بعد أربعة أعوام على الواقعة: قتل خالد سعيد يعلن موت السلطة

العنف هو أحد أهم وسائل الضبط والتهذيب عموماً. والعنف الجسدي وامتهان الجسد هما جزء أصيل من تركيبة السلطة بكل مؤسساتها الانضباطية: من المدرسة والأسرة والمستشفى إلى الداخلية.
2014-06-11

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
(من الانترنت)

في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي وقعت حادثة سرقة بشارع الفلكي المجاور لوزارة الداخلية بحي عابدين، أتهم بها حارس العقار، عم حسن، وهو رجل في منتصف الخمسينيات من عمره، وأخذ للتحقيق. وتقول الشواهد المختلفة أن الرجل انتهكت آدميته وجرت معاملته بعنف وحشي. وهو صعيدي وكان يشتهر باحتفائه برجولته وبانتمائه للصعيد وأخلاقه. وحينما عاد الرجل إلى منزله لُحظت عليه علامات الانكسار والعزلة. ثم في مراحل لاحقة بدأ يظهر عليه اضطراب وعدم اتزان نفسي كما يقول بعض جيرانه. وفي يوم صحت عمارته من نومها في الصباح الباكر على صوت ارتطام كبير في المنور... كان الصوت هو لارتطام جسده بالأرض بعدما ألقى بنفسه من أعلى سطح البناية. قصص مثل هذه ليست متداولة في ذلك الحي. الأكثر غرابة هو أن قسم عابدين ذاته ليس من الأقسام المشهورة بالتعذيب أو بالإيغال في استخدام العنف. وهو أيضاً من الأقسام القليلة التي لم تُحرق أثناء الثورة.

يمكن القول إن هناك مئات القصص والحالات التي قتلت فيها السلطة المصرية، متمثلة بـ«الداخلية»، المصريين، وهو ما تحفل به سجلات المؤسسات المختلفة التي تعمل على حقوق الإنسان. ففي التسعينيات من القرن الماضي، وأثناء ما سمي بالحرب على الإرهاب، أوغلت الداخلية باستخدام العنف المفرط داخل أقبية السجون وخارجها، ووصلت مراراً إلى حد القتل. وقد رسمت مقولة وزير الداخلية، زكي بدر، الشهيرة «سنضربهم في سويداء القلب» ملامح تلك المرحلة من عمر الدولة المصرية. وبين عامي 2004 و2006، مارست الداخلية وجهاز أمن الدولة أبشع أشكال العنف ضد وسط وشمال سيناء، حتى أن كثيراً من روايات الأهالي تتحدث عن العثور على جثث ذويهم ملقاة في مقالب القمامة. وانطلاقاً من عام 2005 اشتهرت تسمية أقسام البوليس «بالسلخنات» لكثرة العنف الذي مورس ضد الطبقات المهمشة والفقيرة تحديداً.

إلا أن أياً من تلك الحالات والأحداث لم يُثِر ما أثارته قضية خالد سعيد التي تكاد تكون واحدة من أهم عوامل تفجير الثورة المصرية. قتْل الداخلية لخالد (في 6 حزيران/ يونيو 2010) لا يمكنه أن يفسر لنا سر انتشار ذلك الحادث وما لاقاه في المجتمع حتى تحول إلى واحد من عوامل الانفجار، لا سيما أنه سبق للداخلية أن مارست ما هو أبشع. كذلك لا يمكن الركون الى تفسير المكانة التي احتلتها الحادثة بالدور الكبير الذي مثله الإعلام الجديد وشبكات التواصل الاجتماعي.

العنف هو أحد أهم وسائل الضبط والتهذيب عموماً. والعنف الجسدي وامتهان الجسد هما جزء أصيل من تركيبة السلطة بكل مؤسساتها الانضباطية: من المدرسة والأسرة والمستشفى إلى الداخلية. من لا يعرف «قفا المخبر» الشهير... إلا أنه ثمة تحول في بنية الدولة وخطابها أخذ مكانه وترسخ في ممارستها في العقدين الأخيرين. وهو ما جعلها تقدم على قتل خالد سعيد بواسطة شكليها المؤسسي واللامؤسسي المتمثل من خلال/وفي المخبر. فالمخبر تحول من أداة للسلطة إلى السيد!

قتل خالد سعيد

تمت في عصر مبارك شرعنة حالة الاستثناء لتكون هي الأصل... ولتمثل الوضع الطبيعي للحياة في ظل خوف البرجوازية المباركية من الطبقات الأدنى ومن الإسلاميين. وكان النظام يضيف إليهما النشطاء والحركات السياسية، مصوراً إياهما كعملاء للغرب وإسرائيل، وكعوامل إقلاق للأمن والاستقرار. وبالفعل نجحت الدولة والنظام في القضاء على كل من الجماعات الإسلامية والأحزاب والتنظيمات السياسية، باستثناء الإخوان كثنائي شريك في حكم مساحات مجتمعية، وكفزاعة، لكونهم البديل لهما.

قلب حادث خالد سعيد وقضيته هذا المنطق وهذه الترتيبات رأساً على عقب. وظهرت ترتيبات جديدة للسلطة، في مساحات جديدة وعلى شرائح جديدة. فلم يسبق للسلطة أن قتلت أحداً في الشارع من أي طبقة كانت أو شريحة اجتماعية، خارج إطار الحرب أو المعركة أو الحملة. عمليات القتل والتعذيب في التسعينيات كانت تقع في معركة وحرب مفتوحة ضد الإسلاميين في الأحياء الشعبية أو القرى أو حتى مزارع القصب. وحينما كان يسقط أحد أفراد المجتمع الذين لا علاقة لهم بهذه الحرب، كان يتم إلقاء اللوم على الإرهابيين، ويعتبر في الوقت نفسه أنه لا بد من قبول قدر من الضحايا في إطار معركة الدولة الكبرى. وظل النظام والدولة يحافظان على خطاب دائم موجه للبرجوازية مفاده ان هذا لحمايتكم، ونحن نقتل من أجلكم. كما نجحت الدولة في جعل أغلب النخب الفنية والثقافية ملتصقا بها تحت شعار أنها حامية التنوير والفن من براثن هؤلاء المتطرفين. ولعموم الطبقة الوسطى والفقيرة كانت تصدِّر عن نفسها أنها الراعي للدين الوسطي والمحافظ على التماسك الوطني وحماية المواطنين من تسلط المتشددين عليهم. أما حالات التعذيب والقتل، سواء للسياسيين أم لأفراد من الطبقات المهمشة، فكانت تتم في أقبية السجون. وفي حملات البوليس على المناطق الشعبية أو العشوائية، كان يتم استهداف أناس بعينهم، وأما تأديب المنطقة عموماً فيجري في ظل معركة محددة. وهذه التدقيقات لا تشرعن أي قتل في أي ظرف، ولكنها توضح السياقات المختلفة للحوادث. قُتِل خالد سعيد خارج كل تلك الأطر. فالضحية شاب من الطبقة الوسطى، والمكان هو منطقة كليوباترا قرب البحر، في قلب الإسكندرية، وهو حي يتسم بالهدوء وتسكنه الشريحة الوسطى من أبناء البرجوازية، وهو قتل أمام الجميع خارج مقهى «إنترنت» وأمام مقهى عام، وفي شارع من أكثر شوارع المنطقة شهرة وازدحاما.

نبه ميشيل فوكو الى أن الجسد هو أهم ساحة لممارسات السلطة الحديثة، التي حينما تقتل هذا الجسد المنوط بها ممارسة السلطة عليه، فهي تقضي على أهم حليف مجتمعي لها وعلى المشرعن الرئيسي لوجودها، لأن السلطة في الدولة الحديثة قائمة على الوعد بالحياة، على عكس السلطات في عصور سابقة، حيث كان الأساس فيها هو فكرة السيد المتحكم بالموت، الذي يملك الحق في سلب الأرواح أو منح الاستمرار على قيد الحياة. وهكذا كان قتل خالد سعيد إعلانا لموت السلطة في حقيقة الأمر، وليس إظهاراً لوحشيتها ولعنف الداخلية.

التخلص من البرجوازية

حتى يتمفصل الخطاب الأمني في المجتمع، فعليه أن يقوم بعمليات دائمة من إنتاج الفزع. ولكي يستطيع أن يستمر ويجد أرضية خصبه له، عليه أن يقوم بعمليات تصوير لهذا الفزع في عدو أو أكثر، وعليه تحديد حليف أو شريحة يقوم بإفزاعها من عدو ما، وعلى هذه الشريحة أن تكون هي الأخرى ترى ذاك العدو كعدو كي تعيد إنتاجه ذاتياً... فجّر قتل خالد سعيد هذه الدائرة من العقد الاجتماعي الضمني.

ولكن السلطة في مصر منذ عام 2000 أخرجت قطاعا واسعا من البرجوازية من حيز الإنتاج وعملياته لمصلحة شريحة نيوليبرالية جديدة متمثلة في ما عرف بمجموعة جمال مبارك. ثم أخرجت تلك البرجوازية كلية من دائرة الحكم السياسية مع حكومة نظيف في 2005، والتي كان أغلبها من رجال الأعمال والمصالح. بل تخلصت السلطة حتى داخل الحزب الوطني نفسه، وفي دوائر صنع القرار، من النخبة القديمة التي اتسمت بخلفياتها البرجوازية الريفية لمصلحة رجال الأعمال الجدد. فبعد أن كان أحد أهم رموز الحزب هو كمال الشاذلي، تم استبداله بأحمد عز. ثم تخلت السلطة عن أبناء الطبقة الوسطى في عمليات التعليم والتوظيف وتركتهم لطاحونة الدروس الخصوصية ثم السوق.

في حقيقة الأمر، لم يعد هناك خطاب ولا روابط تجمع بينهم وبين الدولة، بل إن خطاب الدولة ولغتها صارا غير مفهومين للأجيال الأصغر من شرائح تلك الطبقة. فخطاب الأمن والاستقرار لم يعد يجد ما يتمفصل حوله لديهم. وإشارات وإحالات الخطاب ودلالته ورموزه ولغته الخ... لم تعد تداعب أي عناصر كامنة في مخيالهم السياسي والمجتمعي.

حادث وخطابان

وُلد حول قضية خالد سعيد خطابان: الإنكار والثورة... وكلاهما نبعا من البرجوازية. ولكن لماذا هذه الحدة في الاستقطاب؟ إنه الموت. فالخطاب الأول حاول شيطنة خالد سعيد وإخراجه معيارياً وقيمياً خارج الطبقة الوسطى: كان من غير الممكن عزله طبقياً، ولكنه حين يخرج خارج حيز طبقته المعياري الأخلاقي، فلا تعود هي منوطة بالدفاع عنه. ولسان حال هذا الخطاب وجوهره الإنكار: هذا غير ممكن، لا يمكن أن تفعل بنا الدولة هذا، وإذاً فهذا الرجل ليس منا. أما الخطاب الآخر فكان: لا يمكن السكوت على تلك الدولة، لا يمكن القبول بهؤلاء، ولا يمكن أن نُقتل هكذا، ولا يمكن الاستمرار مع هذا الوضع. ومن هنا جاء دور صورة خالد لتلعب كعامل سحر في المجال العام، وكانت أحد أهم رموز خطاب الثورة. صورته الوديعة مع قطته، أو الصورة الرئيسية التي تنم عن شاب وسيم جامعي، لا يبدو فيها عليه أدنى ملامح الإجرام أو كونه من الأشقياء. صورة مضادة لصورة المجرم الذي لم ينفك يظهر على قنوات الإعلام الرسمية بوجه شاحب وغاضب، به ندوب، وهندامه رث، أي الصورة المطابقة لأبناء الطبقات المهمشة. كانت صور الداخلية للمجرمين ترسم دوما خط اتصال واضحا بينهم وبين صورة أبناء المناطق الشعبية والعشوائية. ولهذا جاءت صورة خالد لتقول دونما تعليق: نحن لسنا هؤلاء، فلماذا تقتلوننا؟

ثمة شيء لا يود أحد ذكره، وهو أن أغلب أبناء الطبقة الوسطى بالإسكندرية يحششون في الطرقات، ولا يَتوقع أغلبهم أن يلقى حتفه بسبب شيء متداول مجتمعياً ومعروف، وإن كان مسكوتا عنه. فالمعتاد «تخليص» مثل تلك الأمور بعشرين جنيهاً في يد أمين الشرطة. ولذلك فإن خطاب شيطنة خالد من خلال إظهاره على أنه «حشاش» لا يتمفصل كثيراً مع السياق والواقع المجتمعيين، على الأقل عند الشباب بالإسكندرية. وهو ما ساهم بدخول شرائح واسعة من الذوات غير المسيسة في الاحتجاج.

الذوات غير المسيسة تقاوم

شهدت تظاهرات خالد سعيد بالإسكندرية والمحافظات الأخرى دخول أناس لم يكن لهم أدنى علاقة بعالم السياسة. وربما يكون أغلبهم قد شارك فقط في تظاهرات الجامعة متضامناً مع الانتفاضة الفلسطينية أو ضد غزو العراق. ودخول هذه النوعية الجديدة جعل الأمن في أقصى درجات ارتباكه في التعامل معها. فهى بدون قيادة أو مرجعية فكرية يستطيع من خلالها التفاوض معهم أو قمعهم. ثم إن الأمن لم يكن يعرف إلى أي مدى يمكنه استخدام العنف ضدهم. وعلى العكس من استخدام وسائل الاتصال الحديثة مثل فيسبوك والمدونات التي انحسرت في الاستخدام من قبل النشطاء السياسيين والمدونين أو جماعات سياسية جديدة مثل «السادس من إبريل»، أصبح المستخدم العادي لـ«النت» (الذي هو وسيلة للمرح أو اللهو أو في أفضل الأحوال للاطلاع) فاعلا سياسيا رئيسيا في التعبئة والحشد والتحريض ضد السلطة.

ولقيت صفحة «كلنا خالد سعيد» رواجاً وتواصلاً غير مسبوقين سياسياً. ووصل عدد أعضائها إلى ما يزيد عن 200 ألف في أقل من شهر. وأصبحت القضية محل جدل ومتابعة من أسوان إلى مطروح. وهكذا ولد فعل سياسي ذو طبيعة شبكية ولامركزية مربكة بل محطمة لجوهر العمل الأمني الذي تم بناؤه وإعداده لمواجهة أعتى التنظيمات والجماعات السرية والمسلحة. فرخاوة وسيولة المقاومة وذواتها غير المسيسة وغير التابعة لأي قيادة جعلتا الأمن يتعامل مع شبح مجهول وغير متوقع الأفعال. وقد حدث تطور مذهل في أساليب المقاومة ونوعية التظاهرات والوقفات وتمددها عبر شرائح مختلفة، حيث لم يكن هناك أي مصدر حقيقي واحد للفعل. فكلها شبكات وخلايا تتواصل علناً وسراً وعبر قنوات وأدوات غير معلومة مسبقاً للأمن. لقد صار الفاعل السياسي مجهولا (anonymous).

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...