"الداخلية" أساس الحكم والحداثة في مصر

يقبع جانب كبير من فن إدارة الحكم في مصر داخل سراديب الداخلية العميقة، وتحت أيدي ضباط لم يتورعوا عن قهر وإذلال الشعب المصري، ولم يتراجعوا يوماً عن التصادم معه في كل مرحلة تاريخية حاسمة..
2015-07-29

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
سعد يكن - سوريا

بداية الحداثة في مصر ارتبطت بالجيش. ولكن تشكل الحداثة كآليات حكم وإنتاج وإدارة للحياة تمركزت حول "الداخلية". فأغلب مكونات الحوكمة (أي فن إدارة السكان وحياتهم بالكامل) تقع داخل مؤسسة الداخلية أو على هامشها. وفي الوقت الذي تم تكثيف الحداثة وتطبيقها كمنظومة حكم، غاب الجيش، إما بسبب معاهدة لندن 1840 والهزيمة، أو بسبب فشل الثورة العرابية والاستعمار 1882، وحضرت الداخلية بكل قوتها. هيمنة الداخلية على الحوكمة، تشبه ضبعاً أسود قابعاً على صدور الجميع في الغرفة.. بينما لا أحد يراه.

من القلعة إلى عابدين

ظلت مصر تُحكم من "القلعة" حتى استكمل نهائياً بناء قصر عابدين وشبكة مؤسسات الدولة حوله 1872. وظهرت أبرز مؤسسات الحكم الحديثة في مصر بالقرب من بعضها: القصر ووزارة العدل ووزارة الداخلية. بينما لم تتواجد وزارة الحربية ضمن هذه التشكيلة، وكأن للأمر دلالة عميقة عما ستكون عليه الأوضاع في التأسيس الجديد والمركزي لمصر الحديثة. شكلت عابدين وقصرها النقلة الأخطر في الحوكمة في مصر، فانتقل الحكم من خارج المدينة إلى قلبها، بل يمكن القول إنّه تم حينها إنتاج المدينة الحديثة. وهذه كانت المحطة الأخيرة في اتخاذ المؤسسات الحديثة شكلها الأخير وحضورها في مصر: تضمن من جهة الولاء السياسي للحاكم وتحافظ على شرعيته، وتوفر مؤسسات تخترق الأنسجة الاجتماعية للسكان وتتدخل في إنتاج حياتهم وضبطها، حيث لم تعد تأتي من الخارج للإخضاع، وإنما صارت في الداخل، للإدارة.

جاءت هذه النقلة للدولة من خارج المدينة إلى داخلها، في الوقت نفسه الذي بدأ يتم تأسيس مدن القنال والاحتياج إلى الضبط البوليسي وإلى شكل جديد من وضع مؤسسات الانضباط وعلاقتها برأس المال العالمي داخل هذه المدن (وهو ما يشير إليه الباحث إبراهيم الهضيبي). لقد تداخلت مكينزمات الانضباط الحديثة مع العملية الرأسمالية والريعية في تاريخ مصر الحديث. نحن هنا أمام إنشاء المدن الحديثة، وإنشاء أهم مصدر للدخل في مصر (قناة السويس) على صلة وطيدة بجانب من رأس المال العالمي، سواء أكان بضائع أو مواد خاما، وأهم وأكبر مصدر ريعي في مصر حتى الآن. وقد رُبط الانضباط بالعمل في المدينة بالبوليس. ويشير الهضيبي إلى أن الداخلية بدأت تضطلع بمهام مراقبة عمال شركة قناة السويس والمساجد والكنائس وكافة أشكال الانضباط والسيطرة السياسية والاجتماعية. وفي هذا، لم يكن للجيش أي دور حقيقي.

إجهاض الثورة العرابية وهيمنة الداخلية

تسببت هزيمة الثورة العرابية في ترسيخ هيمنة الداخلية على الحكم في مصر، التي أصبحت المؤسسة الأكثر قرباً من الحاكم وولاء له. وشهدت تلك المرحلة بداية وضع لبِنات جهاز "أمن الدولة"، حيث تم إنشاء قسم مخصوص لمطاردة العرابيين وملاحقتهم.. الذي تطور إلى "جهاز أمن الحدود" لمراقبة الثورة المهدية في السودان عن قرب. ومع استعمار مصر، ركز مشروع اللورد كرومر، الذي يعتبره البعض أهم مرحلة في تشكيل السلطة الحديثة والمؤسسات في البلاد، على محاولة استكمال التحول من أشكال السلطة القديمة إلى تلك الحديثة، حيث تعتني السلطة بالحفاظ على الجسد وضبطه وليس سحقه. وكانت الداخلية أهم مؤسسة في الحكم في عهد الاستعمار، بل كانت هي المُناط بها الحكم من قبل المستعمِر.

في 1913 نشأ "القلم السياسي"، وفي 1914 تم إصدار قانون الطوارئ. هكذا استكملت الداخلية آخر أدواتها حتى تطلق يدها على المجتمع وتحكمه بالحديد والنار والإدارة والصفقات، وتصير كل أشكال فن إدارة الحكم تحت سيطرتها. لم يكن محمد لاظوغلي باشا رئيس وزراء مصر أيام محمد علي، الذي تنسب إليه مجزرة القلعة الشهيرة، ولا عصابته ولا محمد علي نفسه ليتخيلوا ما سوف تصير عليه هذه الوزارة من قوة وجبروت في المستقبل.

كانت الداخلية في القلب من مشروع اللورد كرومر لعدة أسباب: الولاء السياسي وإنفصال هذا الجهاز عن المجتمع المصري وولائه للقصر والمستعمِر، وقد بدأ هذا بوضوح مع الثورة العرابية حيث انضمت فصائل وقوى اجتماعية عديدة للحركة الثورية، إلا الداخلية التي أخذت جانب القصر ثم تحالفت مع الانكليز لطعن عرابي وخيانة الجيش والمقاومة المصرية.

السبب الثاني والأهم، هو أن مشروع اللورد كرومر كان مشروعاً تحديثياً يهدف إلى إنتاج حياة قابلة للترشيد والضبط والمراقبة، بغاية إنتاج مستديم ومستقر للموارد، والاستيلاء عليها. انتهت مرحلة الغزو وبدأت حالة الاستعمار والإدارة. وعلى أيّة حال، فمشروع التحديث جوهره البوليس (بحسب ميشال فوكو). في هذه الفترة تعاظم دور الداخلية بسبب علاقتها بالاستعمار، وهي حليف مركزي له، يراقب المجتمع المحلي ويخترق أنسجته المختلفة ويتجسس عليه ويقوم برصد كل التحركات السياسية والمقاوِمة ضده ويفخخ الحياة السياسية ويهيمن عليها لمصلحته. فلعبت المؤسسة دوراً محورياً ومركزياً في التحديث وإدارة المجتمع والأجساد والمساحات.

وكان على القصر أن يقرب الداخلية منه أيضاً، لأنها من يحافظ له على الولاء السياسي ويبطش بمعارضيه ويحفظ شرعيته من المؤامرات داخل القصر وخارجه. وهكذا ظلت الداخلية تلعب ثلاثة أدوار عميقة داخل الدولة وبنية المجتمع في مصر: تنفيذ القانون، ممارسة الانضباط، القهر والهيمنة السياسية. وليس مصادفة أننا نتحدث عن "داخلية" وليس بوليس، فأغلب ما يقع من إدارة الحياة في مصر يقع تحت إدارة الداخلية، التي لم يقتصر ما كان منوطاً بها على العمل الشرْطي ومكافحة الجريمة وتنفيذ القانون فقط.. وهو الحال نفسه حتى يومنا هذا.

طاغوت البيروقراطية ومُجمَّع التحرير

على مدار عقود، ربما ما يزيد عن نصف قرن، لم يتوقف المصريون عن نقد البيروقراطية وفسادها وتغولها. وصار "مُجَّمع التحرير" أعظم رمز لإذلال المصريين بنيوياً ومعنوياً. ومع هذا لم يجرؤ المصريون على حرقه، ولم يقْدم أحد على هذه الخطوة أثناء الثورات وموجاتها المختلفة، ولا حتى في انتفاضة 1977. لم يجرؤ أحد على هذه الخطوة لأن الجميع كان يعلم أنه هاهنا تقع حياة الأفراد، هنا أنت موجود داخل معادلة الحداثة والسلطة والدولة لأنك رقم على ورقة عليها ختم النسر. ولكن من يحكم هذا المجمَّع؟ بالطبع البيروقراطية المصرية. والجميع يعلم قوتها وأهميتها في معادلة الحكم والإرضاء الشعبي. وهي دوماً موضع خطاب رأس السلطة في مصر، ويسعى كل من يحكم لخطب ودها وتقديم بعض القرابين لها من حين لآخر. ولكن جزءاً كبيراً من هذه البيروقراطية القابعة داخل مُجمَّع التحرير تابع بالكلية لوزارة الداخلية. ولن يفلت نظرك من رمز الداخلية اللامع على أغلب الإدارات، فوجود جماعة الداخلية داخل المجمع لا يقتصر على التأمين، وهو هنا ليس بغرض القمع، بل إنهم هم الإدارة. والسلطة تسعى دوماً لترميز نفسها وخلق إشاراتها وعلاماتها لتعلن عن حضورها، وتقوم بتحديد مساحات نفوذها. وفي مجمع التحرير، لن يتركك نسر الداخلية أينما ذهبت، حتى داخل المراحيض. وعلى الرغم من خضوع قطاعات كبيرة ومهمة من البيروقراطية المصرية لإدارة الداخلية وتنظيمها، سواء داخل مجمع التحرير أو خارجه، مثل السجل المدني بشكل عام، فالجميع يلعن "البيروقراطية"، بينما لا أحد يتكلم عن الضباع السوداء في الغرفة.

أجهزة اختراق المجتمع

تحمل الداخلية في يدها ثلاث سلطات واسعة: البيروقراطية، القمع، المعرفة. وبالتالي، فهي أكثر مؤسسات الدولة اختراقاً للنسيج الاجتماعي عبر عدة أجهزة مختلفة بداخلها. فمثلاً جهاز المباحث العامة يقوم بإدارة العديد من المناطق السكنية الحضرية والريفية، وهو من يضبط الاتفاقات الاجتماعية المختلفة، والأجساد الخطرة في المجتمع، ويشارك في تنظيم وتحجيم الجريمة، بل ويتدخل نسبياً في إدارة السوق وبعض علاقات التجارة، هذا بالإضافة إلى دوره القمعي والقانوني. وتعد المباحث العامة أحد أهم الروافد المعرفية للداخلية حيث تقع بيدها أغلب أخبار المجتمع وعلاقاته ببعضه. ومن خلال هذا الجهاز يمكن رؤية المجتمع كشبكات ومجموعات من الفاعلين وأصحاب المصالح، وبالتالي يمكن تقطيع وتفكيك أوصاله، فلا يعود كتلة مجهولة وغامضة. كما أن كل شيء يعمل داخل هذه البلد له مباحث خاصة به، فهناك مباحث التموين، مباحث الكهرباء، مباحث السياحة إلخ... ثم يأتي بعد ذلك الجهاز الأهم والأخطر وهو "أمن الدولة"، وهنا نحن نتحدث عن جهاز يتحكم في كل من اللغة والخطاب والإعلام والأجساد، ويحتكر جانباً كبيراً من السيادة والمعرفة في المجتمع، وهو الجهاز السيّد، المتحكم بوزارة الداخلية نفسها. وهذا الجهاز هو الأكثر هيمنة وأهمية في تاريخ مصر الحديث، منذ نشأته في 1913 على يد الإنكليز أو إرهاصاته الأولى بعد 1882.

يدخل المجتمع في نوعية مختلفة عند "وضعه" على جهاز أمن الدولة: يبدأ بالتحلل إلى جماعات سياسية، طوائف، موالين للسلطة وأعداء ومعارضين، وشبكات حكم وزبائنيّة، وشبكات معارضة... هذا الهيكل، وهذه المهمات في تقسيم المجتمع وإدارته والتجسس عليه واختراقه واختراق المؤسسات الأخرى بالدولة لصالحه ولصالح الحاكم، هي نفسها منذ تشكله في 1913. وقد تزيد أو تنقص. فمثلاً، اختفى قسم "مكافحة الصهيونية" وظهر قسم مكافحة الجماعات الإسلامية، ومؤخراً "الثوار"، وهكذا. وفي كل تحول كبير يصيب مصر دولةً ومجتمعاً، ويتغير فيه شكل الواقع ونمط الحياة، بل والتصور عن الكون نفسه، تبقى هذه المؤسسة بلا أي قطيعة تذكر، وتنجو من أي تغيرات جذرية إلا على مستوى الاسم. فمن القلم السياسي إلى مباحث أمن الدولة إلى الأمن الوطني، لكن الهيكل يظل هو نفسه والمهمات والأدوار والأساليب ومساحات الهيمنة والنفوذ هي نفسها. وهذا لا ينطبق على جهاز أمن الدولة فحسب بل على الداخلية ككل. وبينما شهد الجيش المصري عدداً لا بأس به من خطوط القطيعة التاريخية في بنيته، ومن التغييرات الجذرية، لم تشهد الداخلية المصرية قطيعة واحدة، بعد توسيعها وتطويرها الكبيرين على يد اللورد كرومر أثناء الاستعمار الإنكليزي.

احتفظت الداخلية المصرية بأهم شكلين للسلطة في المجتمع الحديث: السلطة الانضباطية والسلطة الحيوية. والسلطة الانضباطية تتمثل بضبط الأجساد وحركتهم داخل مساحة ما، وتحديد ما هو مباح ومتاح وما هو ممنوع ومرفوض، وإنفاذ القانون على هذه الأجساد وتطويعها وخلق حركتها وتعيين حدودها. ويتمثل هذا كله من عند إدارة أول إشارة مرور حتى الجريمة والعمل السياسي والتحول إلى العنف والقهر إذا تطلب الأمر.

وعلى الرغم من تمركز الطب الحديث حول الجيش في بداية مشروع محمد علي، انتقلت مسألة السلطة الحيوية، من حيث هي إدارة واسعة للسكان، تسعى لإنتاج حياتهم والحفاظ عليها وضبط ما يتعلق بها من أمراض وأوبئة الخ.. إلى الداخلية المصرية. وظلت وزارة الصحة على سبيل المثال تابعة لوزارة الداخلية حتى 1936. وحتى اليوم، تسيطر الداخلية على عدة أشكال من السلطة الحيوية في مصر، فهي المسؤول الرئيسي واليد العليا في كل ما يتعلق بالأغذية والباعة المتجولين والأنشطة المتعلقة بتقديم الطعام في الشارع المصري..

يقبع جانب كبير من فن إدارة الحكم في مصر داخل سراديب الداخلية العميقة، وتحت أيدي هؤلاء الضباط الذين لم يتورعوا عن قهر وإذلال الشعب المصري، ولم يتراجعوا يوماً عن التصادم معه في كل مرحلة تاريخية حاسمة.. وبين الشيخ ريحان شمالاً وميدان لاظوغلي جنوباً، تكمن واحدة من أكبر العقبات الكأداء في طريق الحرية والتحرر في مصر.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...