مصر: عن أزمة الخيال السياسي

وضعت الثورة المصرية الجميع في مأزق. فلعقود طويلة، كانت النخب الحزبية كما عموم الناس لا تواجه سؤال السياسة والسلطة والحكم إلا على مستوى من التنظيرات المبدئية، والسطحية. أما النخب الحاكمة فكانت أداة سيطرة ولكنها لم تبلور عقلية حكم. فهذه تولتها البيروقراطية أو قررها الحاكم ذو الخلفية العسكرية وأجهزته الأمنية، العسكرية والمخابراتية، كالحال في الحقبتين الناصرية وبداية الساداتية، أو أجهزة شُرطية
2013-11-06

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
طلال الناير ــ السودان

وضعت الثورة المصرية الجميع في مأزق. فلعقود طويلة، كانت النخب الحزبية كما عموم الناس لا تواجه سؤال السياسة والسلطة والحكم إلا على مستوى من التنظيرات المبدئية، والسطحية. أما النخب الحاكمة فكانت أداة سيطرة ولكنها لم تبلور عقلية حكم. فهذه تولتها البيروقراطية أو قررها الحاكم ذو الخلفية العسكرية وأجهزته الأمنية، العسكرية والمخابراتية، كالحال في الحقبتين الناصرية وبداية الساداتية، أو أجهزة شُرطية كما في نهاية حقبة السادات وحقبة مبارك. ولعل أبرز ما طرحته الثورة هي مشكلة ما يصطلح على تسميته بالخيال السياسي، بما هو «إعمال العقل والمخيلة معا لصياغة رؤى متكاملة لحل مشكلات الحاضر». إلا أن الأمر يبدو أكثر تعقيداً من إيجاد حلول ابتكارية لواقع مأزوم. فعمليات التخيل تمر بمراحل مختلفة ومركبة من فهم الواقع، إلى إمكانية تفكيكه وإعادة تركيبه، إلى القدرة على تخيل واقع مفارق بالكلية. فإما تتم إعادة ترسيخ الواقع السابق مع إدخال تحسينات نسبية عليه، أو تنفتح سبل وإمكانيات أوسع للانعتاق والقطيعة مع ما سبق.
والانسداد في الخيال السياسي يؤدي إلى استدعاء لحظة تاريخية ما، ومحاولة فرضها على واقع وسياق مغايرين لها. فهناك على الساحة المصرية جدل دائم حول عبد الناصر، كرجل وكعصر للتحرر الوطني يمثل قوة الدولة والقومية العربية والعدالة الاجتماعية، وحول الأندلس بصفتها أزهى محطات الخلافة الإسلامية. المثير في الأمر أن عمليات الاستدعاء هذه تتمّ بعد ثورة قيل فيها أنها من نمط الثورات الكبرى. فهناك مفارقة بين طبيعة الفعل الثوري ذاك وعملياته المباشرة، وبين الخيال السياسي لكثير من الأطراف المؤطَرة والمتماسكة تنظيمياً. إلا أن وجود الإسلاميين في أول تجربة في الحكم بعد الثورة يجعلهم موضع الاهتمام الأول في البحث والفهم.

الإسلاميون
لم يكترث الإسلاميون بالتخيّل السياسي لأسباب عدة، منها الصلف، والإحساس بامتلاك «الحقيقة»، والقدرة على القيادة والإدارة. وهذه مشاعر نابعة من الزهو بقوة التنظيم وباتساع الأرضية الشعبية، إضافة إلى كون المهمة غير ملحّة باعتبار غياب إمكانية الحكم في الأفق القريب. وعلى ذلك كله، فنزوع أغلب الإسلاميين هو الى الإصلاح وليس الى التغيير الجذري. لم يكن إذاً ثمة من داعٍ لإعمال المخيلة وظن الإسلاميون أن الأمر لا يتطلب أكثر من إخراج بعض المشاريع من الأدراج وتطبيقها على الواقع لتحسين ظروفه وشروطه. وهو ما يفسر الإحالة الدائمة إلى مشاريع مكتوبة ومعدّة سلفاً (لا نعلم عنها شيئاً)، كلما دار الحديث عن كيفية الحكم، وعن الجديد الذي سيضيفه الإسلام السياسي بما يحمله من أطياف وتنويعات واسعة. والأخطر من ذلك هو الإحالة الدائمة لعصور لم نرها ولم نعشها، ولكنها دائماً متخيَلة طبقاً لرواية وسردية رسمية من قبل هذا التيار السني. وهكذا يصبح التخيّل السياسي مرتداً الى ماض ما، محصوراً فيه، لا في الحاضر أو المستقبل. والفكر الإسلامي وخياله السياسي ليسا منغلقين ذاتياً على عمليات إعادة إنتاج ما سبق، بل على ما هو متخيل أنه الماضي المجيد. ويفاقم الأمر أن تلك الحالة لم يُتَح لها الاحتكاك بتجربة فعلية في الحكم، الممنوع عليها، رغم تعطشها اليه.
وأما الأخطر من هذا القصور فهو ما بدا من استبطان الإسلاميين لنموذج السلطة التي سبقتهم في الحكم ولآلياتها. ففي التجربة القصيرة التي أتيحت لهم، صار حلمهم هو وراثة السابق مع إحلال وتبديل للشخوص. ويتبين ذلك في العلاقة مع الدولة كأجهزة حكم وقمع، ومع المجتمع كمادة استعمالية للحشد والتجييش، وكهدف للإخضاع والسيطرة.

عن تصوّر الدولة والأمة والجماعة
يعاني تنظيم الإخوان منذ النشأة معضلة كبيرة مع فكرة الحداثة، وبالأخص مع تجليها في مفهوم الدولة القومية الحديثة. والالتباس يكمن في أن تنظيم الإخوان هو من جهة حداثي بامتياز من حيث البنية والتنظيم والممارسة والتطلع، ولكنه من ناحية أخرى معبأ ايديولوجياً وعقائدياً باعتباره أداة للوصول بالأمة إلى غايتها الأسمى، وهي تحقيق الخلافة واستعادتها. ومع مرور الوقت، صار التنظيم أداة مقدسة في ذاتها ولذاتها، وحلّت فيه القيمة، ولم يعد فقط ممثلاً لها. وصار يصعب على أفراد التنظيم تخيّل إمكانية تحقيق أي شيء خارج نسق الجماعة. وهو ما جعلها مغلقة للغاية. فالتنظيم يحيا في القرن الواحد والعشرين بعقلية الثلاثينيات من القرن الماضي التنظيمية السرية. وهو أمر يثير الارتباك كثيراً. وكمثال، فحتى يومنا هذا، لا يختار الأفراد الجماعة بل تختار الجماعة أفرادها. ولا يمكن التعرف عليها من خلال قنوات واضحة ومفتوحة، بل تنفتح هي على المختار من قبلها إذا أرادت، ثم تملي عليه الرواية الرسمية عن نفسها. ومن هنا لا توجد مساحة كبيرة لميلاد ما يُسمى بالعقل النقدي، حيث لا مساحة للخيال ولا يوجد للمتخيَل فرصة لتجسيده في الواقع. وليس صدفة أن جماعة بحجم وتاريخ الإخوان المسلمين، أو السلفيين في مصر، لا يوجد فيها مفكر أو أديب أو شاعر. فالإبداع وإعمال العقل مقصور على بُعدٍ أداتي لخدمة التنظيم أو التيار. ولعل أبرز دليل على ذلك هو كون أغلب المفكرين الإسلاميين غير تنظيميين. فنشأة سيد قطب وتربيته تمّت خارج الجماعة، وربما كان الرجل آخر مفكر كبير ظهر للجماعة بعد حسن البنا، وهو المؤسس! فحتى الشيخ محمد الغزالي طُرد منها، وحينما سعى للعودة اليها رُفض.
والجماعة ترى أنها دولة من ناحية كونها جهازاً كبيراً وأجهزة متفرعة. وهي دولة تسعى لاحتلال الدولة. ولكنها على المستوى الخارجي هي طائفة منغلقة. وقد تَعامل المجتمع معها كطائفة مضطهَدة قبل الوصول إلى الحكم وكطائفة تضطهِد بعد الحكم. والأكثر تعقيداً هو سؤال ماذا تمثل الدولة لهم؟ فكون الدولة سيادة وشعباً وحدوداً هو أمر ليس ذا أهمية طبقاً لكثير من أدبياتهم، حيث التنظيم متجاوز للحدود الوطنية، والشعب ليس مقدساً أو مطلقاً مثلما هو الحال مع الفكر الوطني. أما كون الدولة أجهزة حكم وسيطرة وإخضاع، فهي هدف كلي وغاية لأن امتلاكها يعني التمكين. وهكذا تمارس الجماعة أنماط الحداثة السياسية كافة، من المنافسة على النقابات والبرلمان والرئاسة، وتسعى للسيطرة على الجهاز البيروقراطي ثم الأجهزة السيادية بعد الوصول إلى الحكم. وقد ظلت الدولة فكرة مثيرة للالتباس عند الجماعة. وتوقف التنظير لها بشكل عميق منذ سيد قطب. على النقيض من الإخوان، فكثير من الإسلاميين الراديكاليين يرون أهمية تدمير الدولة والكفر بأشكال الحداثة السياسية كافة. إلا أن المعضلة هي البدائل المطروحة، وهي بدائية وأولية لأقصى درجة.

استبطان نموذج الحكم والأسر
ظلت الجماعة تناطح الدولة حتى استبطنت نموذجها بل نماذج نظمها السياسية: التنظيم الداخلي هو تنظيم الدولة نفسه، وهما يتشاركان الصفات الأمنية بل وحتى الأبوية والذكورية. وتتجسّد الأبوية في فكرة الوصاية على الجماهير الطائشة التي لا تعرف مصلحتها وتحتاج إلى القيادة والتوجيه والترشيد من قبل الأب/الرئيس/الدولة/التنظيم/الضابط/الأخ الأكبر. ولذلك لم تكن مصادفة أن يأتي خطاب مرسي يحمل مفردات أبوية مثل «أبنائي»، وأنهم الآباء الذين يتمرد عليهم الأبناء الطائشون، حتى أن آخر خطابات مرسي جاءت مطابقة لخطابات مبارك في التململ والتذمر من جرأة وحدة النقد الموجّه لهما باعتبارهما «الأب»، وليس قيادة سياسية قابلة للنقد والسخرية والتفكيك. وتتجلى الذكورية في مناحٍ عدة، لعل أبرزها هو الضيق من حركة المرأة في المجال العام وكسرها لأدوار مرسومة ومحددة لها سلفاً، والتضيق على حقوق وحريات المرأة على مستوى الممارسة والتشريع، وهما (الدولة وتنظيم الاخوان) يتشاركان بالاضطراب من حقوق وحريات المرأة.
تحكم أجهزة الدولة نخبة أمنية بطريقة سرية وغير شفافة مثلما هو الحال في الجماعة التي تحكمها مجموعة «اوليغاركية» وبطريقة سرية أيضاً. وتعاملت الدولة مع الجموع كمادة وظيفية للحشد وظل مبدأ الرشاوي الاجتماعية هو أصل وجودها، مع خطاب أيديولوجي ركيك حول الوطنية والأمن والحماية والاستقرار. وتطورت فكرة الرشاوي الاجتماعية مع اختلاف أنظمة الحكم، حيث ارتبطت في عهد عبد الناصر بشكل وثيق بالدولة كأجهزة تقوم بخدمات متعددة. وفي عهد مبارك، كانت العلاقات منظمة بشكل زبائني من خلال الحزب الوطني، حيث يقدَّم لأعضاء الحزب ـ كما يقدمون هم للناس ـ الخدمات العامة من توظيف أو سواه، من خلال شبكات المصالح ورأس المال والعلاقات العائلية والعصبوية. وقد ارتبط خيال الجماعة في كيفية الحكم باستبطان هذا النموذج. ولكنه تميّز لديها بسمة خطيرة للغاية، كانت أحد عوامل أنهيارها مجتمعياً، وهي خاصية «الطائفة المنغلقة». استنسخت الجماعة «اللجان الالكترونية» التي تراقب حركة الإنترنت وتتدخل للقيام ببروباغندا لمصلحة الحزب الحاكم والتصدي للأفكار والدعوات المناهضة لها، كما استنسخت الرأسمالية الاستهلاكية ذات الطابع النيوليبرالي، كما في إدارة المدينة مثلاً. فلم تكن مصادفة اتخاذ الجماعة لمواقف الحزب الوطني نفسها من قضايا اجتماعية ومدينية، مثل أزمة «رملة بولاق» في عهد مرسي وأزمة طوسن في عهد مبارك. والقصة هي نفسها: إزاحة مجموعة من السكان من أجل مشاريع استهلاكية وسياحية لمصلحة رجال الأعمال. فلم يكن لدى الإخوان أي تصور مفارِق عن تصورات الحزب الوطني لشكل المدينة وإدارة السكان، بل وحتى لكيفية التعامل معهم. على الطرف الآخر، ظلت الجماعات الإسلامية تعاني من هوس شديد في تطبيق الشريعة، التي تنحصر في أمرين: إقامة الحدود وإلغاء الفوائد البنكية. فالأمر عند كثير منهم لا يتطلب أكثر من إراقة بعض الدماء على نسق شرعي ليكون ذلك كفيلاً بإزاحة الجريمة. وفي لقاءات وبؤر بحثية متعددة مع أطياف متنوعة من السلفيين، كانت الردود الأفضل تنحصر في تأخير تطبيق الحدود لحين وجود أرضية خصبة لها، وتحسين الأوضاع الاقتصادية نسبياً. إلا أنه، وخلال تطبيق الحدود ذاك، فكيفيات الحكم والإدارة لم تبتعد كثيراً عن النسق النيوليبرالي الخدمي.

المجد الذاتي وحسب
كانت أخطر نقاط ضيق وانحسار الخيال السياسي عند قطاع واسع من الإسلاميين هي المجد الكامن ذاتياً. بمعنى أن مجرد وصول الأخيار (هُم) كفيل بتحسين الأوضاع، ولكن هذا مشروط بامتلاكهم الفرصة الكاملة. وهذا هو مغزى الحديث الدائم والأبدي عن المؤامرة الكبرى التي تعرَّض لها الإسلاميون لإجهاض تجربة مرسي في الحكم. لا حديث عن فشل في الخيال أو التصور أو حتى إدارة العلاقة مع الجمهور. فالجمهور عند الاخوان يستخدم للتحشيد والتأييد، أو هو متفرج بانتظار أن يفرغ الجهاديون من هزيمة الكفر والكفار، ثم يُخضِعون هذا الجمهور لشرع الله. ولذلك فلا يوجد في أدبيات الإسلاميين الجهاديين في مصر ما يتعلق بالعمل الجماهيري أو المشاركة الجماهيرية في الفعل السياسي.
لقد تغيّر كل من الواقع والحلم الاجتماعي والسياسي كثيراً، سواء قبل الثورة أو بعدها. وإذا لم يتغير الخيال السياسي لدى من يحكم مصر، منتجاً تغيراً جذرياً في منهجية الحكم، فسيذهب الوضع لمزيد من التأزم والفشل والانسداد.

مقالات من مصر

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...