ما زالت العلاقة بين المواطن والأجهزة الأمنية في العراق قائمة على ثنائية "الخوف وعدم الثقة". البريء والمجرم، على حدٍ سواء، يخافان من رجال السلطة. تستحضر مخيلتهما العلاقة برجل الأمن ما قبل 2003: نفوذ غير محدود قادر على سحب أي مواطن إلى غياهب السجن، وما يترتب على ذلك من تحقيق وتعذيب وتنكيل دون أي رادع. وحين يُقرّر أنه بريء، يُخرج إذا لم يُنسَ، ولا يستوجب الأمر أي إجراء تعويضي، ولا حتى اعتذار يعيد إليه بعضاً من كرامته المنتهكة.
تتناول تقارير دولية ملفات التعذيب داخل السجون ومراكز التحقيق في العراق اليوم. وبحسب شهادات محامين وضباط، لا يتعلق التعذيب بنوع القضية التي يُعتقل وفقها المتهم، بل وبشكل أساسي بـ"ترتيبات" ذويه، أو الخصم مع مسؤول ملف التحقيق. وهي تسوية أطرافها المحامي والضابط. إذ يدفع ذوو المتهم الرشاوى بواسطة المحامي، أو من خلال قناة تواصل أخرى مع الضابط، تحددها عوامل عديدة، مثل نفوذهم الاجتماعي وشبكة علاقاتهم وأموالهم. يدفعون لمنع تعرض ابنهم للتعذيب والاكتفاء بالتحقيق الروتيني. وفي حال تبيّن أنه مذنب، فهم يعملون على تغيير الأقوال والتلاعب بها لتبرئته.
على الخط نفسه يسير الخصم. يدفع، ويقوم بالوساطات للضغط بواسطة التعذيب على المتهم، وانتزاع الاعترافات التي تدينه. وتدخل شبكة علاقات ونفوذ المحامي مع الأجهزة الأمنية ومدى مقبوليته في القضاء، فضلاً عن شواهد تسوياته في القضايا التي سبق له أن تَوكّل فيها كعامل رئيسي في تسويقه بوصفه محامياً "ناجحاً".
حداثة محدودة.. سياق موروث
ويعلل ضابط صغير استمرار التعذيب والترهيب في سياقات التحقيق بـ"عقلية كبار الضباط الذين هم في معظمهم من زمن النظام السابق، ولا يجيدون سوى العنف طريقاً لانتزاع الحقيقة. وهذا الأمر انتقل بمرور الزمن إلى الضباط الجدد ممن التحقوا بالخدمة بعد 2003"، مبيناً وجود أجهزة في الدولة "تعتمد أساليب حديثة في التحقيق، أسلوب الاستنطاق النفسي القائم على معرفة جميع تفاصيل حياة المتهم وعلاقاته الاجتماعية وهواياته، لتوظف بإثارته عاطفياً، واكتساب ثقته، وهي الخطوة الأولى نحو معرفة الحقيقة، وهي ليست دائماً ضد المتهم".
لا يتعلق التعذيب بنوع القضية التي يُعتقل وفقها المتهم، بل وبشكل أساسي بـ"ترتيبات" ذويه، أو الخصم مع مسؤول ملف التحقيق. وهي تسوية أطرافها المحامي والضابط. إذ يدفع ذوو المتهم الرشاوى بواسطة المحامي، أو من خلال قناة تواصل أخرى مع الضابط، تحددها عوامل عديدة، مثل نفوذهم الاجتماعي وشبكة علاقاتهم وأموالهم.
ويضيف الضابط إن "الحكومات المتعاقبة لم تعمل على بناء مؤسساتي مهني بما يناسب التطور في هذا المجال، فمصادر تزويدها بالمعلومة ليست مهنية، وكثيراً ما تكون من منتسبين يمكن إغراؤهم بالأموال فضلاً عن عدم مهنيتهم، ومن الصعب جمع الأدلة العينية بسبب طبيعة المجتمع". وعن أساليب التعذيب يقول الضابط إن "التعذيب يرتبط بجدية الضابط في معرفة الحقيقة، فضلاً عن الوقت المحدد للقضية. الصفع والضرب بالعصا بديهي، وبأماكن لا تترك أثراً، ويصل الأمر إلى الصعق بالكهرباء أو الإيهام بالغرق، أو منع النوم ومنع الطعام، أو تعليق المتهم بالسقف لساعات طويلة من يديه أو بالعكس".
مهارة التعذيب
يعتبر علي حسن وهو اسمٌ مستعار لمحامٍ، أن "التعذيب مهارة"، فما معنى أن تعذب إنساناً وتوصله حد الموت، من دون أن يكون من الممكن إثبات ذلك عليك؟ وينقل حسن قصة لإسناد رأيه "لدي موكّل تعرّض لتعذيب وترهيب من أجل انتزاع اعترافات منه، ولكني لم استطع إثبات ذلك أمام القاضي على الرغم من تقديمي لائحة اعتراض، إذ وجه القاضي بعرضه على لجنة طبية، التي بدورها أكدت سلامته وعدم تعرضه للتعذيب".
صناعة العقاب فـي العراق
05-09-2012
ويعلق المحامي على تقرير اللجنة: "كنت أدرك رأي اللجنة قبل أن يصدر، لأنه ضرب بأماكن لا تترك أثراً بعد مضي 24 ساعة، في باطن القدم، وخلف ركبة الساق، والإيهام بالغرق، فضلاً عن توقف التعذيب قبل موعد عرضه على القاضي بأيام، وتأخر عرضه على لجنة التحقيق كذلك، ما يعني تلاشي الآثار"، لافتاً إلى أن الكثير من الضباط معروفون بأنواع التعذيب التي يستخدمونها، مثلًا "الرائد فلَقة"، فلكل منهم نوع مفضّل يجيده، ويعتقد أنه أسهل طريق للحقيقة. وتابع المحامي: "لم أكن أنتظر من تقديم لائحة التعذيب نتيجة. الهدف الرئيسي هو منح موكلي قسطاً من الراحة. فالتحويل إلى لجنة طبية يضمن عدم ضربه لأيام"، مشيراً إلى أن "القضاة في بعض القضايا يعطون الضوء الأخضر بالتعذيب ولكن بنطاق محدود، في حال وجود الكثير من الشبهات والأدلة ضد المتهم ولكنه لا يعترف، أو أن الضباط متساهلون معه، فيحول القضية إلى ضابط آخر، ويعطيه إشارة بالتعذيب".
سمسرة مشتركة
هناك "سمسرة" بين الضباط والمحامين. فلحظة وصول المتهم، ينصح الضابط أهله بتوكيل محامٍ محدد أو ينصح الخصوم. ويبلّغ المحامي أنه ستصله القضية المحددة، ويخبره بالمبلغ الذي يمكن طلبه منهم. كل هذا مقابل نسبة للضابط. في الجانب الآخر فلكل من المحامين شبكة علاقات مع ضباط.
تسويات عشائرية
في أحد المستشفيات، يلازم رجل عجوز ابنه الراقد بوضع صحي حرج، كسور في ساقه، وسوء تغذية، وصعوبة في التنفس. وصل إلى هنا بعد جولات من التعذيب تعرّض لها في سجنه على قضية سرقة لم يرتكبها، إلا أن ظهوره بتسجيل مصور أمام مسرح الجريمة أدخله دائرة الاتهام. وعلى الرغم من دفع عائلته نحو 6 آلاف دولار، إلا أنها لم تكن كافية لوقف التعذيب، بسبب محاولة فريق التحقيق الوصول إلى الحقيقة بأسرع وقت لأهمية القضية على حد تعبيره. ويتابع الرجل "في منطقة تجارية مهمة سُرقت شركة صرافة، ما دفع مكافحة الإجرام إلى الاهتمام بالقضية بشكل كبير، وأثناء فترة احتجاز ابني التي امتدت إلى 10 أيام، توصل فريق التحقيق إلى العصابة واعتقلوهم واعترفوا، فيما أخرج ولدي محمولاً على غطاء سميك".
"القضاة في بعض القضايا يعطون الضوء الأخضر بالتعذيب ولكن بنطاق محدود، في حال وجود الكثير من الشبهات والأدلة ضد المتهم ولكنه لا يعترف، أو أن الضباط متساهلون معه، فيحول القضية إلى ضابط آخر، ويعطيه القاضي إشارة بالتعذيب".
حول عدم التقدم بشكوى على المحققين، قال الرجل إن "المحامي أبلغنا أن القضية ستعطل، ويتم المماطلة فيها دون الوصول إلى أي نتائج، كون فريق التحقيق يتكون من أكثر من ضابط فضلاً عن المنتسبين، وعيون المتهم معصوبة، ولن يستطيعَ التعرف بشكل دقيق على أحد، والأفضل هو العمل بالسياقات العشائرية، وهذا ما قمنا به حيث طالبنا عوائل أفراد العصابة، إذ حمّلناهم كل الخسائر المادية من رشاوى وأجور المحامي وتكاليف العلاج، والتي تجاوزت 20 ألف دولار، فيما تنازلنا عن الأذى والضرر الذي لحق به بعد ضغوط عشائرية".
يروي "م. ك"، قصته في المعتقل بتهمة كيدية من منافس في السوق: "على الرغم من معرفتي بالسجون، وأجواء التحقيق من خلال ما أسمعه من أصدقاء، لكني لم أتوقع أن الأمور تجري بطريقة مديرية الأمن العامة، اليد القمعية الضاربة لنظام ما قبل 2003. قصتي تبدأ من تنافس في السوق، وقيام أحد التجار بمساعدة شخص يعمل معي بوضع بضاعة منتهية الصلاحية في مخازني، ومن ثم إبلاغ الأمن الاقتصادي. والمعروف أن هكذا قضية لا تحتاج إلى العنف".
وتابع: "دخل المحقق وكأنه مشحون بطاقة سلبية ضدي، ضربني قبل أي سؤال وبصق على وجهي، ووجّه من معه بتعليقي بالمروحة السقفية وإحضار ماء بارد، وكنا في منتصف كانون الأول/ ديسمبر. وأول سؤال وجهه لي "أين فلان وفلان"، وهي أسماء لم أسمع بها من قبل. لكن أحدهم سارع بالتدخل قائلاً له: سيدي هذا فلان على القضية الفلانية. ربما أخذته العزة بالإثم، ولم يرد الاعتراف بأن المعاملة لا تتناسب مع نوع القضية، فاستمر بتوبيخي على إبقاء البضاعة في المخازن، وطالبني بالاعتراف على من يعلم من الشركاء أو العمال، ملوحاً باستخدام الكهرباء. واستمرت سهرة التعذيب لساعات فقدتُ خلالها الوعي"، لافتاً إلى أن "جولات التعذيب تكررت أكثر من مرة، لكن عائلتي أثبتت تورط أحد العمال بإدخال البضاعة، وهو اعترف فيما بعد على المحرض".
وأشار التاجر إلى أنه "بعد خروجه من السجن، عرف من خلال علاقاته أن الضابط استلم رشوة مقابل إجباري على الاعتراف وتوريط شريكي وأخي، وصناعة سيناريو كبير يتعلق ببيع المواد التالفة وتوزيعها، وهي تكلفني غرامة مالية كبيرة فضلًا عن السجن لسنوات"، مبيناً أن "محاميه هو الآخر دفع أموالاً لضباط آخرين للتدخل ومحاولة تغيير ضابط التحقيق، وعلى الرغم من معرفتهم بكيدية القضية، إلا أنهم وجدوها مادة دسمة للابتزاز".
***
هكذا تجري الأمور في عراق "الديمقراطية"، الذي يتبارى سياسيوه ليل نهار بشتم استبدادية وقسوة النظام السالف، فيما يكررون أساليبه على شكل مسخرة كالعادة في كل تكرار، مضافاً إليها درجة لا يمكن تخيلها من الفساد الشائع، كبيرة وصغيرة، مبثوثة في حنايا المجتمع، وتمثل اقتصاداً مالياً وسياسياً قائماً بنفسه..