في نهاية آب/ أغسطس 2019، قصفت الإمارات قوات تابعة لحكومة الرئيس هادي المعترف بها دولياً، في البوابة الشرقية لمدينة عدن، لترجيح كفة القوات الانفصالية المسيطرة على العاصمة المؤقتة لليمن. عمّ الغضب واليأس كل مناصري الحكومة، الذين وجدوا أنفسهم عديمي الحيلة، بمقابل قوة إماراتية غاشمة تساندها آلة إعلامية متغطرسة.
بعد يومين من الواقعة تسرب إلى مواقع التواصل الاجتماعي فيديو قصير، لناشط انفصالي، يعتلي منصة إسمنتية لدوار في وسط مدينة عدن، يقوم بتصوير سرب من السيارات المارة للتدليل على سير الحياة بشكل طبيعي تحت سيطرة الانفصاليين. ويسمع هذا الناشط من خلف كاميرا هاتفه يردد كلمات حماسية لحظة مرور حافلة نقل عامة صغيرة، كانت على وشك أن تمرق بموازاته، عندما أخرج راكب في المقعد الأمامي المجاور للسائق رأسه، وقاطع الرجل بسؤال:
- هل تستطيع أن تقول قيق وأنت وسط الماء؟
ارتبك المصور، ورد منفعلاً:
- لا. ما أستطيع أن أقوم به هو أن أدفنك تحت التراب.
حقق هذا الفيديو الذي لا تتجاوز مدته دقيقة واحدة نسبة مشاهدات عالية، وصار محتواه سلاحاً معنوياً للمناهضين للإمارات والمجلس الانتقالي الانفصالي الذي تدعمه، وبه تمت مجابهة المسؤولين الإماراتيين على تويتر، الذين درجوا على مهاجمة "الحكومة الشرعية" بلغة مُسفّة تفتقر للحصافة، وألقوا بثقلهم لمساندة انفصال اليمن وتقسيمه.
كما دخل جيش من المحاربين الإلكترونيين اليمنيين إلى تويتر، بهدف واحد: البحث عن حسابَي قائد شرطة دبي الأسبق ضاحي خلفان، والمستشار ذرب اللسان بالديوان الأميري الإماراتي حمد المزروعي، للرد على تغريداتهم التي تخص الوضع اليمني بعبارة واحدة: "تعرف تقول قيق وأنت وسط الماء؟".
ما تحجبه الحرب من أثرها النفسي في اليمن
06-03-2020
بعد أيام تصدرت لفظة "قيق" هاشتاج الشرق الأوسط، واختتم برنامج "فوق السلطة" على قناة الجزيرة إحدى حلقاته، بمقطع فيديو لشباب يحاولون قول كلمة "قيق" في وسط حوض زجاجي مائي، ثم رأينا لافتات في الجزائر، رفعها متظاهرون يسألون مرشحيهم المفترضين لانتخابات تلقى معارضة شعبية: "أخي المرشح، هل تستطيع أن تقول قيق؟".
ولمن يبحث عن معنى اللفظة الساخرة في مجابهة القوة وخطاب الغلبة، فلن يجد شيئاً، سوى أن السريالية التي يولّدها الغضب، والتي لا تقول شيئاً هي أيضاً كل شيء. فالمتهكم في الفيديو القصير محل هذا الحديث هو مواطن جنوبي، تفترض حالة الاستقطاب القائمة أن خطاب الرجل الواقف في الدوار يمثّله، غير أنه وبعفوية راكب حافلة غير مسيس، وعابر، أبدى بوضوح مقاومة العامة للخطاب الهوياتي الذي يتصدى له حملة السلاح الانفصاليين، ويروّجون لأكذوبته.
نووي!
في أيلول/ سبتمبر 2006، خاض علي عبد الله صالح الانتخابات الرئاسية، بعد أسبوع من اسكتش مسرحي مثّل فيه دور الرجل الزاهد بالسلطة والراغب عنها. وعندما شرع بحملته الانتخابية، سأل مستشاريه الذين دفعوه قسراً للسلطة، ماذا أقول للناس؟ فأشاروا عليه: اكذب. وأعدوا له قائمة وعود استفتح بها عهداً جديداً من الاستبداد.
قال في حفل انتخابي أقيم بالاستاد الرياضي بمحافظة إب (وسط اليمن) وغص بالحاضرين واللافتات: لو انتخبتموني، سأولد الكهرباء بالطاقة النووية. ثم توجه جنوباً إلى مدينة تعز العطشى، للقاء حشد آخر من ناخبيه وقال لهم: لو انتخبتموني سأحلّي لكم مياه البحر. وشرقاً بمحافظة المهرة، قال بعدها بأيام: سينطلق القطار إلى أرجاء اليمن من هنا، نعم.. من هذا المكان، لو انتخبتموني.
تصدرت لفظة "قيق" هاشتاج الشرق الأوسط، حتى رأينا لافتات في الجزائر، رفعها متظاهرون يسألون مرشحيهم المفترضين لانتخابات تلقى معارضة شعبية: "أخي المرشح، هل تستطيع أن تقول قيق؟". ولمن يبحث عن معنى اللفظة الساخرة في مجابهة القوة وخطاب الغلبة، فلن يجد شيئاً، سوى أن السريالية التي يولّدها الغضب، والتي لا تقول شيئاً هي أيضاً كل شيء.
انتهى الحفل الانتخابي في إب على انهيار سياج حديدي، ومقتل 51 شخصاً وجرح 238 بالتدافع، بينما مر الأمر بسلام في محافظتي تعز والمهرة.
في مساء يوم الاقتراع، وقبل إغلاق صناديق الاقتراع بلحظات، سأل مذيع قناة خارجية مراسله في اليمن: أين وصلت الأمور بشأن الانتخابات؟ فرد عليه: أعلنت النتائج، ولم يتبق سوى عدّ الأصوات.. فاز صالح. رفض مرشح المعارضة فيصل بن شملان الإقرار لخصمه بالفوز، فيما سلم الناس لقائدهم المستبد، ورهنوا رضاهم بتنفيذ وعوده الانتخابية.
مرت سنة من اللاشيء، غير أن صالح خرج بتصريحات يقول فيها: تم تنفيذ 99 في المئة من برنامجي الانتخابي. ومع يقين الناس بأن تحلية مياه البحر، وتوليد الطاقة النووية، والإتيان بالقطار، لا يمكن بأي حال أن يستوعب في ما نسبته 1 في المئة من البرنامج الانتخابي، قرروا الانتقام من صالح، وأكاذيبه البيضاء على طريقتهم.
في مساء يوم الاقتراع، وقبل إغلاق الصناديق بلحظات، سأل مذيع قناة خارجية مراسله في اليمن: أين وصلت الأمور بشأن الانتخابات؟ فرد عليه: أعلنت النتائج، ولم يتبق سوى عدّ الأصوات..
في محافظة تعز التي عمّق الجفاف أزمتها، دعت القوى الحزبية إلى مظاهرة، لتذكير صالح بوعده تحليةَ مياه البحر. ارتبك الرجل لأن خروج تعز لا يعني شيئاً غير "الثورة"، فاستبقهم بلقاء صحافي لجريدة "الوسط" الأهلية رد فيها على المعارضين: ما الذي يريده هؤلاء؟ أن أمطر لهم؟ لست الله لأنزل المطر. ليصلوا صلاة الاستسقاء، ويحسنوا من نواياهم.
وفي العاصمة صنعاء وبقية محافظات الجمهورية، واجه الناس الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي بتهكم ودعابات سوداء.. فكانوا يبدون حرصاً على تسمية أصابع الشمع التي يبتاعونها من البِقالات، ليواجهوا بها الظلام: "الطاقة النووية". وعرف على نطاق واسع لدى الباعة، أنه عندما تطلب منهم سلعة "الطاقة النووية" يتوجهون إلى الأرفف التي توضع بها أصابع الشمع.
دردشات عن كتب الأرصفة
12-05-2019
أما أكذوبة القطار، فواجه الناس صعوبات في كيف يقبضون على ما في محتواها ليواجهوا بها سلطة ناكثة، حتى أتى العام 2011 بربيعه، وقد تمت منتجة أكاذيب صالح على شكل فيديوهات مصحوبة بأصوات حمير ناهقة، وخطابات لمقلدين قديرين. خرج صالح لإقناع الثوار بالعودة إلى منازلهم، فخاطبهم بالقول: ارجعوا إلى منازلكم، لقد فاتكم القطار. وفي اليوم التالي لخطابه، رد عليه المتظاهرون برفع لافتات في ساحة التغيير كتب عليها: أي قطار؟ هل تقصد فاتنا الحمار!
إب.. عاصمة النكتة
عند الحديث عن مَواطن صناعة النكتة، يأتي اليمنيون على ذكر محافظة ذمار (جنوب العاصمة صنعاء). غير أن المتابع لواقع الحال، يرى تركّز الدعابة السياسية حالياً في محافظة إبّ. وهذه الأخيرة من محافظات الوسط اليمني، وهي منطقة جذب سياحي بسبب طبيعتها الخصبة والخلابة، ما جعلها هدفاً استباحياً لكل السلطات المتعاقبة، ونافذيها.
ولّد الإخضاع الطويل لسكان هذه المحافظة شبكةً مشيخية معقدة من المصالح، ومواطناً مقهوراً بلسان حاد ولاذع، وأبطالاً اجتماعيين جل وظيفتهم في الحياة التهكم.
واجه الناس الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي بتهكم ودعابات سوداء.. فكانوا يبدون حرصاً على تسمية أصابع الشمع التي يبتاعونها من البِقالات، ليواجهوا بها الظلام: "الطاقة النووية". وعرف على نطاق واسع لدى الباعة، أنه عندما تطلب منهم سلعة "الطاقة النووية" يتوجهون إلى الأرفف التي توضع بها أصابع الشمع.
يبرز في هذا الإطار الشيخ عبد العزيز الحبيشي، وينسب إليه عدد من أبرز النكات السياسية، منها واحدة تتحدث عن مجلسه الذي يغص كل يوم بشخصيات من حملة الدكتوراه، ومثقفين، وسياسيين. وذات مرة سأله أحد ضيوف مجلسه من الأكاديميين: برأيك يا شيخ متى سيتطور اليمن؟ فرد عليه: عندما يحضر الشيوخ مجالس الأكاديميين وليس العكس.
____________
من دفاتر السفير العربي
أقاليم اليمن الستة
____________
ومع سيطرة جماعة "أنصار الله" الحوثيين على هذه المحافظة، وإطباق قبضتهم الحديدية على مواردها، تحولت مقاومة هذا الطغيان بالنكات إلى شأن يومي. ففي نكتة سوداء، يحكي الأهالي عن دخول مجموعة من المسلحين الحوثيين إلى مجلس أحد الشيوخ في المحافظة، وإلقاء التحية على مرتاديه بالقول: تحية يا رجال، ليرد عليهم الشيخ بلسانه السليط، وهو متكئ على رأس مجلسه: لو كنا رجالاً لما كنتم هنا. ولإمساكها بالسلطة بالقوة، جاءت جماعة "أنصار الله" إلى حياة اليمنيين بذريعةٍ تحولت إلى نكتة. ففي 21 أيلول/ سبتمبر 2014 اجتاحت الجماعة صنعاء لإسقاط مبلغ 1000 ريال، الزيادة التي قررتها حكومة هادي على غالون المشتقات النفطية. بعد ذلك ارتفعت أسعار الغالون أضعافاً مضاعفة..
وسبق دخول الحوثيين إلى صنعاء نكتة تقول أن السفير الأمريكي بصنعاء سُئل لماذا تكره الحوثيين، فقال: لأنهم يسبون الصحابة.
ينسب الى الشيخ عبد العزيز الحبيشي من إبّ، عدد من أبرز النكات السياسية، منها واحدة تتحدث عن مجلسه الذي يغص كل يوم بشخصيات من حملة الدكتوراه، ومثقفين، وسياسيين. وذات مرة سأله أحد ضيوف مجلسه من الأكاديميين: برأيك يا شيخ متى سيتطور اليمن؟ فرد عليه: عندما يحضر الشيوخ مجالس الأكاديميين وليس العكس.
وتمحورت معظم النكات في عهد الحوثيين حول رئيس اللجنة الثورية محمد علي الحوثي، وزعيم الجماعة عبد الملك الحوثي، ومن ذلك اعتقاد الأخير بأن ثروة البلد تكمن في الأحجار الكريمة غير المستخرجة، ودعوته لدعم البنك المركزي بمبلغ خمسين ريالاً، ومقاومته لـ"الغزاة والمحتلين" بالقداحات، وطلبه من اليمنيين أكل البطاطا لمواجهة المجاعة.
عبد ربه التائه
عندما تولى الرئيس عبد ربه منصور هادي قيادة المرحلة الانتقالية، في آذار/ مارس 2012، توقف منسوب النكات قليلاً، لإفساح المجال له لتولي زمام الأمور. غير أنه وبعد أن انحرف المسار السياسي باتجاه الحرب، أعاد النهر تدفقه. فعقب هروب الرئيس هادي إلى عدن، برزت نكتة من مناصري الرئيس للتدليل على أنه استلم سلطة غير فعلية، تحدثت عن أن صالح لم يسلّم لهادي من قيادة البلد سوى العلم الجمهوري، غير أنه اكتشف فيما بعد أن العلم الذي استلمه لم يكن علم اليمن، وإنما علم مصر.
ويأخذ اليمنيون على هادي استخدامه لهجة محلية مغرقة بالبداوة لدى حديثه إلى مواطنيه والعالم. ففي أثناء مؤتمر صحافي له في تركيا، في شباط/ فبراير 2016 استخدم هادي مصطلح "زقرنا" للإشارة إلى "القبض" على سفن إيرانية في خليج عدن. ودائماً ما تأخذ الكلمات في لهجة هادي المحلية، والتي تنتمي للساحل الجنوبي، معناها النقيض، ما جعلها محل تندّر عند مواطنيه.
فعبارة "سنمضي إلى الأمام"، تتحول إلى "سنمضي إلى الإمام" بالكسر، ليصبح التعبير الأخير واقع حال، مع اعتقاد الناس أنه بالفعل تمّ تسليمهم إلى جماعة الحوثي التي تتمثل الفكر "الإمامي" في ممارساتها.
وعلى ما فيه من اليقظة والمكر، بقيت النكتة في ساحة صالح طويلاً، حتى بعد مقتله. ففي منتصف كانون الثاني/ يناير 2018 اندلعت حرب في مدينة عدن بين الحكومة المعترف بها دولياً والانفصاليين. ولأن اليمنيين لا يستطيعون تخيل حرب دون وجود صالح، استخدموا الفوتوشوب لإشراكه: وضعوا رأس صالح الضاحك بشماتة على جسد طباخ يلبس ملابس بيضاء وطاقية ورقية، ويقوم بحركة صبيانية من يديه، وكتبوا أسفلها: أنا لم أعد أتدخل بشيء، أنا ميت!