مصر: الثورة الضعيفة والمعنى المفقود

الثورة في مصر اليوم في موقف متعثر، تبدو الأرض من تحتها رخوة، قابلة لابتلاع أبنائها الذين يجتاحهم فقدان المعنى والجدوى.. وهذا يمكن رصده في مساحات كبيرة، تبدأ من كتابات وتعليقات العديد من المثقفين وكذلك الشباب في الفضاء الالكتروني، وتنتهي بأحاديث المقاهي بين الأصدقاء. هناك شعور عميق بالهزيمة أمام سردية الدولة العسكرية وانتصار مكوّنات الاستبداد والقمع على قيم الحرية والانعتاق.<font
2014-08-13

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك

الثورة في مصر اليوم في موقف متعثر، تبدو الأرض من تحتها رخوة، قابلة لابتلاع أبنائها الذين يجتاحهم فقدان المعنى والجدوى.. وهذا يمكن رصده في مساحات كبيرة، تبدأ من كتابات وتعليقات العديد من المثقفين وكذلك الشباب في الفضاء الالكتروني، وتنتهي بأحاديث المقاهي بين الأصدقاء. هناك شعور عميق بالهزيمة أمام سردية الدولة العسكرية وانتصار مكوّنات الاستبداد والقمع على قيم الحرية والانعتاق.

ثورة كبرى حاضرة وقصة كبرى غائبة

كأننا أمام ثورة كبرى من دون قصة كبرى. فهي كبرى من حيث تعدد جبهات الصراع وخطوط المواجهة مع منظومة السلطة على مستويات مختلفة، من الثقافي والسياسي إلى الاجتماعي والاقتصادي، بالإضافة إلى تعدد موجاتها وأهدافها واتسامها بتناقضات حادة وتقلب دائم في الأوضاع، وإسقاط ثلاثة أنظمة سياسية (مبارك، المجلس العسكري ثم الإخوان المسلمون). وتواجه الثورة السرديتين اللتين سيطرتا على العالم العربي، وليس فقط على مصر، أي دولة الاستقلال الوطني العسكرية الطابع والبنية التي طرحها عبد الناصر، وسردية الإسلام السياسي في نسختي البنا وقطب، علاوة على الصراع مع هيمنة سردية «السوق» كحقيقة مطلقة وكصياغة علمية لإدارة الموارد والسكان. وبالأخص منذ 2000، بعد اشتداد الخصخصة وسيطرة الطابع النيوليبرالي على السلطة.
وهي ثورة كبرى أيضاً من حيث تدخل الصراع الإقليمي والدولي في مجرياتها، وتأثيرهما عليها، وتأثيرها عليهما، وتفجر أوضاع المنطقة بعدها، واشتداد الحرب بالوكالة من خلالها. فلا يمكن اختزال هذه الثورة بشكلها السياسي أو بإطاحة رأس «الملك» الذي تجسد في البداية بمبارك. وهي تأتي في سياق تاريخي يشهد أقصى درجات فشل وانحطاط دولة ما بعد الاستقلال الوطني. كما أن تفجرات الثورة الدائمة وتناقضاتها دفعت الى صعود الإسلام السياسي متمثلاً بأكبر وأعرق جماعة منه في العالمين العربي والإسلامي هي الإخوان المسلمون.
وقد انفجرت تلك التناقضات مرة أخرى في وجه الإخوان وسرديتهم، ليسقطوا سياسياً ومجتمعياً، ثم لتنزلق البلاد الى دوامة قاسية من العنف والإرهاب وإرهاب الدولة والنظام العسكري. إلا أنه من الجلي أنها ثورة بلا قصة كبرى، وبلا حقيقة تصارع من أجل فرض سرديتها وتأسيس خطاب ولغة حولها وبنائهما للتعبير عنها، أو لإنشاء هيكل وبنية من اللغة في ما بعد لتعبر عما هو «حقيقة». هي ثورة قامت من خلال ما يمكن تسميته بـ«الذات الضعيفة» والتفكير الضعيف: «تجرأ على القتال .. تجرأ على النصر»، كان هذا أحد أهم شعارات الثورة الصينية بقيادة ماو سي تونغ، وقد مضى ما يقل عن قرن على هذا الشعار. قبله وبعده سُفكت دماء كثيرة في ثورات عديدة تحت مزاعم الشرعية الثورية. وكان «النصر» يحمل دائما معه قصة كبرى وسردية تقول «الحقيقة» عما حدث ويحدث وما ينبغي أن يحدث. وتفرض دوماً هذه الحقيقة والسردية من خلال هيمنة سلطة طرف تاريخي على أطراف أخرى.. هكذا أيضاً يتم تعريف نجاح الثورات. كما ارتبطت دوماً فكرة السردية والقصة الكبرى مع ما يعرف بـ«الكتلة المهيمنة» التي تأخذ شكل التنظيم السياسي، سواء جاء في تجليه الأعلى على شكل الدولة أو في تجليه في الحزب الثوري أو جماعة أو مؤسسة ما. ولأن الثورات الحديثة كانت الأساس لانطلاق مشروع الحداثة والتحديث في العالم، تزامن هذا مع تأسيس ما يسمى «بالذات القوية».
وهذه تجد جذورها في اللاهوت السياسي، إذ تمت علمنة المقدس الديني إلى المقدس الحداثي واستبدال مطلق بآخر. والذات القوية تلك ولدت في حقبة الحداثة واستكمال مشروع الدولة الحديثة والمجتمع الانضباطي. وهي تشعر بأنها تحمل حقيقة مطلقة عن الكون والإنسان والطبيعة والأشياء. لم تدّع الثورة المصرية حمل حقيقة جديدة للعالم ولا نهج يجب أن يُتَّبع، ولا شكل وتعريف محددين للنصر، ولا تصور واضح عن طبيعة وهيكل الحكم الذي يجب أن يُطبق على أرض الواقع حتى يتحقق العدل والتقدم والحرية. فالثورة الفرنسية ظنت أنها تحمل رسالة للإنسانية، بل حاربت وسفكت الدماء واستباحت الحريات من أجل تطبيقها. ولينين وتروتسكي قادا حرباً ثورية وحرباً أهلية للانتصار لتصور بعينه عن الكون ووعد المساواة والتحرر من خلال المضي قدماً نحو المجتمع الاشتراكي، وهي سردية لم تأخذ طابعاً فلسفياً وجدلياً حينما كانت تطرح نفسها على الجموع، بل تمسكت بصبغة «علمية» تقف على أرض صلبة من المعرفة اليقينية. وكذلك جاءت ثورة كوبا المسلحة بحقيقة ما كانت تكفل بإعطاء شرعية كاملة لسفك الدماء ما دامت المعركة تطلب ذلك. وحوَّل الخميني الثورة الإيرانية ونجح في فرض سرديته حول ولاية الفقيه وشكل السلطة المطلوب تحقيقه ليتم من خلاله، ومن خلاله فقط، الخير والعدالة.
أما الثورة المصرية فمنزوعة التبشير، تَعِد بالتجربة والتحقق والتجدد، لا باليقين والحقيقة. تَعِد بصراع دائم ومستمر لضمان الحرية وتجدد الانعتاق. و«القصة» هي الاشتباك الدائم والمتجدد مع البنى القمعية والسلطة من أجل تهذيب وتغيير مستمرَين، والرفض المتجدد للهيمنة من خلال أساطير ميتافزيقية جامدة، سواء جاءت من خلال مقدس مادي متمثل في الدولة وخطاب العسكر، أو مقدس ديني متمثل في الإسلام السياسي والجماعات الجهادية. المعنى يخلق هنا من خلال التجمع والنضال ذاته، وليس من خلال أدوات الجدل أو أدوات العنف والسيطرة. فمنذ اليوم الاول هناك تعدد للحقائق داخل الميادين وحرص على استمرار تعددها وتنوعها. وهنا يصح ما يسميه الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو (صاحب «نهاية الحداثة» وكتب/ مداخل للتعريف بنيتشه وهايدغر) «بالتفكير الضعيف»، أي التفكير الذي لا يدّعي لنفسه مطلقاً ميتافزيقياً، سواء كان مادياً «معلمناً» ومقدساً بصيغة علمية، أو دينياً مقدساً بصيغة روحية. إنه التفكير المتقبل لعدم كماله والواعي لما به من عوار ونقص متجددين... وتلك الحالة تجلت في العديد من الأوساط الشبابية والسياسية قبل الثورة وأثنائها، وتقلصت وتراجعت كثيراً في السنتين الماضيتين مع اشتداد الاستقطاب والقتل والصراع على خطوط الهوية الجامدة، بين الوطنية المصرية والإسلام السياسي.
ولم يكن من الممكن إسقاط تلك الحالة من الترحال اللانهائي بدون الدخول في صيغة الحرب/الإرهاب. فالحرب هي المنطق الذي يستطيع إخراس أي منطق آخر، ومن خلال خطابه وممارساته تتم مأسسة واستدامة حالة الاستثناء والطوارئ، حيث عُدّ أي تفكير مغاير خطراً يجب سحقه قبل أن يقدِّم مبرراته وحججه. وهذا ما تجلى في خطاب كل من الإخوان والعسكر. فكلاهما أعلن أنه لا وقت لأي خطاب آخر لأننا الآن في حرب حامية الوطيس ولا مجال للنقد.

الترحال والتجدد

هناك، منذ اليوم الأول للثورة، حديث مستمر حول غياب التنظيم والكتلة المتجانسة اللذين من شأنهما تطبيق أهداف الثورة وفرضها. وهناك رأيان في غياب «القصة الكبرى» عن الثورة المصرية، الأول يرى أنه عوار جلل، وهو المتسبب الأول في ضياع بوصلة الثورة، حيث قاد هذا الغياب والفراغ لملء مساحات السلطة والأبنية المجتمعية بالأفكار الأصولية أو بالارتداد الى الصيغ المختلفة من السلطات القديمة. وتقول تلك المجادلة إن غياب المعنى يقود إما إلى حالة عدمية تتعامل مع الثورة تعاملاً احتفالياً وكرنفالياً، أو لحالة سيولة شديدة وارتباك أمام سؤال السلطة والسياسة في مستوياتهما العليا، أي هياكل الدولة والاقتصاد. إن افتقار المعنى طبقاً لتلك الرؤية أيضاً يقود إلى تقويض الجماهير وجعلها أميل لأي خطاب يدعي ارتكازه على «الحقيقة» وانبثاقه منها.
إن شبكة العلاقات بين تلك المفاهيم قادرة على تفسير الوضع في مصر من زاويتي الثورة والثورة المضادة. ليس فقط على المستويات العليا للسياسة والحكم بل على مستوى تفسير حالة الإنكار التي يمر بها الكثيرون. إن شعار ماو يكتسي هنا معنى أشمل، حيث إن الجرأة على القتال تولّد ثقة بالغة بأن هناك نصراً منشوداً أبعد من غاية القتال نفسه. هذا الشرط الرئيسي غير متحقق في قطاع واسع ممن عُرفوا بشباب الثورة (الذات القوية)، لذلك ثمة التباس ينفجر في وجه كل من التنظيم والكتلة القادرة من خلاله على النصر.
على الجانب الآخر، تسعى الثورة الى تفكيك السرديات المهيمنة. إلا أنها بهذا الفعل تصدم قطاعاً معتبراً من الجمهور في تكوينه وفي الحقيقة التي رسمت وجوده ودوره. ولهذا يستطيع خطاب الدولة العسكرية أن يتمفصل مهما بلغ من جنون وحمق وكذب، لأن قبول تفكيكه يعني التضحية بالحقيقة المكوِّنة لذوات كثيرة، ورفع الزيف والأقنعة عنه يبدو لهؤلاء أكثر جنوناً وخطورة من قبول جنون وانحطاط الخطاب نفسه. وكذلك يمكن أن يندرج التحليل نفسه على الإخوان تحديداً، فالوجود مشترط بالقبوع داخل التنظيم حيث يصبح من الصعب تخيل معنى للحياة خارجه.
ويزيد من جنون تلك الذوات القوية انهيار الوضع الاقليمي خارج مصر، وتحديداً في كل من سوريا والعراق وليبيا. فبعض مؤيدي العسكر، حتى بعدما تجلى لهم مدى سوء هذا النمط من السلطة وانحطاطه، يفضلون الدفع بأن القمع والاستبداد أفضل من مآسي تلك البلدان، وخيالهم السياسي غير قادر على تخيل وتصور واقع مغاير ممكن. وهو ما يعني ارتداداً كاملاً الى سردية مبارك ودولة الاستقلال الوطني في طورها الأكثر ترهلاً: «إما أنا أو الفوضى».
ثمة زاوية لا بد من اعتبارها، رغم تردي الحال في هذه اللحظة. فربما تكون هذه الثورة هي الأولى في تاريخ مصر الحديث التي قامت بزلزلة أوهام ما تحمله سردية السلطات القائمة ثم الثورة المضادة من ميتافيزيقيا واستبداد. وهي تشتبك مع «السلطة» في شكلها الصافي والمجرد، وتطرح على المجالين العام والخاص سؤال الحرية بدون مساومة وبدون تأجيل تحت مزاعم قصة أكبر وحقيقة أبعد. وهذا مديح «الذات الضعيفة» وما تمثله من حلم الانعتاق من خلال التجدد والترحال. إذ لا نهاية للتاريخ ولا مرسى أخير...

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...