"مفيش حاجة اسمها نظام.. مفيش حاجة اسمها إسقاط النظام.. في دولة مصرية، الشعب المصري ينتخب، يأتي رئيس يمسك دولة واقفة على حيلها، مش نظام كل شوية يتغير ولما يتغير يقولوا لا. هي دولة مصرية"، هذه بعض مفردات إحدى خطب الرئيس المصري في الأيام الأخيرة من العام الفائت. لم تخل خطبة من خطبه من مفردة "الدولة" وكتابها المقدس. فالرئيس يحاول منذ بداية صعوده للسلطة محو الفجوة بين ما يمكن تسميته "النظام السياسي" والدولة، بل ومحو الخطوط الفاصلة بينهما.
بدأ هذا الخطاب منذ اليوم الأول للثورة: هيبة الدولة. الثورة هتفت "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولم تذكر الدولة من قريب أو بعيد، حتى أن الثوار لم يقتحموا مبنى الإذاعة والتلفزيون في القاهرة ("ماسبيرو")، لاعتبارهم إيّاه مؤسسة تابعة للدولة ويجب الحفاظ عليها والاستفادة منها حينما تنتصر الثورة، وكذلك الحال مع "مجمع التحرير"، رمز البيروقراطية المصرية الحديثة. صحيح أنه لم يكن واضحاً ما المقصود بـ "النظام" تحديداً. ولكن الثورة نجحت في بلورة عدة أهداف للهجوم عليه، مثل الحزب الوطني والرئيس مبارك والداخلية. وفي ظل حكم مبارك، يكون النظام السياسي هو الرئيس والبرلمان والحزب الحاكم، وكان يُصنَّف كنظام شبه رئاسي أمْيل للنظم الرئاسية الصريحة. في أثناء الحدث الثوري، كان هناك رأي عام يرى خروج الدولة كأجهزة وسيادة وحدود (إقليم) من دائرة الصراع، فلم يطالب أحد بإلغاء أي معْلم من معالم الدولة القومية الحديثة في الفترة الأولى من الثورة، باستثناء "الداخلية" باعتبارها اليد الباطشة للنظام، وليس كأحد أجهزة الدولة. يرجع ذلك لأمرين: الأول هو التصدي بالضد لخطاب السلطة في عصر مبارك وأثناء قيام الثورة، والذي كان يردّ أي تحرك سياسي واجتماعي إلى "محاولات الصهيونية العالمية والغرب وإسرائيل وأميركا" الخ.. لتفكيك الدولة بمصر. وأما الثاني فيتعلق بعدم اكتمال رؤية واضحة للثورة للتعامل مع جهاز الدولة، وغياب إستراتيجيتها لهذه الجهة. وأخيراً، يصعب على أي حركة سياسية أن تقنع قطاع واسع من الجمهور بأن يهاجم "الدولة" ذاتها، فهي وجود غامض، بينما يكون الانقضاض على النظام السياسي أمراً أسهل وأكثر يقيناً إذا ما نجح، حيث يتم تغيير طبيعة ونمط السلطة الحاكمة، هي ونظامها السياسي.
كان رد فعل السلطة على الحدث الثوري هو محاولة شيطنته وإخراجه من كونه موجه ضد النظام لكونه خطراً على سيادة الدولة. وبالفعل، بعد سقوط مبارك، صار خطاب الثورة المضادة يرتكز على مقولة "خلاص النظام سقط، أنتم الآن تهاجمون مؤسسات الدولة".
خطة الرئيس
جاء الجنرال السيسي بعد مرحلة طويلة من الصراع السياسي. وهو حاول إغلاق أي مساحة للانقضاض عليه ومعارضته، وذلك بالتوحد مع الدولة. أي أنه يريد أن يَحول دون فصله عن الدولة وجعله في خانة "النظام السياسي" الذي يسعى الناس لإسقاطه. ولهذا فهو يردد كثيراً في لقاءاته وخطبه أن أي احتجاج هو زعزعة وتفكيك للدولة. كما أن الرجل جاء من قلب أحد أجهزة الدولة السيادية، ولم يسبق له أن تقلّد أي منصب سياسي، ولم ينخرط في أي عمل سياسي، فلم يكن نائباً للرئيس أو أحد كوادر الاتحاد الاشتراكي أو حتى عضواً في الحزب الوطني. وبالتالي فهو يعرف الدولة وليس نظام الحكم، وكل ما يتعلق بعالم السياسة وفضائه وتركيباته المختلفة، لا يمثل له شيئاً..
لماذا لا يقوم السيسي بتركيب نظام سياسي ما (حزب حاكم، برلمان) سواء شبه رئاسي أو رئاسي حتى مع مخالفة الدستور؟ ببساطة كي لا يفقد الشرعية والصيغة التي طرح نفسه من خلالها على الشعب. فطبقاً لرؤيته، هناك شعب (متوحد وملتف حول الدولة) وهناك قائد تحلّ فيه الدولة.. اما الدولة ذاتها فيتم التعبير عنها بأقصى صورها الحداثية: من جهة كتلة مادية ضخمة تعبر عنها المؤسسات، بموظفيها وجدرانها، ومن جهة ثانية جانب "ميتافيزيقي"، أي أن الدولة بحدودها ومؤسساتها هي مقدسة كفكرة، وهي التي تقوم بخلق الوجود الاجتماعي لأفرادها، وهي مفارِقة لهم ومتجاوزة عنهم.. وهي أحياناً، طبقاً للأغاني والخطب الوطنية، أبدية وأزلية، ويجب الدفاع عنها حتى لو تطلب الأمر القتل أو التضحية بأبناء المجتمع.
ويأخذ الشعب طابعاً ميتافيزيقياً هو الآخر. فهو واحد، غير قابل للانقسام أو الاختلاف، ولديه هوية وقيم ثابتة لا تتغير، وهو مقدس وأفضل شعوب الأمم كافة. وكِلا الدولة والشعب واحد متوحد. الأمر لا يخلو من التناقض الحاد، حيث إن الدولة والشعب متحدان، إلا أن الدولة مفارِقة للشعب ككيان أسمى يرتقي فوقه ويقوم بتنميته وتحديثه ومنحه الحياة. الخطير فيما سبق ليس أن هذه الرؤية هى هجين بين دولة يوليو والسيسي وقوى الثورة المضادة ومؤسسة الجيش، بل هو في تبني قطاعات من المجتمع لهذه الرؤية وإعادة إنتاجها للخطاب نفسه. ففي داخل العائلة الواحدة، يتم اتهام الشباب الذين شاركوا في الثورة أو تعاطفوا معها ـ بالطبع لا يعني هذا أن شباب مصر كلهم شاركوا في الثورة، وأن الأكبر سناً كلهم ثورة مضادة - بأنهم خونة، وأن مهاجمة السيسي هي مهاجمة للدولة ولمخلصها من السقوط. والسيسي يعلم ذلك جيداً، ويحاول استخدام كل الطاقات والأساليب الخطابية والأجهزة.. لترسيخ كونه مخلص الدولة التي تنهار. يستخدم الأزهر والكنيسة، ويلجأ إلى جهاز الأسرة، وعلى رأسه الأم المصرية التي يوجه لها خطابه، حتى تقوم بتصحيح المسار إذا ما أنحرف أبناؤها وهاجموا الدولة أو حتى احتجوا مطالبين بتحسين ظروف المعيشة.
الانتخابات البرلمانية
لو ثمة انتخابات نيابية، فالمشير يريد قائمة موحدة يتم الاتفاق عليها بين القوى السياسية المختلفة. التأويل الأول لهذا الأمر يعني غياب الديموقراطية. لكن الأهم هو أن الجنرال، كرجل عسكري يخوض معركة، لا يريد ولا يقبل بفكرتي الصراع والاختلاف. ثمة خطر مفترض على الدولة لا يتحمله واجب الوقت والمرحلة، ولا تتحمله الحرب القائمة. ولهذا فهو اقترح على القوى السياسية التي هي، تعريفاً، أطر لعمليات الصراع والتدافع الاجتماعي حول المصالح المختلفة في المجتمع، والتي تمثِّلها، عمل قائمة موحدة. تقوم هذه النظرة على إلغاء ونفي ليس السياسة فحسب بل الصراع أيضاً، الذي هو وفق هذه النظرة، صراع الدولة مع أعدائها فحسب، وما دونه خيانة محققة. والسيسي ليس مجرد حاكم فرد متسلط، بل هو ممثل لقوى الجيش في سدة الحكم، كرجل عسكري وليس مدني أو قادم من خلفية عسكرية.
كما أن الانتخابات البرلمانية ستؤدي إلى تركيب نظام سياسي وتحديد آلياته وتفعيل الدستور. وطبقاً للدستور، فسيكون هناك نظام شبه رئاسي يتنازع فيه رئيس الوزراء السلطة التنفيذية، التي تمتلك قدراً كبيراً من الاستقلالية، مع الرئيس. وسيعني ذلك ايضاً التنازع على السلطة التشريعية بين السيسي والبرلمان المنتخب. وبعيداً عن الديموقراطية والسلطوية، فبالنسبة لرجل عسكري يرى نفسه مكلفاً بمهمة مقدسة، سيعني هذا كله مزيداً من الإجراءات التشاركية بينه وبين تلك المؤسسات، وتنازع السلطات، ما سيتطلب قدراً كبيراً من المساومات والمفاوضات، ما سيؤدي الى تحجيم لحرية حركته كسيد مهمين على جهاز الدولة، وسيعني عبئاً جديداً ممثَلاً بنظام سياسي عليه أن يتحرك به ومعه. بينما الجنرال يريد كل المساحة والسلطات الممكنة للمناورة والحركة والتشريع.. فالرجل أصدر أكثر من 300 قانون بدون برلمان، كثير منها يخالف الدستور نفسه، وبعضها صدر أثناء الرئيس "الشرفي"، عدلي منصور، الذي لم يكن أكثر من واجهة يحكم السيسي من خلفها، هو ومؤسسة الجيش.
الجنرال لا يريد حاجزاً بينه وبين الجمهور. هو والشعب والدولة، ولا ثالث لهما. ولا يوجد في الساحة حالياً ما يمكن أن يكون مُرْضٍ بالنسبة للسيسي. فما يسمى بالقوة المدنية سيعني فتح المجال السياسي، ولو شكلياً، للديموقراطية والصراع والمعارضة، كما سيعني مناطحة بعض القوى النيوليبرالية له على مستوى السيادة والتشريعات، من خلال البرلمان أو بوجود وكلاء لها داخل البرلمان، (مثال ساويرس ولو على مستويات صغرى). كما أنه في حال ساءت الأمور في الداخل، ودخلت البلاد في موجة كبيرة من الاضطرابات، فيمكن نظرياً للبرلمان سحب الثقة من الرئيس وإسقاط شرعيته. المشكلة انه ليس للسيسي ركيزة سياسية مدنية مبنية ومتغلغلة في أجهزة الدولة، وهو لا يمكنه الاعتماد على رجال مبارك، لأن مشروع هذا الأخير يقوم على اللامؤسسية وتفكيك الدولة، بينما يقع في صلب مشروع السيسي محاولة استعادة القوة والهيبة لأجهزة الدولة.
سيكون تأسيس أي نظام سياسي بمثابة حصان طروادة للغاية التي اعتمدها السيسي في الحكم. ولذا قام هذا الأخير بإعادة موضعة الثورة بينه وبين الدولة. والصياغة واضحة للجميع: إذا أردتم الثورة هذه المرة فلن تكون على النظام، بل على الدولة ذاتها. كما أنه أعاد موضعة الجيش بينه وبين الشعب، حتى لا يعطي الجيش، كمؤسسة، أي فرصة للتخلي عنه: هو ممثل الجيش، ظهيره الأول والأخير. ولذا خرج علينا المشير ليعلن ترشحه بزيه العسكري وببدلة العمليات. أي أن رسالة الرجل لنا وللجيش هي أن الترشح ليس عملية سياسية، بل مهمة عسكرية كلفته بها المؤسسة. فهل تنجح هذه الوجهة في التأسيس لشرعية الحكم؟ وهل هي كافية، وما مداها؟