأن مصر للنحيفين الذي يركضون بنشاط في الماراثونات، يقول القضاء الآن أنّ مصر للذين لا يرقصون على تيك-توك.

لماذا يُجرّم التمايل في سبيل التسلية أو جمع المتابعين أو جني المال على الانترنت، كما يحدث بشكل عادي على كل منصات التواصل حين تزيد أعداد المتابعين؟ ولماذا يُسمَح لأولاد وبنات الأسر الثرية باستعراض أجسامهنّ وحفلاتهنّ دون غيرهنّ؟ خطر هذا الإجراء أنّه انتهاك لحق نشر المحتوى والتعبير طالما أنه لا يؤذي أحداً ولا يخرق القانون الصريح.

من اجتهادات النيابة كان طلبها من مودّة الأدهم إجراء فحص عذريّة وهو أمر رفضته الأدهم، وهو بحسب محاميها غير ذي سند قانوني، ولكنه قبل كل شيء انتهاك فاضح، وإجراء غير إنساني مرفوض. لكن تهمة "التعدي على قيم الأسرة" بمجملها مثيرة للعجب، مطّاطة وفارغة، قد تحتمل ألف وجه وتفصيلٍ وتعميم. فإذا كان الرقص بإغراء أو مزاح على منصة إلكترونية هو أحد هذه التعديات اليوم، فقد يكون غداً أيّ شيءٍ آخر. وهذا في بلد ينتشر فيه الرقص الشرقي ويعتبر عادةً في الأفراح والمناسبات، فلماذا يُجرّم التمايل في سبيل التسلية أو جمع المتابعين أو جني المال على الانترنت، كما يحدث بشكل عادي على كل منصات التواصل حين تزيد أعداد المتابعين؟ ولماذا يُسمَح لأولاد وبنات الأسر الثرية باستعراض أجسامهنّ وحفلاتهنّ دون غيرهنّ؟ خطر هذا الإجراء أنّه انتهاك لحق نشر المحتوى والتعبير طالما أنه لا يؤذي أحداً ولا يخرق القانون الصريح، وأنّه حمّال معانٍ يضع الشعب المصري كلّه، وفتياته بالأخصّ، أمام امتحان مستمرّ في تخمين ما قد يكون "قيمةً من قيم الأسرة المصرية"، ومن ثمّ تفاديه على سبيل الاحتياط، للنجاة بحياتها ومستقبلها من الهلاك. أمّا الحرية واللهو واللعب فمنطقةٌ خطرة مليئةٌ بالألغام.

الكائن القيَمي الأسطوري

ولكن حقّاً، ما هي "قيم الأسرة المصريّة" التي يتحدّثون عنها؟ القيم هذه تحدّدها (أو لا تحدّدها عن قصد) الدولة، ثمّ تفترض أنّ على المصريين أن يكونوا كتلة متجانِسة من الأشخاص، أولاد العائلات وأربابها بالضرورة، وأنّهم جميعاً يمتلكون "قيم الأسرة" ذاتها التي حدّدتها في سرّها – بشكل مبهم وهلامي ومائع – الدولة المصرية، وبالتالي فهذه هي "قيم الأُسرة المصرية" المقدّسة. بالمختصر، فالمصريون يجب عليهم بالطبع التحلّي بهذه القيم، وإلّا فهم ليسوا بمواطنين مصريين صالحين، وليسوا أولاد هذه الأسرة، ويستحقون السّجن وضياع العمر والعقوبة بناء على ذلك.

مقالات ذات صلة

تنتشر هذه القيم الوهميّة ذات التداعيات الحقيقية على مساحة الدول العربية، وتُرتكَب باسمها جرائم قتل وحشية تراوغ العقوبات تحت مسمّى "الشرف"، مثلاً. وتُستَحضّر من خارج كلّ سياق، مترفّعة عن مصائب بلداننا الغارقة حتى أذنيها بالوحول السياسية والاقتصادية والكوارث الكبرى والصغرى. حديث "قيم الأسرة" يذكّر بما قاله وزير الخارجية اللبناني السابق جبران باسيل في عام 2016 رداً على سؤال في مقابلة مع "دويتشه فيلله". تلا السؤال استعراضاً لحالة لبنان الذي كان بلا رئيس لعامين في حينه، "إذاً أنتم بلدٌ منهار؟"، وكان جواب باسيل، "حسناً، نحن ما زلنا على الأقل نملك قيم العائلة". ذلك هو مجدّداً الكائن الأسطوري الطائر المسمّى "قيم العائلة"، جواباً لكلّ سؤال، وحلّاً سحرياً يُستَحضَر من الفانوس مع كلّ أزمةٍ من أزمات البلاد. من غرائبه أنه يعتبر شتم السياسي شيناً، وفقاً لأخلاق العائلة الحميدة، لكنّه يرى السياسيّ الفاسد زيْناً، وأنّه يجد المايوه في منتجعات الأثرياء دعاية سياحية جذّابة، وعلى الفتيات العاديات هادماً للقيم، وأنّه يرى رقص بنات التيك-توك قضية سلامة أخلاقية عامة، أمّا قصّة الرعب المذكورة أعلاه، فذكرى لسهرة لطيفة فوق النيل... يبدو أنّ ما يحتاج لمحاكمة عاجلة طارئة ليس إلّا "قيم الأسرة" نفسها.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

البحث عن فلسطين في "مونستر": عن تطوّر حركات التضامن مع فلسطين وقمعها في مدينةٍ ألمانية

صباح جلّول 2024-12-11

يتفق الناشطون على فكرة ضرورة إجراء تقييم مستمر لهذه الحركات، خاصة في ظل محدودية قدرتها عالمياً على تحقيق الضغط الكافي لإيقاف الإبادة، هدفها الأول من بين عدة أهداف أخرى طويلة...

كلّ ما يتحدّى اكتمال الإبادة..

صباح جلّول 2024-11-10

شبعت أعين العالم أكلاً في مأساة غزّة. لن تغيِّر صور الموت ما لم يغيّره الموت نفسه. لذلك، فهذه هنا صور لقلبٍ ما زال ينبض، لملمناها من صور شاركها الصحافي يوسف...