ربما تفتقد الثورة الآن الخيال، أو بالأحرى إمكانية الحلم. فالواقع ألقى بظلاله الكثيفة الكئيبة على طموحات الثورة وجموح الشباب وآمال الانتصار. فبعدما امتلأت ميادين مصر بألوان المستقبل واكتظت بشبابها، صارت الأرض مسرحاً لصراع "الآباء" حول بديلين ينتميان إلى السلطوية والاستبداد. وهكذا تبدلت ألوان الثورة المبهجة بعتمة الماضي وصراعاته، وحل ثقل الدولة وبطشها مكان أحلام الثورة وخفتها. وبدلاً من أصوات وضجيج هتافات المستقبل، طغت أصوات القنابل والمدافع وطلقات الرصاص. وربما صار الحلم شططا وجموحا في الخيال ومضياً في المستحيل.
كيف يمكن أن نتخيل مصر 2054؟ في البدء دعونا نقف على أرض الحاضر لننطلق إلي المستقبل. فالثورة ما هي إلا إعادة تخيّل للواقع، رسم جديد في جراح الحاضر وفتح لباب الخيال والحلم على بؤس اللحظة الراهنة، قطيعة مع تاريخ مضى، وقفز إلى مجهول يأتي، ومعركة مع اللايقين باليقين.
مصر من شرفة القطار
كيف يبدو مشهد الوادي من شرفة القطار؟ لعل أول أمر لافت للنظر هو مقالب القمامة المنتشرة على طول الوادي، سواء كنت مسافراً من الإسكندرية إلى القاهرة أو من القاهرة إلى أعماق الصعيد. ثم يأتي قبح واتساخ المعمار. والمشترك بين القاهرة ومحافظات الدلتا والصعيد هو عدم اكتمال طلاء البنايات، حيث تكون وجهاتها فقط هي الملونة وبقية المسطحات تبقى على الطوب الأحمر. كما يلاحظ غير المختص بالمعمار والتخطيط العشوائية اللامتناهية الممتدة عبر الوادي من شماله لجنوبه. ولو كنت من تعساء الحظ، أي من ركاب "التيرسو" (الدرجة الثالثة)، فالقبح والاتساخ سيلاحقك من الخارج والداخل، كما ستهب عليك رائحة حمامات القطار من حين لآخر لتذكرك بعفن الدولة وفشلها من ناحية، وبؤس حالة الإنسان المصري وحصاره وحَساره من ناحية أخرى. أما لو كنت أكثر حظاً، من ركاب الدرجة الثانية مثلاً، فسترحم من رائحة الحمامات وسيكون الوضع داخل القطار أفضل حالا بكثير، كما سترحم من هبات التراب أو المطر في ليالي الشتاء. وإن كنت أكثر حظاً وكنت من ركاب الدرجة الأولى، فستشاهد هذا القبح من كرسيك الأكثر اتساعا وراحة. ولا يعكر صفو هذا القبح الممتد على ضفاف النهر سوى لحظات من الانقطاع، حيث يتدخل خضار الدلتا في الرؤية أو يقطع النيل صدر هذا العمران المتوحش ليعطي نفسا وحسا بالجمال. وهو ما ينم عن أن ما بقي جميلاً في هذا البلد هو فقط ما لم تمتد يد الدولة أو المجتمع إليه وبقي على حاله. وهذا صلب مشكلة التخيل وعمل الخيال. كيف نتخيل مصر بعيداً عن بطش وهيمنة الدولة وبعيداً عن العشوائية والتخبط والزحف الاستباحي للمكان وللجمال من قبل الشبكات الزبونية في المجتمع؟ ببساطة إنها إمكانية للإبداع، لعودة الألوان، لأشكال أخرى من التنظيم والتخطيط، خيال جديد لإعادة تصور المدينة وموقع الإنسان فيها، مساحات أكثر رحابة بعيداً عن توحش النيوليبرالية واستيلائها على المدينة بل اجتياحها، الخروج من ثنائية الدولة والعشوائية.
الهزيمة وبؤس الدولة وعشوائية الانفتاح
منذ خمسينيات القرن الماضي هيمنت الدولة على المجال العام بالكلية، حيث أصبحت المسؤول الأول والأوحد عن التنظيم والتخطيط والتشييد والبناء والتصور والخيال. والأهم هو هيمنتها على الجدل والنقاش العام وما هو مسوح الحديث فيه. فالطموح الناصري تجسد في دولة قوية (وباطشة) تقود عملية التحرر والاستقلال الوطني، ومثُل لها الاختلاف والتنوع كقيم للانشقاق والتفكك. والحرية فقط في ربوع تلك الدولة ومن خلالها، مثلما عبرت أغنية عبد الحليم الشهيرة: "صورنا صورنا يا جمال، والي حيبعد مالميدان الي حيبعد مالميدان عمره ماحيبان (أي يظهر) في الصورة". كل ما هو خارج هذا الكادر هو هامش مهمش. فالصورة هي فقط كل ما يلتف حول الزعيم. وبالفعل التف كل عمل وإبداع حول الدولة ومن خلالها، وحول جسد الزعيم وما يملأه من حيز في الوجدان والواقع. واتسمت مصر بمركزية واستبداد مفرطين. وانسحب هذا على المعمار حيث انتشر طراز الواقعية الاشتراكية الذي يجسده في قلب ومركز المركزية، مبنى "مجمع التحرير" رمز البيروقراطية المصرية وأكبر ساحة لتعذيب المصريين وإذلالهم بعد السجون وأقسام الشرطة. وفي الفن والأدب هيمنت الدولة على عمليتي الإنتاج والتخيل، ولكن هذا لم يمنع وجود قدر كبير من الزخم والتشجيع على العمل، فانتشرت أعمال الترجمة والصحافة والسينما، على الرغم من ضيق مساحات الحرية المتاحة، واكتسبت مكانة كبيرة في العالم العربي حيث كانت مصر مركز الصراع والقيادة والثقافة، وكعبة للعرب على مستوى السياسة، وجامعات مصر على مستوى التعليم. ثم تلقى الزعيم ودولته الضربة القاصمة في 1967. فالجيش ليس وحده من هزم، بل هو مشروع بأكمله، وزعيم بآماله ودولة مترهلة ومثخنة بالجراح والأعباء، ومجتمع غير قادر على التنظيم أو تجاوز الدولة. هكذا كنا وإلى هذا صرنا. ومع تلك الهزيمة، لم تعد الدولة قادرة على الإقناع ولا على السيطرة الحقيقية على المجتمع. ولأنها ألصقت المجتمع بها وغللته حولها، انحط هو الآخر مع تلك الضربة القاصمة. إلا أن الدولة ظلت محتفظة بأمرين في الهيمنة: السيادة على القرار، وهو صلب تعريف "كارل شميت" للدولة، والتصاق قطاعات كبيرة من المجتمع بها سواء وجدانياً أو مادياً من خلال جهازها البيروقراطي الضخم وشبكات الفساد والزبونية وسيطرتها على أدوات القمع والإرهاب. ثم منذ عام 2000، برزت شبكة رجال الأعمال النيوليبراليين. وليس مصادفة أن ينهار كل من الفن والدولة معاً بعد الهزيمة، فتنتشر أفلام أقرب للـ"بورنو" في فترة ما بعد النكسة وصولاً لأفلام المقولات التي صحبت فترة الانفتاح.
وهنا أود التوقف عند مسألة الهزيمة ثم مرحلة الانفتاح.
فالانفتاح جاء في حقيقة الأمر ليعبّر عن الهزيمة وإعلان مرحلة جديدة من فشل الدولة وتركها للناس ليصرفوا أمورهم، عن طريق تشجيع الدولة للاستباحة، وما عرف وقتها "بالتهليب"، ورفع يدها عن التخطيط. وفي تلك الفترة، تجاور قبح وفشل الدولة في المعمار والتنمية مع الزحف العشوائي للسكان ولجماعات المصالح و"التهليب"، وظهرت أمراض مثل الاستيلاء على الأراضي، المعمار غير المكتمل، توحش النزعة الاستهلاكية، الجموح نحو الاقتصاد الخدمي... ثم جاءت حقبة مبارك لتزيد الطين بلة. فهي كانت حقبة استكمال الاستباحة العامة مع قبضة أمنية حديدية للشرطة، ولكنها مصحوبة بترهل وانتقائية في تطبيق القانون. ولأن الدولة والنظام السياسي أرادا مد الأمر، جاءت حقبة التسعينيات تنجز مشروع الخصخصة بتوحش، ثم منذ 2000 بدأ الدخول في نمط نيوليبرالي يشجع على الاحتكار وتشجيع الاستثمار الخارجي الذي اتسم هو الآخر باستباحة البيئة والإنسان والموارد، ولعل أبرز مثل لهذا هو تكاثر مصانع الاسمنت الملوثة للبيئة ونمو الاستثمارات الخدمية والعقارية. المثير في الأمر، هو أن الدولة ظلت محتفظة بقدرة كبيرة على إعاقة التنمية والابداع، فهي سمحت أو تغاضت عن العشوائية والاستباحة لكنها منعت أي محاولة للتنمية والاستثمار المحلي الجاد. فمثلاً تمنع الدولة أهالي سيناء من الاستثمار الزراعي النوعي في الشمال والوسط والمناطق الحدودية، كما تعرقل البيرقراطية ومنظومة الفساد أية استثمارات صغيرة جادة ومنتجة.
والمشهد ببساطة يتجسد في المواصلات والانتخابات. فعلى صعيد النقل والمواصلات، فإما أن ترضخ لزحام وقلة وسائل النقل الحكومي وتقبل بقذارته وخرابه وما يمثله من جحيم محقق على الأرض، وإما أن ترضخ لتوحش واستغلال وعشوائية الميكروباصات الخاصة و"التكاتِك". وعلى صعيد الانتخابات: فإما الحزب الوطني وهو يمثل كل من الدولة وشبكات المصالح والفساد وعلاقات زبونية صريحة، وهيمنة رأس المال الأكثر وضوحاً منذ 2005، أو أن تقبل بالتيار الإسلامي ممثلاً أيضاً لسلطوية قيمية ومجسداً لمصالح وشبكات زبونية ورأسمالية. وهكذا الحال مع الصحة والتعليم، فإما خرابات وزارة الصحة التي يتقلص عدد مستشفياتها وهي تعتمد على مجموعة من المستشفيات التي أُنشئت في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أو مرحباً بك في سوق المرضى في القطاع الخاص، أو أن تصرف أمورك من خلال المستوصفات الخيرية المنتشرة في المناطق والاحياء الفقيرة.
الثورة والألوان
جاءت الثورة لتحدث قطيعة مع أحادية اللون تلك. فالميدان وشوراع الثورة تميزت بالتعدد والتنوع. جاءت لتضيف قيماً جديدة في احترام الجسد والمساحة العامة، بل يمكن الدفع بأن حركة الثورة تدور حول الجسد واحترامه وعدم مهانته وحول استعادة الفضاء والمجال العامين من سطوة الدولة. كما جاءت كاسرة لثنائية الإسلاميين / والحزب الوطني والعسكر. وعلى الرغم من الانتكاسة الحالية للثورة، فإن تلك الثنائية قد تهلهلت. ومن غير المتوقع أن تنكسر ثنائية وهيمنة عاشتا وتوغلتا لعقود في سنوات قليلة، حيث من الطبيعي أن يحصل تأرجح بين العسكر والإخوان، وبين شبكاتهما الزبونية. فتلك مثلت بنية المجتمع القديم الراسخة، كما مثلت قيماً مغرقة في الرجعية والمحافظة والاستبداد. انطلقت الثورة من تنظيمات شبكية معادية لتراتبية السلطة وهيمنة البنية على القيمة والفرد، كما هي تحاول الحفاظ على التعدد الهوياتي، أي أنها تفاوض الهويات في صراع بناء غير قائم على نفي وجود الآخر والاستحواذ والهيمنة. وكان هذا أحد أهم خطوط المعركة مع الإسلاميين وجماعة الإخوان المسلمين. وعبرت معارك الثورة عن خمسة خطوط من الصدام والتفكيك لمنظومة السلطة وهي:1- التنوع والتعدد 2- الجسد وتفكيك منظومة الأمن القديمة 3- المجال والفضاء العام وإعادة صوغها بما يتناسب مع تطلعات الحرية والانعتاق 4- المرأة وحق الوجود والمساواة وعدم انتهاك حقوقها في المجالين العام والخاص 5- العدالة الاجتماعية ونمط جديد من الانتاج بما يواكب التحرر والتقدم الاقتصادي وبناء منظومة جديدة للعدالة الاجتماعية وإعادة توزيع الثروة.
الثورة والمجتمع:
عن الحركة "البنْدولية" للتمدد الثوري
والمتابع لحركة الثورة والمجتمع في مصر سيجد علاقة واضحة بين الحركات الثورية والفنية والفكرية وبين الميدان والفعل الثوري. فتلك الشبكات تتواصل وتتشابك في حركة ممتدة من الابداع والتجديد يتجلى في توسع الأعمال الفنية المستقلة: فرق الغناء الجديدة، وزخم شديد في حركات المجتمع المدني والتنمية، الأفلام القصيرة والحملات، محاولات السينما المستقلة والمسرح، الحركات الاجتماعية الجديدة بما فيها المطالب الفئوية، مجموعات من الكتاب والصحافيين يحاولون تقديم جديد من خلال مواقع التواصل الاجتماعي أو حتى من خلال مواقع الصحف الرئيسية مثل بوابة الشروق والمصري اليوم، حيث يُقدم نوع آخر من الصحافة والكتابة أكثر استقلالية وحرية وإبداع. والعلاقة التي أتحدث عنها هى تلاقي وحشد عام في الميادين والشوارع، ثم انتشار "للميدان" وقيم الثورة في الأنسجة الاجتماعية والحركات بمختلف أشكالها. أي أن هناك حركة ما بين الحشد الجماهيري الواسع وبين تلك الخلايا والشبكات. فهناك حركة "بندولية" (كرقاص ساعة الحائط) بين الحركات وما تمثله في أنسجة المجتمع، والثورة والفعل الاحتشادي. وبالتالي فالثورة لا تكون في حالة انحسار أو انكسار حينما تغيب عن الميدان، بل ينتشر الميدان ويتمدد في الأنسجة الاجتماعية ويتجلى في أشكال وأنماط أخرى من الانتاج والعمل الفني والأدبي والحقوقي والمطلبي الفئوي، حتى لو بدا في الأخير محدود النطاق والسقف.
إن الأعوام المقبلة ستشهد صراعاً بين منظومة السلطة وتجليات الثورة. فتوقع المستقبل مرهون بأمرين: استمرار كامل للتعفن وهيمنة الدولة وشبكات الفساد، أو أنماط جديدة من التنظيم المجتمعي وتجليات في المعمار والتنمية والتنوع والتمدد بشكل مفارِق لسطوة الدولة وعشوائية الفساد واستباحته. أي حينما ستركب القطار يمتد بصرك ويتطلع باتجاه مزيد من الألوان والجمال في المعمار والتنظيم. وربما مقعد نظيف ومتسع في حافلات الدولة، وعلاج آمن ومحترم للجميع. وربما فتيات في مقتبل العمر بتنانير قصيرة من دون أن يخشين على أنفسهن من الانتهاك والاستباحة.
(*) النص الفائز بالجائزة الأولى لمنتدى الصحافة الإلكترونية لأفضل مقال للعام 2014، في القاهرة