تكميم فم المناضلة المصرية المعروفة شاهنده مقلد وهي تهتف ضد جماعة الإخوان المسلمين، غير مسبوق، لكنه يعبر عن نمط أساليب استخدمت قبلاً لإقصاء المرأة المصرية الجسورة، وتأديبها وتعطيل مسارها النضالي، في مجتمع مارست سلطاته وأفراده العنف ضدها، أحياناً بشكل عشوائي، يعبر عن عورات المجتمع ونظرته الدونية لها، وأحياناً أخرى بشكل ممنهج، وفي سياق سياسي بقصد تحطيم الإرادة، والتشويه، والتفزيع. استخدم مبارك العنف الجنسي ضد المتظاهرات في أيار/ مايو 2005، ثم استمر مسلسل الاعتداء الجماعي على النساء، وإقامة حفلات التحرش في المظاهرات والأعياد ومناطق التجمع. وبعد نجاح الموجة الأولى من الثورة، اختلف مضمون حلقات المسلسل نوعياً، فمن الكشف الجبري على العذرية في السجن الحربي، إلى الاعتداء الوحشي على المتظاهرات والمعتصمات بميدان التحرير ومحيطه، إلى تعرية وسحل "ست البنات"، وركلها بالأرجل، و"إقامة حفلات" على أخريات ـ بحسب توصيف الضباط القائمين على عمليات التعذيب ـ في أماكن الاحتجاز والاعتقال، بالطرق الأكثر وحشية.
مجموعات منظمة تعتدي على النساء
كانت إحدى نقاط التقاء الاخوان مع العسكر القائمين على أمور البلاد، هي تشويه المرأة "الأخرى" المتشبثة بالميدان. تآمر "الإسلاميون" بالصمت عما تم من اعتداءات جسدية على النساء، وأسهموا في محاولات شرعنة هذه الاعتداءات عبر إعلامهم، وشن هجمات شرسة على الميدان دائما، بكل من فيه، لا سيّما حرائره، اللاتي أبدين تصميما على استكمال المسار الثوري.
انتقلت إدارة المجموعات المنظمة المُستهدِفة نساء الميدان إلى الحاكمين الجدد، بينما كان منتظراً تفكيكها. وبدأت تتطور ممارسات الأجهزة الأمنية، وبعض مؤيدي الرئيس، تجاه النساء في الميادين، فشهد محيط ميدان التحرير في حزيران /يونيو، وتموز /يوليو 2012 اعتداءً وحشيا على النساء، وضربهن بالعصي والأحزمة، وركلهن بالأقدام، حتى أن أحد أنصار الرئيس نعت إحدى ضحاياه، الذي انهال عليها ضرباً، بأنها "كافرة" وتستحق القتل، لا السحل، في إجابته عن سؤالها الاستنكاري الكاشف: هل تضربون امرأة؟!
25 يناير: ذروة في الاعتداءات
يقاس حجم التطور النوعي في تعامل السلطة مع صوت المرأة العالي في الميادين، والمسيرات الرافضة لوجود النظام الحالي وممارساته، بعدد وطبيعة حالات التعدي والاغتصاب والتحرش الجنسي بالفتيات والسيدات، في الأيام الأخيرة، بدءا من 25 كانون الثاني/ يناير 2013. فعدديا، سُجِّلت في ذلك اليوم وحده، 19 حالة اغتصاب واعتداء جنسي، وكل الحالات التي وثقت تمت بالأسلوب نفسه. ومع أن الهدف كان جمهور النساء والفتيات المارات، لكن ثمة تركيزا على المنتميات إلى الفرق الميدانية الناشطة التي تعمل ضد التحرش، وعلى الوجوه المعروفة إعلاميا وميدانياً، فبدا أن المعتدين لديهم تعليمات باستهداف شخصيات بعينها. ووفقًا لشهادات الضحايا، فقد كان المعتدي يسـأل من معه: "هيه دي؟" قبل الهجوم عليها. وكانت مجموعات مواجهة التحرش، التي شكلها شباب وفتيات متطوعون، هي المنقذ الوحيد لأي فتاة يتم الاعتداء عليها، وقد قام هؤلاء في منتصف اليوم بميدان التحرير، بتوزيع أوراق بها أرقام تليفونات على الفتيات، للاستغاثة في حال التعرض للاعتداء، وهو ما قامت به هذه المجموعات فعليا في المساء، فتدخلت لإنقاذ خمس عشرة حالة، وقامت بإخراج السيدات من دوائر الاعتداء عليهن، وتوصيلهن لأماكن آمنة، أو للمستشفيات في الحالات الخطيرة.
وصف خطة الاعتداء
اتسع نطاق الاعتداء أيضا، فشمل محاولات اختطاف الفتيات من أحد مخارج كوبري 6 أكتوبر، ومن على كوبري قصر النيل، خلال ليلتي 27 و28 يناير 2013، بالإضافة إلى الهجوم على بعض مقرات اجتماع المجموعات الشبابية الناشطة ميدانيا للتصدي لجرائم العنف الجنسي والتي بدورها رصدت تماثل أشكال الاعتداء ووسائله. كما دللت شهادات الضحايا على أن المعتدين عصابات منظمة، فبدا من مظهرهم العام أنهم ليسوا من نوعية من يتحرشون بالنساء في الشوارع بشكل فردي عابر، بل كانوا منظمين ومدربين، ملامحهم جامدة باهتة، لا تظهر أي علامات بالانفعال، أو شبهة اشتهاء جنسي، ولا يقولون كلاما بذيئا يرتبط بفعل الاعتداء الجنسي. وبدا سلوكهم كأنهم في مهمة، يقسمون أنفسهم مجموعات، يحيطون بالمتظاهرات، ثم يفرضون عازلاً حولهن، يضيق بالتدريج، في تكتيك جديد، حيث يحاولون إيهام المتظاهرات بأنهم يحمونهن، ويقولون لهن: "إحنا أخواتكم متخفوش"، وفجأة ينهالون عليهن، في هجوم جماعي، فتتكاثر الأيادي الآثمة، وتعبث بأجسادهن بشكل عنيف، ومع التدافع، يأتي آخر يتظاهر بأنه يدافع عن الضحية، ويحاول إخراجها من بين أيديهم، حتى تطمئن له، ثم يقوم هو بالتحرش بها، والعبث مجددًا بجسدها. وقد تطور الأمر في بعض الحالات إلى اغتصاب كامل، وبآلات حادة، أدى بإحدى الضحايا إلى استئصال الرحم بعد تهتكه.
الرسالة الواضحة التي أراد مَن وراء هؤلاء توصيلها إلى نساء مصر، أن في الميادين خطرا على حياتكِ وعرضكِ، وسلامتك الجسدية والنفسية، فإذا نزلت فستتعرضين للإهانة والعبث بجسدك، والثمن غالٍ، فالهدف هو كسر الإرادة، والإذلال، وهزيمة النفس. وقد راهن مَن أداروا هذه العمليات لأهداف سياسية، على أمرين، الأول: تواطؤ الأجهزة الأمنية المنوطة بتأمين الميادين والشوارع وحماية المواطنين، والثاني: سكوت المرأة، وامتناعها عن الظهور إعلاميا للتحدث تفصيلاً عما واجهت، أو أن شعورها بالإهانة والاستباحة، سيمنعها من النزول مجددا إلى الميادين. لا سيّما أنها تتحمل وحدها عواقب ما يحدث من مجتمع يضع ضحايا مثل هذه الجرائم في دائرة العار، وفي أحسن الأحوال في دائرة الشفقة، وهذا من قوى سياسية تعاني أمراض المجتمع الذي تنتمي إليه، مهما ادعت الثورية.
لكن ما تعرضت له نساء مصر زادها قوة، عبّرت عنها في سلسلة من الفعاليات الأخيرة، التي كانت أبرزها المسيرات التي شاركت فيها أعداد هائلة من النساء، وأكبر هذه المسيرات كانت المسيرة التي انطلقت في 6 شباط/ فبراير من أمام مسجد السيدة زينب، وضمت آلافا من السيدات، بمشاركة عدد من الرجال، منهم بعض رموز العمل السياسي، بينما عبّر عنوان المسيرة، "الشارع لنا"، عن هدفها. وحتى تؤكد المتظاهرات أنهن متمسكات بالشارع، ولن يتركنه مهما حدث، نزلن بأسلحتهن الجديدة لمواجهة من سيتعرض لهن في الشارع، فحملن أسلحة بيضاء، وعصيا، وأحذية، وزجاجات بها محلول للدفاع عن النفس يتكون من فلفل أسود، وخل، وزنجبيل واسبيرتو أبيض"، ورفعن أعلاما سوداء وحمراء، ولافتات كتب عليها "لا للتحرش"، "ميدان آمن للجميع ضد التحرش"، وصور العديد من الرموز النسائية المصرية مثل: "هدى شعراوي"، "أم كلثوم"، "شاهندة مقلد". وعلت أصواتهن بالهتاف: "بنات مصر متتعراش"، و"الثورة مستمرة".
واللافت أن من بين اللاتي هتفن، وهتف وراءهن الجميع، منتقبات، وكان هتافهن: "قالوا صوت المرأة عورة.. صوت المرأة ثورة ثورة"، وهو ما قابله وزير العدل المصري بتصريح أثار استياء الجميع، طالب فيه المنتقبات بخلع نقابهن قبل الخروج للتظاهر، متناسيا أن المرأة المصرية التي شاركت في الثورة، كانت منتقبة ومحجبة وسافرة، كما أن هؤلاء المنتقبات شاركن في التظاهرات الداعمة لـ "تيار استقلال القضاء"، عام 2006، الذي كان الوزير أحد أعضائه.
مجموعات للحماية من التحرش
ميدانياً، يتشكل كثير من مجموعات العمل والحملات التطوعية لمكافحة التحرش، التي تعمل في الشارع، ومن خلال مواقع التواصل الاجتماعي، للتعريف بحجم القضية، والتوعية بتداعياتها بهدف الحد منها. فقد أعلنت مبادرة "شفت تحرش" عن بدء دورات تدريبية مجانية للنساء لتدريبهن على الدفاع عن النفس، وعلى مهارات الحماية الشخصية ضد أي اعتداء جسدي. ويستهدف البرنامج تدريب عشرة آلاف فتاة مع نهاية العام 2013، بينما تقتصر التدريبات على مهارات الدفاع عن النفس في حال التعرض لأي اعتداء فردي أو جماعي.
هذا بالإضافة إلى مجموعة "قوة ضد التحرش والاعتداء الجنسي"، وهي تشكلت في تشرين الثاني/ نوفمبر ٢٠١٢، للمساهمة في الجهود المبذولة لمواجهة اعتداءات التحرش الجماعي في ميدان التحرير وغيره، أثناء الاعتصامات والمظاهرات، كامتداد تنسيقي لجهود سابقة. كما تقوم المجموعة بتوفير الدعم والمتابعة للسيدات من الناحية القانونية والصحية والنفسية.
وفي الوقت الذي يفترض أن تضع مثل هذه الجرائم أية دولة أمام مسؤوليتها، حمَّل أعضاء "لجنة حقوق الإنسان" بمجلس الشورى في 11 شباط/ فبراير، النساء مسؤولية التعرض للاعتداء الجسدي، فجاء على لسان أحدهم أن "الفتاة تسهم في اغتصابها بنسبة 100 في المئة لأنها وضعت نفسها في هذه الظروف"، وأنه على كل متظاهرة أن تحمي نفسها. وطالب آخر بضرورة منع المرأة وتحذيرها من الوقوف وسط الرجال في المظاهرات، متسائلاً: "كيف تطلب من الداخلية حماية سيدة تقف وسط الرجال؟"، مقترحاً حلاً للكارثة يتلخص في تحديد مكان للمرأة تتظاهر فيه بعيداً عن الرجال! هؤلاء استدعوا الخطاب ذاته الذي ساد وقت تعرية وسحل البنات في الشوارع، أثناء حكم المجلس العسكري، والذي تلخصه عبارة "إيه اللي وداّها هناك"؟
********
سُجِّلت في 25 يناير 2013، 19 حالة اغتصاب واعتداء جنسي. وكل الحالات التي وثقت تمت بالأسلوب نفسه. ومع أن الهدف كان جمهور النساء والفتيات المارات، لكن ثمة تركيزا على المنتميات إلى الفرق الميدانية الناشطة التي تعمل ضد التحرش، وعلى الوجوه المعروفة إعلاميا وميدانياً، فبدا أن المعتدين لديهم تعليمات باستهداف شخصيات بعينها. ووفقًا لشهادات الضحايا، كان المعتدي يسـأل من معه: "هيه دي؟" قبل الهجوم عليها.