تركة السادات: ذكريات مراهقين مصريين

حين التقى مراهقون مصريون لأول مرة، وجهاً لوجه، بزوار إسرائيليين إلى ضريح الحاخام أبو حصيرة في قرية بالقرب من دمنهور. كان ذلك بُعيد توقيع السادات لاتفاقية السلام مع إسرائيل: مشاعر الدهشة والمهانة.
2020-07-30

ممدوح عبد المنعم

كاتب، من مصر


شارك
يعقوب "أبو حصيرة".

لا أتذكر بالتحديد متى حدث ذلك. ولكنه كان أحد المساءات بين عامي 1979 و1980. كنت أقف مع مجموعة من الأصدقاء أمام كوبري أبو الريش القديم، وكنا جميعاً فى بداية سنوات مراهقتنا. على مقربة منا توقفت حافلتان ترجلت منهما بهدوء مجموعة من الرجال والنساء. للوهلة الأولى أدركنا غرابة مظهرهم، ثم أدركنا أيضاً وبسرعة أنهم غير مصريين.

فجأة قفز الخاطر فى ذهني، وكأن دلالاته قد تجمعت للتو رغم أنها نبتت على مهل خلال الشهور الفائتة.. سفر السادات إلى الولايات المتحدة، توقيعه اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل برعاية أمريكية، وقد ظلت بعض بنودها سرية لم يعلم بها الشعب المصري، ولم تعرض على البرلمان... حصول السادات على جائزة نوبل للسلام مناصفة مع مناحم بيغين رئيس وزراء إسرائيل... زفة الإعلام الذي بشرنا بأنهار اللبن والعسل بعد اتفاقية السلام، وانتهاء سنوات الحرب إلى الأبد...

إسرائيليون. همستُ في أذن صديقي: إنهم إسرائيليون!

علت الصفرة وجوهنا، واجتاحنا مزيج من الغضب والنفور والدهشة. أدركنا أن عبث الساسة قد وصل إلينا فى عقر دارنا، وأننا أصبحنا جزءاً فعلياً من "معاهدة السلام". كنا نرى إسرائيليين للمرة الأولى. وجوه حقيقية غير التي كانت تطالعنا فى الصحف، ونحن نتابع الصراع المرير على حقوقنا المهدورة وأوطاننا الضائعة. كنا ذلك الجيل الذي استقبل حياته المدرسية ونصر أكتوبر هو الحدث الأهم.

فى طابور الصباح قصص مؤثرة عن أمجاد العبور وبطولات جنودنا المدوية على خط النار وهلع الدولة الإسرائيلية وتحطم أسطورتها التي لا تُقهر. وفى النشاط المسرحي المتواضع، لا بد من تجسيد تلك اللحظة التي استطاع فيها أحد الجنود أن يرفع العلم المصري فوق خط بارليف، وهو يستقبل رصاصات العدو بينما تعلو وجهه ابتسامة النصر والفخار. وفي حصص الرسم ما زلت أذكر تلك الدبابات التي كنا نتبارى في إبراز قوة جنازيرها وسماكة مدافعها ووجوه الجنود الإسرائيليين التي كنا نجتهد أن تخرج مذعورة ونحيفة أمام سيطرة وقوة جنودنا البواسل.

كنا ذلك الجيل الذي يعرف أن إسرائيل هي العدو، وما زال يعيش فى تلك الأجواء التي خلفتها الحرب. أجواء النصر الحذر والوطن الذي استنزفته محنة الحرب.

علت الصفرة وجوهنا، واجتاحنا مزيج من الغضب والنفور والدهشة. أدركنا أن عبث الساسة قد وصل إلينا فى عقر دارنا، وأننا أصبحنا جزءاً فعلياً من "معاهدة السلام". كنا نرى إسرائيليين للمرة الأولى.

صار مشهد الضباط الكثر بأرديتهم السوداء، وهم يقفون على مدار اليوم يؤمّنون الأفواج ويشرفون على مرورها، حزيناً، ويحمل في طياته مهانة لا تغتفر.

إذاً ها نحن أمامهم هكذا، وجهاً لوجه! كانت أعمار أغلبهم تتراوح بين الخمسين والسبعين عاماً. لم يكن بينهم شباب. تجمعوا ببطء وهم يحملون حقائب خفيفة. توقفوا أمام أحد بائعي الفاكهة، ثم سمعنا أحدهم يقول للبائع واحد برتقال وواحد موز. بالعربية. اندهشنا للغاية، فلم نكن نظن أبداً أنهم عرب أو أنهم يتحدثون اللغة العربية. سارع الفاكهاني إلى احضار كيس كبير وشرع فى تعبئة الثمار، ولكن الرجل استوقفه بإشارة سريعة قائلاً: موزة واحدة، برتقالة واحدة. بدت ملامح خيبة الأمل على وجه البائع الذي سارع قائلاً بمرارة "خليها علينا خلاص يا خواجة" بعد أن خابت توقعاته بربح سريع ووفير.

مقالات ذات صلة

اقترب أحدنا منهم متردداً، وتبادل معهم كلمات قليلة ثم أشار لنا فاقتربنا. سمعنا أحدهم يقول: نحن إسرائيليون ومعنا يهود من المغرب وتركيا والعراق. ثم تحدث الرجل كثيراً عن السلام الذي عقده معهم أنور السادات، وقال أن هذه الزيارة ثمرة مباشرة لهذا السلام. كان الرجل سعيداً أنه جاء أخيراً إلى مصر لزيارة "أبو حصيرة"، ذلك الجد البعيد الذى يتبركون به، والمدفون في "دمتيوه" ومعه أيضاً مجموعة من اليهود الذين استوطنوا "دمنهور" فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وجزء كبير من القرن العشرين. كنا نعرف من هو أبو حصيرة بطبيعة الحال، وإنْ كانت سيرة الرجل قد اختلطت فيها الحقائق بالأساطير، بحيث بتنا لا ندري ما هو الحد الفاصل بينهما. الأسطورة التي ربما كانت تحمل بعض الحقيقة أن الرجل هو الحاخام المغربي "يعقوب مسعود" الذي غادر المغرب لزيارة بعض الأماكن المقدسة فى فلسطين، ولكن سفينته غرقت في عرض البحر وظل الرجل عائماً متعلقاً بحصيرته حتى أدرك النجاة.

كنا نحاول أن نفهم كيف يمكن أن يحدث ذلك بهذه السرعة ؟ كيف يمكن أن نحارب هؤلاء بالأمس القريب، ثم نجدهم بعد سنوات قليلة للغاية يطأون أرضنا ويحاولون استعادة ذكرياتهم بها. كنا نحاول أن نفهم ماهية هذا السلام الذين يتحدثون عنه. هل هو سلام حقيقي بالفعل؟ وهل يمكن أن يحدث هذا السلام بعد كل هذه الدبابات التي رسمناها، وموضوعات التعبير التي استخدمنا فيها بإسراف وإصرار كلمة "العدو الصهيوني"!

من هذا الرجل الذي يقف أمامنا الآن؟ أليس من الجائز أن يكون هو والد ذلك الجندي الذي قتل جارنا الطيب في سلاح المدرعات في معارك الثامن من أكتوبر؟ أليس هو الذي أجج نيران الكراهية والعنصرية في قلب ابنه ودفعه لاحتلال أرض لا يملكها بقوة السلاح؟ ما الذي يدفعني الآن إلى التعاطف مع هذا الوغد الذي جاء يستعيد ذكرياته على أرضي البائسة؟

لم تعد الزيارات كما فى المرة الأولى، هادئة وسريعة تأتي على استحياء وتنصرف على عجل، بل كانت الأعداد تزداد في كل مرة، وإجراءات الأمن معها تغلظ. ولم نعد نملك رفاهية الوقوف على الكوبري، ومشاهدة الأفواج وهي تعبر إلى القرية. فقد أصبحت مواكب حافلاتهم تمر من الطريق السريع المختصر الذي تمّ تشييده في مدخل المدينة الجنوبي.

كان الرجل يرتدي تلك الطاقية التى فشلنا جميعاً فى معرفة كيف تحتفظ بثباتها على رأس الرجل رغم صغر حجمها. عندما اكتمل جمعهم ساروا على أقدامهم بهدوء يتقدمهم مرشد الرحلة. عبروا الكوبري متجهين إلى قرية "دمتيوه" القريبة، والتي تضم مقبرة "أبو حصيرة" على تلٍ مرتفع.

كان لافتاً أنه لم تكن معهم أي حراسة مصاحبة. عددهم لا يتجاوز الخمسين، وأغلبهم تبدو عليه علامات الفقر. كانوا يتبادلون حديثاً هامساً ويدخنون وهم يتطلعون صوب القرية التى أصبحت وشيكة.

سرنا خلفهم ببطء حتى وصلوا إلى مكان الضريح. وهناك صعدوا سلماً عالياً يوصل إلى حجرة الدفن. أردنا أن نصعد معهم ولكن رجل أمن وحيد فى المكان منعنا بصرامة. إلا أن واحداً منا استطاع أن يعبر معهم من غير أن يلفت نظر الحارس. تسلل كأنه واحدٌ منهم، فجلسنا بعيداً بانتظاره. ثم عاد ليحكي عن حفلة شواء وخمر جرت في الأعلى، وسط دهشتنا الشديدة من إقامة تلك الطقوس على قبور أجدادهم الراحلين!

____________
من دفاتر السفير العربي
في أهمية موقف اليهود المناهضين لإسرائيل والصهيونية
____________

عندما عدتُ إلى البيت في تلك الليلة حكيت لأبي ما جرى فاستمع إليّ مطولاً ثم بكى. أتذكر الآن غضبه ولعناته التي صبّها على رأس السادات. أخبرني أن ما حدث اليوم هو بداية سلسلة من التفريط والنكبات التى سوف تتوالى، وهي أكبر من قدرتنا على منعها. أخبرني أن مصر قد تمّ استئصالها من محيطها الحيوي في الإقليم الذي كانت هي قاطرته المؤثرة ومحرك أحداثه.
فى مساء ذلك اليوم، كان الراديو يبث أغنية لأم كلثوم ظهرت فجأة من أرشيف أغانيها، وكانت تذاع بكثافة خلال فترة المفاوضات فى كامب ديفيد وما بعدها. كانت الأغنية تقول:

بالسلام إحنا بدينا.. بالسلام
ردت الدنيا علينا.. بالسلام
بالسلام.. بالمحبة.. الدنيا تحيا
ليه يكونوا ناس في ناحية.. وناس في ناحية
مهما كنا.. ومهما كنتم.. من حقوقنا.. إحنا وأنتم
الحياة.. والسلام.

وعلى الرغم من أن السيدة أم كلثوم كانت قد رحلت في شهر شباط/ فبراير 1975، إلا أنه تمّ الإيحاء بأن الأغنية قد صُنعت خصيصاً من أجل الاتفاقية التي أبرمها السادات مع إسرائيل في أيلول/ سبتمبر 1978.

في اليوم التالي توجهتُ مع أصدقائي إلى القرية. كان ثمة فرحين بالحدث. عدد من سكان القرية كانوا سعداء لأنهم تمكنوا من بيع خرفانهم بأسعار مجزية "للزوار" لإقامة حفلة الشواء. أخبرني بعضهم أنه يتمنى استمرار تلك الزيارات على مدار العام، وأنه يشعر أن اتفاقية السلام تلك هي بداية الخير العميم. اعتصمت بصمتي وانصرفت.

اغتيل السادات في تشرين الأول/ أكتوبر 1981 ولكن الحج اليهودي إلى تل أبو حصيرة استمر، من جملة التركة التى ورثناها عنه. لم تعد الزيارات كما كانت في المرة الأولى، هادئة وسريعة تأتي على استحياء وتنصرف على عجل، بل كانت الأعداد تزداد في كل مرة، وكانت إجراءات الأمن معها تغلظ وتتوحش. لم نعد نملك رفاهية الوقوف على الكوبري ومشاهدة الأفواج وهي تعبر إلى القرية. أصبحت الأفواج تأتي على مدى أيام متتالية. تمر مواكب حافلاتهم من الطريق السريع إلى مدخل القرية عبر طريق مختصر تمّ تشييده في مدخل المدينة الجنوبي (ما زال أهل دمنهور يطلقون عليه "كوبري أبو حصيرة").

أدركت ثورة يناير 2011 الجميع، وفي زخمها صدر حكم القضاء الإداري بتاريخ 29/12/2014 بإلغاء مولد أبو حصيرة نهائياً وعدم اعتباره أثراً تاريخياً، بل إنسانياً، وشطبه من سجل الآثار.

صار مشهد الضباط الكثيف بأرديتهم السوداء، وهم يقفون على مدار اليوم يؤمنون الأفواج ويشرفون على مرورها، مشهداً حزيناً ويحمل في طياته مهانة لا تغتفر.

تجمعت ضمائر هنا وهناك وتشاركت ذلك الألم في محاولة للتخلص من تلك التركة الكابوسية، ولكن السلطات أصدرت مجموعة من القرارات التي تجعل من مقبرة أبو حصيرة أثراً ثقافياً وتاريخياً، ومن ثَمّ أصبح الحج إليه كل عام أمراً طبيعياً. وهي قرارات كانت فى جملتها ضمن رسائل الغزل السياسي بين مصر وأمريكا والتي لم تكف.

ثم جاءت ثورة يناير 2011، وقد أدركت الجميع، وفى زخمها الطيب صدر حكم القضاء الإداري بتاريخ 29/12/2014 بإلغاء مولد أبو حصيرة نهائياً وعدم اعتباره أثراً تاريخياً، بل إنسانياً، وإلغائه من سجل الآثار. وألزم القرار كذلك الإبلاغ بشطبه من اللجنة الدولية الحكومية ولجنة التراث العالمي بمنظمة اليونسكو.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

عمْ "سيِّد"

هو أحد أقارب والدي، لا أراه إلا نادراً. عرفتُ قصته بالصدفة في حوار عائلي عابر، ولكن الرجل – بعد تردد - أطلعني على بقية التفاصيل المؤلمة، التى لايعرفها إلا قلة...

عبد الله النديم، ثائر لا يهدأ

أشهرت البعثة البريطانية إفلاس مصر فى السادس من نيسان/ إبريل عام 1879. وفي أعقاب ذلك الإعلان، قام السلطان العثماني بعزل الخديوي إسماعيل وتولية ابنه "محمد توفيق باشا" على مصر بدلاً...