خمسة عشر قتيلًا وأربعون جريحًا، حصيلة لم تعد لافتة ليوم آخر من التفجيرات، كالسابع من أيلول/ سبتمبر الحالي، في العاصمة الصومالية مقديشو، باسم تطبيق الشريعة الإسلامية وتحرير البلاد من «الصليبيين» و«المرتدين»، في واحدٍ من أندر بلدان العالم من حيث وحدة الديانة والمذهب لدى شعبه، وفي ظلّ حكومة فيدرالية يهيمن عليها فريق سياسي من «حركة الإصلاح في القرن الإفريقي» (الإخوان المسلمين)، تحت مسمّى جناح «الدم الجديد».
اسلام ام قبلية
من أهم ميزات الحراك السياسي لأصحاب الدعاوى الإسلامية في بلاد الصومال عموماً، حالة غرائبية من تفريخ التنظيمات ضمن التنظيمات، أو التئام أطياف متضاربة القراءات والتأويلات للنص الشرعي في لحظة ما. وهي لحظة قد لا تطول حتى يزداد تعقيداً المشهد السياسي ضمن ذلك النطاق الغامض وغير المفهوم، فيعود للتفكك أكثر.
فتتبع مسار العمل السياسي «ذي الدعاوى الدينية»، منذ مرحلة الخلاف التاريخي بين قياداته، إبّان حكم الجنرال محمد سياد بري، التي أعلنت أن الهدف الأساسي هو الحفاظ على بنود الأحكام الشرعية في سبيل التطبيق الكامل للشريعة مستقبلًا، مروراً بالتحالف بين أطراف من الطيف الإسلامي مع الجنرال محمد فارح عيديد، ومحاولات فتح جبهة الصومال الغربي، وصولًا إلى نشأة التنظيم الموسّع لحركة المحاكم الشرعية ـ الإسلامية، لم يختف ولو لبرهة واحدة، النَّفَسُ القبلي الذي حدد بصورة حازمة طبيعة التحرّك والممارسات السياسية أو العسكرية لتلك التنظيمات. وكان ذلك وراء الإخفاق والفشل لكل محاولاتها لتحقيق قدر من السيطرة والنفوذ على رقعة ما على أرض البلد المقسّم. نتحدث عن بلد لا تجد الأطراف السياسية، سواء كانت ذات خلفية «عرْفية/قبلية» أو «مدرسية/إسلامية»، أي حرج في إظهار أسوأ صور التحيّز القبلي أو التعصّب للتأويل والاجتهادات المتطرّفة. وهكذا تكاد كل الأطراف في الساحة السياسية والدينية والقبلية تظهر في أرض الواقع كونها تابعة بصورة أو بأخرى لمؤثرات ليست ذات صلة وثيقة بالمبادئ المعلنة، أو الخطاب السياسي أو الدعوي الذي تحاول اكتساب الأتباع عبره.
أي شريعة؟
وليس عصياً على المتابع ادراك مقدار التجاوزات الجسيمة في حقِّ القيم الدينية الكبرى (مقاصد الشريعة الخمسة)، بل وما يتعدّاها إلى المخالفة الصريحة للنصوص الدينية، روحاً ومبنى، بشكل يدفع فئات عريضة من الشعب للانكفاء عائدة للانضواء تحت الخطاب «الفئوي» القبلي الموغل في شيطنة الغرماء المنافسين وانتمائهم القبلي، كوسيلة لابتزاز الفئات الموسرة من ناحية، وتجنيد الفئات الشبابية من الفقراء والمعدمين من ناحية أخرى. انها خلطة هلامية وشائكة: هناك الانشقاق الذي تعيشه «»حركة الإصلاح في القرن الإفريقي»، وهيمنة جناح «الدم الجديد» على الحكومة الفيدرالية (بما يصفه البعض بحكومة الظل)، والصراع الإعلامي الذي بلغ حداً من الانحطاط بينهما، وتداعي جميع الأطراف الإخوانية في الصومال لاكتساب الشرعية من خلال الحصول على بركة المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر، قبل أحداث 30/06، إضافة لوجود تنظيمات لا تبتعد في اسمها عن اسم «الإصلاح» نفسه في الوقت الذي تُظهر فيه حميمية شديدة تجاه بعض قيادات الحزب الإسلامي، وهو الحليف الوثيق حتى وقت قريب لحركة الشباب المجاهدين، المنضوية بدورها تحت تنظيم القاعدة... فكيف لكل هذا أن يلعب دوراً سياسياً إيجابياً يُذكر، لاسيما وأن «بطاقتها» الشعبية لرابحة دائما تتمثل بدعواها العاطفية القديمة الى ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في البلاد، بالشكل الذي تراه ملائماً، مع ما يحمله ذلك من احتمال صراع مفتوح بين أطراف الطيف الإسلامي حدّ ممارسة الاغتيال والتصفية المتبادلة... وكل ذلك في سبيل الشريعة ذاتها التي لأجلها يتم تفجير المدنيين الأبرياء بشكل شبه يومي!
الحركات القائمة مشكلة
وعلى الرغم من غياب أي تجريم واضح وصريح من قبل المقامات الإعلامية والدينية في العالم العربي لما تقوم به حركة الشباب المجاهدين في الصومال، فإن الجو الشعبي العام يبقى مناهضا للمسلك الدموي للحركة، بما يجعل حيّز المناورة لديها ضيِّقًا، لا يتجاوز الخدمات مدفوعة الثمن نقداً، أو التعاطف القبلي الآني من قبل البعض مع أفراد من عشائرهم ذوي المراكز القيادية في ذلك التنظيم. ومن جهة اخرى، تبقى «حركة الإصلاح في القرن الإفريقي» اللغز الأكبر من بين الأطراف، وتحوم حولها الكثير من علامات الاستفهام، بحيث يصعب استيعاب توجهاتها وطريقة عملها. ففي الوقت ذاته الذي استطاع جناح «الدم الجديد» الدخول بقوة ضمن أروقة صنع القرار في العاصمة مقديشو، لم يصدر ردٌّ واضح من قبل حركة «الإخوان المسلمون» الصومالية، حيال ما تم نقله على الهواء مباشرة من النوايا المصرية ـ في ظل مرسي ـ من «استخدام» الصومال وجيبوتي وإرتريا كمنصة لمحاربة دولة جارة لصيقة، في سبيل ضمان الحصة المصرية من مياه النيل. ولم يكن ردُّ الفعل الحكومي الصومالي، الذي أعلن أنه ضد أي محاولة لزعزعة أمن المنطقة واستقرارها، العليل أصلًا، سوى استجابة لضغط إثيوبي شديد. إذ تملك الحكومة الإثيوبية دون عناء اسقاط الحكومة الصومالية، وعرقلة الجهود الدولية لإعادة تجميع الكيان الصومالي بصورة قد تهدد آمال الدول الكبرى في إيجاد شريك صومالي قادر بالحد الأدنى على الوفاء بالالتزامات التي سيفرضها الاستثمار الدولي لثروات البلد خلال العقد القادم. كل ذلك في ظلِّ صمت أجنحة حركة الإصلاح، التي أوغلت في الترويج لموقفها المؤيّد للاحتجاجات في «رابعة العدوية» والمحافظات، ما أثار الشكِّ حول عدم وجود تغيير يُذكر في ما كان معروفاً من تبعية التيارات السياسية الدينية في الصومال لأطراف الخارجية، سواء في بعض بلاد وادي النيل أو في الجزيرة العربية.