الطبقة الوسطى في مصر بين النفور من السياسة والاضطرار لها

يتشكل الفعل السياسي في مصر بشكل جديد مبني على تبلور في الوعي الطبقي. فقد باتت عمليات التأطير والخطاب تجادلان بشكل علني باسم الطبقة. وكانت الطبقة الوسطى العليا قد تحركت مرتين بشكل جذري على مدار السنوات الأربع الماضية، الأولى في موجة «25 يناير 2011»، حينما انخرط في الحدث جانب واسع من شبابها، والثانية في «30 يونيو» ضد سلطة مرسي.الثورة ذهبت إليهم وليس
2014-11-05

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
تمارا النوري - العراق

يتشكل الفعل السياسي في مصر بشكل جديد مبني على تبلور في الوعي الطبقي. فقد باتت عمليات التأطير والخطاب تجادلان بشكل علني باسم الطبقة. وكانت الطبقة الوسطى العليا قد تحركت مرتين بشكل جذري على مدار السنوات الأربع الماضية، الأولى في موجة «25 يناير 2011»، حينما انخرط في الحدث جانب واسع من شبابها، والثانية في «30 يونيو» ضد سلطة مرسي.

الثورة ذهبت إليهم وليس العكس

في المرة الأولى، لم يتلازم الحراك مع خلفيته الطبقية، وصار الشباب منقطع الصلة بطبقته ومتجاوز لها، يصنِّف نفسه في خطابه، أو يصنَّف في الإعلام أو عند تناوله في التحليل الأكاديمي، كشباب ثوري يحمل أفكاراً وأحلاماً، ولكنه لا يمثل حقبة من المصالح والتموضع الطبقيان لشبكة من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية. ويرجع هذا لسببين رئيسين. الأول: حَمَل هذا الشباب لواء الثورة وحاول طرح القضية بشكل متجاوز للبعد الطبقي وأيضاً الأيديولوجي، كممثل لقضايا الشعب المصري. الثاني: عدم تمركز أغلب هذا الشباب في مراكز الإنتاج الاقتصادي أو داخل مؤسسات الدولة، وهو من ثمَّ لا يعبر عن قطاع من البيروقراطية، ولا يمثل مصالح اقتصادية لها تمظهرات مادية. والحقيقة أن الحركة كانت معكوسة. فأغلب محاولات الشباب لبناء نقابات مستقلة أو رسمية داخل قطاعات مثل الأطباء أو المهندسين، كانت تجليات لتأثير فعل الثورة وتغللها داخل تلك الشرائح، ولم تكن الثورة تمظهر لحركة تلك الشرائح.
أي أن الثورة ذهبت إليهم وليس العكس. ومثلما مثلت هذه الخاصية موضع قوة لهؤلاء الشباب فهي كانت أيضا كعب أخيلهم. فالشبكات الشبابية كانت قائمة على التضامن والصداقة والحلم ومعاداة السلطة بشكلها الصافي ورفض الانتهاك الجسدي ورفض غلق مساحات التحرر أمامها.. إلا انها كانت شبكات معلقة في الهواء دون تمثيل مادي ملموس في علاقات اقتصادية - اجتماعية تعبر عن مصالح وأهداف ملموسة. وكان تمظهرها المادي قائم في الأساس على «استخدام الجسد» لملء المجال والفضاء العامّين. وظلت مطالبها تتسم بالتجريد، مثل مطلبي الحرية والعدالة الاجتماعية.
وهكذا صار الجسد وحدة التحليل لأفعالها ولمطالبها أيضا (مقاومة الانتهاك والتعذيب والقمع والاهانة). ويتماس الجسد مع مطلبها ببناء مجال عام والحق في التأثير والتفاعل البنَّاء فيه. وتمثَّل ذلك في الحضور في مساحة مادية من الشارع، عبر الحضور الجسدي. وبالفعل تحولت مثلاً المستديرة الحجرية بميدان التحرير لرمز ومساحة سياسيين يحاول كل من الثوار والأمن احتلاله من خلال نشر الأجساد به. فالشباب الثوري كان يختلق المناسبات ليعتصم أو يحتج داخل الدوار. وبالمقابل، وإثناء حكم المجلس العسكري، كان يتم احتلال الدوار ذاته بواسطة جنود الأمن المركزي. وخلال حكم مرسي، كان الإخوان يحاولون استباق الآخرين واحتلاله. كان الميدان ساحة للصراع بين تلك الأجساد المختلفة. والآن، وتحت حكم العسكر بقيادة السيسي، تحاصره مدرعات الجيش والداخلية ولا يُسمح بقيام أي فعل سياسي أو ثقافي فيه أو أي لقاء لمناقشة الأمور العامة.
هذه النوعية من الحضور المادي المتمثل بالجسد فحسب، مكَّن الثورة المضادة من اتهام الثوار بأن فعلهم افتراضي وليس له أي تجلٍ مجتمعي ملموس منتشر في مواقع مادية متنوعة. ولعل ابرز تلك الاتهامات (التي تتسم بالصحة) يتعلق بعلاقة الثورة بكل من الدلتا والصعيد، والذي ينعكس في عدم قدرة شباب الثورة على الحشد والتعبئة في تلك المحافظات، سواء بما يخص قضايا عامة أو في أي عملية تصويتية. كما يشير أتباع الثورة المضادة - وبعض النقد الذاتي - دائماً لغياب تمركز الثورة في شكل شرائح وقطاعات اجتماعية: الفلاحين، والعمال، والتجار.. ولا يستطيع الشباب الثوري ادعاء تمثيل العمال الذين يتحركون ويقومون بالعديد من الإضرابات.

في النفور من "السياسة"

في «30 يونيو» 2013، تحركت الطبقة الوسطى العليا وفئة واسعة من أصحاب التجارة والحرف بشكل أكثر تمثيلاً، أي كطبقة وليس فقط كجموع. اتخذ التحرك شكلاً سياسياً تجسد في مناوئة حكم الإخوان. المثير في الأمر أن هذا التحرك صارت له قابلية أيضاً لإستخدام العنف لإسقاط حكم الإخوان، ولمواجهة الحراك الشعبي المتعدد الذي خلقته ثورة «25 يناير». جانب كبير من الطبقة الوسطى العليا استنفر لوقف ذلك الحراك ولفرض الاستقرار بالعنوة، مثلما جاء على لسان العديد منهم. فنحن كنا أمام خوض الحرب لإنهاء الحرب. إلا ان الحرب يمكنها أن تقف على مستوى المعارك، أما السياسة فهي حالة مستمرة من الجدل والصراع.
يشير الباحث محمد نعيم إلى أن هذه الطبقة في مصر معادية بالأساس لجوهر فكرة السياسة من حيث هي النقاش الفعال لتغير مسار الأوضاع. وقد ساعدت حقبة مبارك على ترسيخ هذا الميل لديها، حيث لم يستدع ما كان يحدث في البلاد تدخلها المباشر، وبالأخص اشتداد الحرب على الإرهاب في التسعينات، وتوسع شبكة مصالح السلطة ذات الطابع النيوليبرالي في مطلع الألفية الثالثة (على الرغم من أن هذه الخاصية الأخيرة كان يفترض بها أن تستنفرها، لأن النيوليبرالية تقضي عليها تعريفا). وهذا الإحجام يتماهى مع المكونات الثقافية السائدة في قطاعات واسعة منها، سواء المحافِظة التي ترى السياسة «عيب» و«جدل» «ومشاكسة»، وأنّ السياسي ما هو إلا شاب «غلباوي»، أو تلك الأخرى التي ترى في ممارسة السياسة خطر على أمنها الشخصي والاجتماعي.
فحكم مبارك هو عصر غياب السياسة عن مصر على كافة المستويات، فلا هو طرَح مشروع قومي، ولا ادّعى قضية تحررية كبرى، ولا انخرط في تنافس عسكري أو اقتصادي. كما لجأ لإرهاب خصومه وترويعهم من خلال جهاز أمن الدولة والمحاكمات العسكرية. وفي المقابل، شجع نظامه على رأسمالية المحاسيب وتوسَّع الفساد حتى صار منظومة عمل وآلية لتوزيع الثروة.
ومن ثم، فالسياسة لا قيمة لها وهي تعطيل عن محاولة اللحاق بركب المصالح والمكاسب، أو هي طريق الهلاك لأتباعها. وبالطبع، فلا يجب إغفال أنه عصر الحزب الواحد، وأن تركيبة هذا الحزب جعلته ملتقى لشبكات المصالح الاقتصادية والتجارية لأتباع النظام، وهو لم يكن قائماً لإدارة السياسة وإنما لإدارة تلك المصالح وضبطها وضمان عدم تفجر تناقضاتها. وهكذا حُمِّل مصطلح السياسة بدلالات سيئة، شديدة السلبية، وانقلب منطق السياسة من الايجابية والفعالية إلى التسكع والانحراف. فأغلب أبناء الطبقة الوسطى تمت تنشئتهم على مبدأ أن السياسة مضيعة للوقت.

في «ضرورة» السياسة

إلا أن الأمر لم يعد كذلك. فقد صارت هذه الشرائح مطالَبة بالتعاطي السياسي مع الأمور لترسيخ مصالحها ووضعها، سواء كانت مع الثورة أو ضدها. قد تكون الثورة المضادة قامت بخدمة جليلة للثورة، وهي أنها أعادت تشكيل وعي الطبقة الوسطى لنفسها وموقعها من الدولة وعلاقات الإنتاج وجهاز السلطة القمعي المتمثل تحديداً بالشرطة. وقد اضطرتها للتسيس ودفعتها اليه الثورة المضادة، التي كانت بقيادة قطاع كبير من الطبقة الوسطى العليا الرافضة بالأساس للتسييس. إذ تكشف لها أنه اصبح ضرورة للاستمرار، وللعودة لما قبل لحظة 25 يناير. وهي تعيش أزمة داخلية بين شبابها وكهولها، حيث يدفع قطاع كبير من الأول المجتمع نحو الثورة والتسيس لأنه عانى من التهميش والإقصاء وتخلت عنه الدولة بالكلية، بينما يدفع طرفها الثاني نحو إعادة إنتاج نظام مبارك أو على الأقل وقف المد الثوري.
ويبدو أن حلم الثاني في أن يحمل عنه آخرون العبء السياسي (مثل تدخل الجيش للإطاحة بمرسي، ولحظة التفويض، ثم انتخاب السيسي كسيد ومهيمن على البلاد للسيطرة عليها ووقف الفوضى والسياسة)، قد أصبح وهماً وحلماً بعيد المنال، إذ أصبحت السياسة أمراً لا بد منه.
لكن بنية النظام لم تكن قادرة حتى الآن على تمثيل هذه الشريحة. فمع الأخذ بالاعتبار أن هذه الطبقة، ومعها شرائح من التجار، دفعت ضريبة كبيرة للعبها دور الثورة المضادة حفاظاً على الدولة العفنة والنظام المنهار، فقد أصبحت لها شهية اكبر للتمثيل السياسي والمشاركة المباشرة في الحكم.. وهو الأمر الذي قد يدفعها للتصادم مع الشبكات الدنيا من الفلول الذين مثلوا جزءاً كبيراً من القطاع غير الرسمي (في علاقات التجارة والجريمة والبلطجة.. معاً).
ويتواكب هذا مع تطلع السيسي للعودة للمأسسة والى الضبط عبر أشكال أكثر هرمية وتماسكاً، بدلاً من رخاوة وأفقية الشكل الذي قدمه الحزب الوطني، الذي أصيب بالسيولة وتغليب الشبكية في أواخر عهده.. الأمر الذي دفع لمعركة واضحة بين اعضاءه حينما بدأوا في منافسة بعضهم البعض في انتخابات 2010.
فالطبقة الوسطى العليا، سواء في أجنحتها الثائرة أو في ما يسمى ب«حزب الكنبة»، أصبح الكثير من افرادها يود تجاوز فكرة تفويض تمثيله السياسي من خلال البيروقراطية العسكرية أو رجال الاعمال الكبار أو الشبكات الدونية من الفلول، إلى أخذ جزء من «الكعكة» السياسية لإدارة مصالحه الطبقية بشكل مباشر. فكبار رجال الأعمال دخلوا في مناوشات صريحة مع سلطة السيسي، تجلت على صفحات الصحف المصرية في الآونة الأخيرة، وترافقت مع تلميحات لترتيبات لم يُعرف مصيرها حتى الآن، ولكن المؤكد هو أن ثمة مسافة بين القيادة السياسية وبينهم، وأن فعلهم السياسي صار أكثر تعبيراً عن طبقة مستقلة نسبياً عن النظام السياسي، بينما كانت علاقتهم بمبارك علاقة تابع بخالقه.
السؤال هو: هل يستغني النظام عن جزء من شرائحه وحلفائه ويستبدلهم بأخرين من مستويات وشرائح أخرى داخل الطبقة الوسطى العليا والبرجوازية الكبيرة؟ وهل يمكن أن يأخذ النظام مسافة من كبار رجال الأعمال لصالح الطبقة الوسطى؟ وهل يمكن استبدال شبكات الزبائنية بأخرى أكثر مؤسسية من خلال البرجوازية؟ ثم، من سيقوم بالمهمات القذرة للسلطة؟ مع الأخذ في الاعتبار أن هذه الشرائح لن تقوى على القيام بما قامت به الشبكات الدنيا من الفلول، بالأخص أعمال البلطجة وأخذ الخطاب (كلغة وممارسة) إلى أقصى درجات الانحطاط..

مقالات من مصر

العاصمة المصرية في مفترق طرق..

رباب عزام 2024-11-21

على الرغم من الأهمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية، بالنسبة إلى المواطنين، للمنشآت والمباني المقامة حالياً على أراضي "طرح النهر"، خاصة في العاصمة القاهرة، إذ يشمل أغلبها كثيراً من الأندية الاجتماعية التابعة...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...