ما بين بيروت وبغداد، محطات مؤقتة

سيرة عائلة تحاول تلافي الحرب والموت ما بين بيروت وبغداد، فتصل الى السكن في "مدن مؤقتة"، في غربة تفتقد فيها ما تعلقت به ويهمها.
2020-08-09

ديمة ياسين

كاتبة صحافية، من العراق


شارك
سعد بن شفاج - المغرب

رأيت الدنيا أول ما رأيتها بعيني بيروت. أول ألواني كانت عيون أمي العسلية، و زرقة المتوسط. يحكون لي أن أمي ركضت إلى الملجأ وهي تحملني عدة مرات، تارة في بطنها، ثم بين يديها خوفاً من انفجار، أو قتال اندلع بين الفصائل. بيروت أيضاً كانت أول من أطلق الدخان في عينيّ، وكانت أول يوميات حرب تكتبها أختي التي تكبرني بعدة أعوام. أختي أحبت بيروت كثيراً، لذلك قررت أن تترك كل أوراقها التي كتبت عن الحرب فيها، كانت تريد الاحتفاظ فقط بحبها للبحر والأشجار.

كسرت بيروت قلبي.

خافت علينا أمي وأبي من الحرب فحملانا إلى بغداد. لكن بغداد لم تنتظر، لم تعدّ على أصابعها قبل أن تبدأ. بغداد كانت أول من أطلق صافرة الإنذار في أذني. كانت أول من رأيت فيها طائرة تقصف، وصاروخاً ينزل على بناية فيقتل كل من فيها. كانوا نائمين، وكنت طفلة، لم أصرخ لإيقاظهم، وأنا أرى الصاروخ يسحب دخانه خلفه قبل أن ينفجر بهم. عدتُ للنوم ليلتها، وأقنعت نفسي أن ما رأيته كان حلماً، وتظاهرت بالمفاجأة عندما استيقظنا على خبر وقوع صاروخ على حي سكني في بغداد.

كسرت بغداد عيني.

حمل أهلي حقائبنا مرةً أخرى، بعيداً عن المتوسط وبعيداً عن دجلة. بعيداً عن الفصائل المتقاتلة، وعن أزيز الطائرات وصفير الصواريخ. صرنا نسكن مدناً مؤقتة لا نمدّ جذوراً فيها، وبيوتاً مؤقتة لا نؤثثها بالكثير، "لأننا سنعود يوماً". هذا ما كانت تردده أمي. وبقينا نجتر ذكرياتنا من مدينتين صارتا في خراب. تنتهي حربٌ لتبدأ أخرى، ويقتل الناس بمفخخات وقنابل وحروب أهلية وقوارب هروب، ويعيشون ويتزوجون وينجبون أطفالاً ننسى أسماءهم ولا نراهم سوى بالصور.

كسر الاغتراب روحي.

خافت علينا أمي وأبي من الحرب فحملانا إلى بغداد. لكن بغداد لم تنتظر، لم تعدّ على أصابعها قبل أن تبدأ. بغداد كانت أول من أطلق صافرة الإنذار في أذني. كانت أول من رأيت فيها طائرة تقصف، وصاروخاً ينزل على بناية فيقتل كل من فيها.

عدت في رحلة واحدة إلى بيروت وبغداد معاً، كأنني مقسومة بخطّ يبدأ من منتصف الرأس، وينتهي في القدمين. عينٌ على بيروت وعينٌ على بغداد، ذراعٌ هنا وذراعٌ هنا، قدمٌ هنا وقدمٌ هنا، ثورةٌ هنا وثورةٌ هنا. لم تكن إحداهن بالنسبة لي "هناك"، كانت الاثنتان "هنا". بحرٌ ونهرٌ هنا. نخلٌ وأرزٌ هنا. مِن على قمة بناية "المطعم التركي" وساحة التحرير إلى بناية الـ"بيضة" وساحة الشهداء. الاثنتان معاً هنا، تجريان في داخلي، تطلقان الدموع في عيني، وأنا أردد الهتاف مع الثوار. رائحة الغاز المسيل للدموع، وصوت الطبول في الساحات لا تفارقني، فكأن هتاف "من بغداد لبيروت، ثورة واحدة ما بتموت" قد كُتب لي، لنصفيَّ معاً، لتلك الجذور التي سحبتها ورائي طوال حياتي. الثورة بالنسبة لي كانت فعلاً أنانياً شخصياً لاستعادة نفسي التي ضاعت في الطريق. فكل المدن التي عشتُ ومررتُ بها ما بين بيروت وبغداد لم تكن سوى محطات في طريق العودة إليهما.

الثورة ثبتّت قدميَّ.

عدت في رحلة واحدة إلى بيروت وبغداد معاً، كأنني مقسومة بخطّ يبدأ من منتصف الرأس، وينتهي في القدمين. عينٌ على بيروت وعينٌ على بغداد، ذراعٌ هنا وذراعٌ هنا، قدمٌ هنا وقدمٌ هنا، ثورةٌ هنا وثورةٌ هنا. لم تكن إحداهن بالنسبة لي "هناك"، كانت الاثنتان "هنا". بحرٌ ونهرٌ هنا.

عدت إلى مدينة مؤقتة، أعيش فيها منذ سنوات طويلة، لكنني صرت أضيق ذرعاً ببرودتها، وانعدام رائحة الزعتر ومنظر النخيل فيها. كنت طوال وقت الوباء، وعلى الرغم من تفاقمه في بيروت وبغداد أخطط للعودة. سأسكن بيروت، مسقط رأسي وفتحة عيني، وأقضي الشتاء بين النخيل في بغداد. خططتُ كلَّ شيء، ولم أكترث، لا لانهيار الليرة، وانتشار الجوع في بيروت، ولا لإجرام المليشيات، واستفحال الوباء في بغداد. كنتُ أنانية، أردتُ استكمال دورة حياتي مثل فيلم رومانسي ساذج.

كسرت بيروت ظهري.

لم أبتسم منذ أيام، ولم تفارقني الكوابيس. أحس بفراغ ثقيل في قلبي، ثقب أسود يمر منه هواء شديد البرودة، يشبه تلك الغيمة الرمادية التي ارتفعت في سماء بيروت. يشبه ذلك العصف الذي رأيته على الشاشة و لم أعشه، رأيته في وجوه الناس المدمّاة وسحقة أرواحهم. يشبهه كثيراً حتى إنه يحمل معه الكثير من الزجاج المكسور والحجارة والدم. لم أبكِ بعد، لم تنزل دمعتي بعد، لأن في داخلي غضباً وإحساساً كبيراً بالذنب والعجز. فبينما كنت أنا أعيش في ثورتي وأحلامي في العودة، كان هناك أطفالٌ تغادرهم طفولتهم بثوانٍ، وهم يرون زجاج الشبابيك الذي كان يفصلهم عن الهواء الملوث، والوباء المنتشر ينفجر في وجوههم وأجسادهم الصغيرة. كان هناك أحبةٌ ضائعين تحت الركام، وآخرون تلاشوا كالرماد بغمضة عين. صار هناك أمهات وآباء يفكرون بجدية إلى أين عليهم أن يحملوا أبناءهم، ويرحلوا بهم كما فعلت أمي وأبي معنا منذ أربعين عاماً مضت. سيعيشون في الشتات، لكنهم سيعيشون في أمان، وإن كانت حياتهم مؤقتة، وجذورهم مقطوعة.

لم يبقَ فينا شيء يُكسر.

مقالات من العالم العربي

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

فلسطين في أربع جداريات دائمة في "المتحف الفلسطيني"

2024-12-19

"جاءت انتفاضة الحجارة في 8 كانون الاول/ديسمبر 1987، وجلبت معها فلسفة الاعتماد على الذات، وبدأ الناس يزرعون أرضهم ويشترون من المنتوجات المحليّة، ويحتجّون على الاحتلال بأساليب ومواد وأدوات محليّة. وشعرت...

للكاتب نفسه

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

نخلات غزة تشبه نخلات العراق

ديمة ياسين 2024-02-09

يمسك الميكرفون رجل ستيني يتحدث بإنجليزية مثقلة بلكنة عربية واضحة، تشبه ثقل عناقيد التمر في نخل بلادنا، بطيئة، بل متمهلة، مثل ثمار الزيتون وهي تكبر وتعمّر في أرض فلسطين "لا...