الإخوان والعسكر في ذكرى 25 يناير

تقترب الذكرى الرابعة للثورة. أربع سنوات من النضال والقتال انتهى بها المطاف إلى وقوع المجتمع أسير صراع الفيلة، وهو صراع ينتمي للقرن الفائت. تعثرت أحلام الثورة وأمالها في بناء مجتمع جديد. كان العام المنصرم في مصر عام الدماء والفزع والقتل، حيث أعلنت أكبر قوتين في المجتمع الحرب الضروس، كل منهما للقضاء على الأخرى، بلا تعادل، إذ يبدو أن العسكر يدخلون العام الجديد بقوة أكثر رسوخاً من الإخوان:
2015-01-14

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
| en
حسام حسن - مصر

تقترب الذكرى الرابعة للثورة. أربع سنوات من النضال والقتال انتهى بها المطاف إلى وقوع المجتمع أسير صراع الفيلة، وهو صراع ينتمي للقرن الفائت. تعثرت أحلام الثورة وأمالها في بناء مجتمع جديد. كان العام المنصرم في مصر عام الدماء والفزع والقتل، حيث أعلنت أكبر قوتين في المجتمع الحرب الضروس، كل منهما للقضاء على الأخرى، بلا تعادل، إذ يبدو أن العسكر يدخلون العام الجديد بقوة أكثر رسوخاً من الإخوان: فالانقلاب لا يترنح بينما التنظيم في غيبوبة التاريخ.

الغطاء الدولي والإقليمي للسلطة

تشكلت قناعة إقليمية بأن سقوط النظام في مصر ليس في مصلحة أحد، لأنه ليس من طرف، سوى ما تبقى من الدولة بقيادتها العسكرية، بقادر على تحمّل السلطة في مصر، فيما يستفحل الوضع في سوريا والعراق واليمن وليبيا.. وتقدِّم السعودية والإمارات العربية دعماً غير مشروط لنظام السيسي.

الأولى لأسباب عدة أهمها الرغبة بشيطنة فكرة الثورات وإمكانية نجاحها بشكل سلمي، وكذلك لخدمة استقرار نفوذها السياسي والاقتصادي إقليمياً، ولخشيتها على الوضع في الداخل السعودي.. بالإضافة أيضاً لـ "رد الجميل" لمبارك الذي مثَّل (مع الأردن) لعقود طويلة حليفها في محور الاعتدال في مواجهة "محور الشر" الإيراني. لم يتغير موقف السعودية كثيراً منذ اليوم الأول لثورة 25 يناير 2011، لاسيما وأن النسخة الأخيرة من الحكم العسكري المصري منزوعة الأنياب إقليمياً ولا تسعى للتمدد والتوسع. وأما الإمارات فتسعى للاستحواذ على سوق واسع ترغب باستثماره. ومصر، وإن لم تكن قوة عسكرية لها ثقل نوعي، فهي قوة بشرية وعددية يمكن أن تكون نافعة في حال تعرض أمن الخليج لخطر حقيقي وواسع، وهو ما أعرب عن الاستعداد له الجنرال السيسي منذ وصوله لسدة الحكم.

وأما الإخوان في مصر فلم يعد لديهم ما يقدمونه على المستوى الإقليمي، بعد أن انكشفوا اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، وبعد أن نجح النظام العسكري في تدمير البنية التحتية للتنظيم وفك أواصره. كما نجح في استغلال الاضطراب الإقليمي وتوظيفه في خطاب أمني يحذر الناس من أنّ أي تحرك ستكون عواقبه تحول مصر إلى سوريا أو العراق، وأن قبول قدر واسع من القمع والاستبداد أفضل بكثير من أتون الحرب الأهلية وخطر الإرهاب. ويوظف النظام الخطر الداخلي في المنظومة الخطابية نفسها، مشيراً لحربه في سيناء ضد تنظيم "أنصار بيت المقدس" التي يرى أبناء الوادي تداعياتها من حين لآخر داخل محافظات الدلتا والقاهرة.

انكشاف الإخوان

انفرط عقد القيادة في تنظيم الإخوان، وصارت الأمور إلى حد كبير بيد مجموعات أصغر سناً وأقل كفاءة وغير راضية عن الوضع، لا في داخل التنظيم ولا خارجه، ولكنها تساق بشحنات من الغضب ممزوجة بالمرارة والحسرة على فقدان كل شيء، من الأصدقاء إلى السلطة التي أهدرتها الجماعة في مغامراتها غير المحسوبة. والإخوان لا يمتلكون سلاحا، ولا أعدادا غفيرة قادرة على إحداث فارق مجتمعي وسياسي، ولا يسيطرون بشكل جاد على أي مساحة جغرافية يستطيعون منها القيام بمناورات راديكالية ضد السلطة. ففي القاهرة لم يعد للجماعة أي قدرة حقيقية على إبداء حدٍ من الثبات إلا ربما في حيز المطرية وعين شمس. ويرجع السبب في ذلك لوجود عناصر من الإسلاميين أكثر تشدداً وأكثر راديكالية من الإخوان أنفسهم، حيث أتيح لهم الحضور عبر سنوات طويلة وخلق شبكات تجارية واجتماعية.
أسباب عديدة تشير إلى أن التنظيم في انكشاف عسكري وسياسي وأمني واقتصادي وجماهيري. وفي العلاقات الدولية، وبالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فليس ثمة تعارض مصالح حقيقي مع العسكر في مصر. فالرهان الأميركي كان على أي مِن الإخوان أو العسكر، وكلاهما كان وما زال يَعْرِض نفسه كحليف استراتيجي موثوق، ويدعم الإستراتيجية الأميركية في المنطقة بخطوطها الرئيسية.. لم يعد أمر الإخوان في مصر يشغل القوى الدولية بشكل حقيقي. فالمجتمع الدولي منشغل في حرب ضد إرهاب داعش الذي نجح في فتح جبهة ممتدة من سوريا إلى العراق وأصبحت له جاذبية بنظر الكثير من الشباب الغاضب في المنطقة.
كل شيء متوفر عند داعش: من النساء إلى التحقق الذكوري والإنساني من خلال القتال والسيطرة والسلطة، إلى المجتمع صاحب القضية -– بغض النظر عن قيمة تلك القضية من عدمها -- إلى الزي والزهو العسكري، إلى نشوة النصر. في المقابل، لم يعد تنظيم الإخوان يملك أيا من تلك العناصر، بل لم يعد حتى مصدر خطورة حقيقية على النظام في مصر. فمنذ 30 يونيو يمكن القول إن قطاعا واسعا من الجمهور كان على يمين السلطة، بمعنى أنه كان يطالب بمزيد من القمع والتنكيل بالإخوان، و كان أحياناً يشارك بنفسه في هذه العمليات.

جمعة الهوية: ما لم تكن السلطة لتحلم به

زاد الطين بلة "جمعة الهوية الإسلامية" في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر التي دعت لها أطياف سلفية من التيار الإسلامي – بعيداً عن حزب النور والسلفية المدخلية -- وصادقت عليها جماعة الإخوان المسلمين في بيان رسمي لها. وانتشر حين ذاك فيديو مصور على مواقع التواصل الاجتماعي يدعو "الجماهير المسلمة لنصرة دين الإسلام". ونجح الفيديو في خلق حالة من الإجماع على طائفية الإخوان والشباب السلفي الذي دعا لتلك الجمعة، وشمل الإجماع أطرافا شديدة التناقض والتباين، من الفلول، إلى الثوار بأطيافهم كافة، إلى بعض المنتمين للفكر الإسلامي بشكله الواسع (مثل تيار عبد المنعم أبو الفتوح، قائد حزب "مصر القوية" ومن هم على هامشه). وأثارت الدعوة استياء قطاع واسع من الجمهور غير المسيّس في العديد من المناطق الشعبية والبرجوازية على حد سواء، حيث لم تعد طبيعة التحرك وأهدافه مفهومة، ولا الفائدة من جر البلاد لهذا الشحن. وجاء كل ذلك على خلفية الإنهاك اللاحق بالناس عموماً، وجراء تظاهرات الإخوان الطيارة وما تسببت به من عنف واضطراب في أحيائهم.
وبالطبع لعبت الشائعات والتكهنات دوراً على نطاق واسع، حيث توقع البعض قدرا غير مسبوق من العنف. ودعم هذا التوقع تصريحات الدولة وتحديداً وزارة الداخلية التي هددت بالبطش والقتل وعدم التهاون أمام إرهاب الجماعة، بينما وصفها نفر من التيار الإسلامي بالجمعة الحمراء وبأنها ستشهد معارك يكون من شأنها "زعزعة الانقلاب وبداية تفجير ثورة إسلامية حاشدة لإسقاط الحكم العسكري وإعلاء كلمة الله في أرض مصر". بالمقابل، شن إعلام الدولة والقنوات الخاصة حملة شرسة لشيطنة تلك الجمعة. ونجح في تضخيم حالة الهلع التي كانت قائمة منذ بدء الدعوة، وتعزيز الكراهية تجاه الإخوان. ودعت السلطات الجمهور لعدم التدخل والابتعاد، وقامت بعسكرة غير مسبوقة للميادين والشوارع، وانتشر المخبرون في أرجاء المدن وفرضت حالة كاملة من الاستنفار الأمني والعسكري في البلاد. ثم جاء "الحدث" حاملا قدرا كبيرا من الفراغ.

فخارج حي المطرية بالقاهرة لم يحدث أي شيء يذكر، ولم تنتفض حشود المسلمين لنصرة دين الله، ويبدو أن الهوية كانت تهيم بمفردها في الشوارع الخالية. وهكذا قدّم الإخوان وحلفاؤهم خدمة جليلة لقوات الأمن وأجهزتها، الأمر الذي دعا البعض للتشكيك صراحة في رجاحة عقول من قاموا بالدعوة والسخرية منهم قائلين: "الناس دي لو شغالة لصالح الأمن مش حتعمل كده". إذ لو كان أصحاب تلك الدعوة يتبعون خطى أحد الكُتَيِّبَات عن "كيف تعيد بناء منظومة الأمن على المستوى النفسي والميداني والاستراتيجي، وكيف تخدم الأمن لتحقيق هدفين بخطوة واحدة"، لما افلحوا أكثر.. فذاك اليوم سجل نجاحا غير مسبوق للسلطة ولقوات الأمن لاستعراض أدوات البطش والقدرة على السيطرة. نوع من التدريب على مناورة نوعية في مواجهة الحشود، والتدريب على سرعة الانتشار والتمركز، ولرفع الكفاءة المعنوية والنفسية، ولتعزيز قدرة النظام على مفصلة خطابه الأمني مع المجتمع وإعادة إنتاج الفزع وبناء الخطر وتوظيفه، وإفشال إمكانية تشبيك المطالب الاجتماعية والاقتصادية مع الحريات السياسية وتعزيز وترسيخ فكرة السيد والمخلص متمثلة في السيسي والجيش. ما لم تكن لتحلم به السلطة!

الأخطر أن هذه الدعوة جاءت قبل يوم واحد من محاكمة مبارك وحبيب العادلي وقيادات عدة من الداخلية. فعلى الرغم من حالة الضيق العام والضغينة تجاه تبرئة مبارك ومعاونيه، إلا أن المجتمع كان أكثر إنهاكاً واستياء وخوفاً من الإخوان ومشهد العسكرة الواسع الذي كانت عليه البلاد. ونجحت السلطة وأجهزتها الأمنية بتحقيق هدفين بضربة واحدة. فمن ناحية فشلت "جمعة الهوية"، ومن ناحية أخرى استُغلت الفرصة للتضييق على أي حراك ممكن بعد براءة مبارك. ورأى عدد من النشطاء والمحللين السياسيين والباحثين مثل أستاذ العلوم السياسية والناشط السياسي عمرو عبد الرحمن (من "حزب العيش والحرية") أن الإخوان صاروا قوة معطِّلة لأي حراك جذري في المجتمع.

يحاول التنظيم استغلال الذكرى لتوحيد الصف الثوري واستنساخ تجربة 25 يناير. فهناك مفاوضات وأحاديث كثيرة عن أهمية التنسيق وتجاوز الخلافات والتوحد أمام السلطة العسكرية وبعث روح الميدان مرة أخرى.. ويرى البعض أن الإخوان قوة لا يمكن الاستغناء عنها، بالأخص إذا تجاوز التنظيم مطالب "الشرعية" و"عودة مرسي". بينما يصر قطاع كبير من الثوار على وضع الإخوان في خانة الثورة المضادة، تحت شعار: "يسقط كل من كان عسكر، فلول، وإخوان". بل أصبح قطاع كبير من المجتمع يرى الإخوان أكثر خطراً من نظام مبارك نفسه. تلك هي الحال عشية الذكرى الرابعة لـ25 يناير.

 

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...