هزيمة الإخوان المسلمين في 30 يونيو ليست سياسية محدودة، بل امتدت لتصبح هزيمة فكرية واجتماعية وأخلاقية وتنظيمية. وهي لا تخص مصر وحدها، لأن البلاد تحولت في ذلك التاريخ إلى ساحة حرب بالوكالة بين أطراف عدة. وكان بطل الملحمة بلا شك هو الجموع الجديدة. لم يسقط الإخوان وحدهم، بل سقط معهم مشروع الإسلام السياسي. فمن التمكين والأخونة، صارت الجماعة إلى التيه والاقصاء، ومن أحلام السيطرة إلى متاهات الانحدار.
الإخوان: غلبة عددية وذكورية أيضاً
لم يسقط المشروع الإخواني في مصر بسبب الأزمات المعيشية والفشل في عبور لحظات عصيبة بمقابل ارتفاع الطموحات والآمال بعد ثورة شعبية كبرى في 25 يناير، وإنما حصل ذلك بسبب عجزه عن تكوين خطاب مجتمعي قادر على جعل الجموع تتحمل معه الأزمة وتصبر على مشاقها. فلقد ركن الخطاب الإسلامي إلى الغلبة والعدد، وتصورات مغلوطه عن نفسه وعن المجتمع. ظن في نفسه الغلبة العددية و«الذكورية» أيضاً، بما هي تمجيد القوة الفجة. وهو لم يتوقع أن ينهار من خلال جموع من الشعب تنزل إلى الميادين وتربك التنظيم ولا تتورع عن رد العنف بالعنف. فقد ظن التيار الإسلامي أنه الأشرس وصاحب العقيدة القتالية الأعلى، ونسي أن الجموع الثورية لم تخشَ جحافل الأمن المركزي ولم تُرهب من مدرعاته، ولم تتورع عن مواجهة الجيش بكل معداته الثقيلة ميدانياً، وبرغم تجذره مجتمعياً وفي بنية السلطة.
هذه التصورات الإخوانية لكانت تصح لو كنا نتحدث عن مصر قبل الثورة، وليس عن المجتمع الجديد. فالمؤسسات العاملة في المجتمع القديم كانت تقوم على تركيبة السلطة القديمة متمثلة في شبكات المصالح للحزب الوطني (الذي هو امتداد للاتحاد الاشتراكي بعد تحولات بنيوية ضخمة)، والجيش، والمنظومة الأمنية الشرطية والاستخباراتية، والدين ممثلاً في كل من الكنيسة والأزهر، والإسلام السياسي بأشكاله الدعوية والتربوية والانتخابية. ولكن ثمة تغيير راديكالي تحمله الثورة بشكل عام، وهو وجود أشكال فاعلة خارج تلك المؤسسات، وانهيار منظومة التمثيل والنيابة بشكل عام.
لم ينتبهوا للقيم الجديدة
سيولة القيم الجديدة، وانتشارها في الأنسجة الاجتماعية دونما احتياجها للتعبير عن نفسها من خلال مؤسسة، هي الخاصية الطاغية لمجتمع أصبح أغلب شبابه متطلع للحريات والتمثيل المباشر لنفسه في المجال العام، بشكل سياسي ومجتمعي وثقافي، متجاوز للمجال السياسي القديم المؤطَّر في أبنية البرلمان والأحزاب. فالقيمة والفكرة حلتا مكان «المؤسسة» بشكل مباشر، والشبكات والأشكال الجديدة حلت مكان «البنية» و«التنظيم». وعلى كل حال، فخطاب الإخوان ـ كتصورات معرفية وممارسات سياسية ـ كان يقيم قطيعة كاملة مع هذه المفاهيم الجديدة. فبدلاً من مواكبة تطلعات الشباب والثورة واحتوائها والالتصاق بها، حاولت الجماعة بكل السبل كسر إرادتها وتسفيه حامليها. وكان خطاب الجماعة متجسداً في مقولة: «موتوا بغيظكم، نحن الأكثر تنظيماً، نحن الأكثر قدرة على الاستحواذ على السلطة». وبالفعل، رمت الجماعة بكل ثقلها على المجتمع القديم الذي تتبنى خطابه، وتمثِّل هي أحد طرفي ثنائيته منذ عقود طويلة، بينما طرفه الآخر هو النظام الذي كان قائماً، والذي كان يلعب مع الإخوان لعبة شد الحبال، بين قمع واحتواء ومغازلة. وتمحور خطاب الاخوان على التخويف من توقف عجلة الإنتاج، وخلق فزاعة أمنية، والتماهي مع المؤسسات الأمنية متمثلة في الجيش والداخلية والانبطاح أمامهم، والمغازلة الدائمة لهم، مثلما تجلى بشكل فج في خطاب مرسي قبل 30 يونيو أمام وزير الداخلية والقائد الأعلى للقوات المسلحة وجموع الإسلاميين.
.. وخسروا الجميع
دخلت الجماعة في حرب واضحة مع كل من المجتمع القديم والجديد معاً. فالنعرة الطائفية، والركون إلى مجموعات إسلامية متشددة لتعضيد حكم الجماعة وخلق تكتل سلطوي مضاد لمعارضيها من القوى الليبرالية واليسارية والثورية، جعلها تفقد الكنيسة بالكلية. بل إن الكاتدرائية تعرضت في عهد الجماعة إلى حادثة غير مسبوقة وهي قصفها بقنابل الغاز المسيل للدموع. وسرعان ما دخلت الجماعة وحلفاؤها من الإسلاميين في حرب مع الأزهر، وتم النيل من شيخه بأشكال متعددة، بل قاموا بمحاولة لعزله من خلال استغلال قضية تسمم غذاء طلاب جامعة الأزهر... مع الأخذ بالاعتبار العداء الأيديولوجي بين الأزهر والجماعات السلفية المختلفة، وهو صراع قديم بين الأشعرية الصوفية والسلفية.
وبدا من الواضح منذ اليوم الأول، عدم قدرة مرسي على إحكام سيطرته على الداخلية والمخابرات. وتجلى الانقسام بين مؤسستي الرئاسة والوزارة في أحداث الاتحادية، حيث رفضت الداخلية قمع المتظاهرين من دون أمر مكتوب. ودخلت بعض قيادات الجماعة في حرب تصريحات عدائية مع جهاز المخابرات العامة. أما على مستوى التفاعل اليومي مع الشرائح السكانية المختلفة، فينقل سكان مناطق عديدة وقائع عن الصلف السلوكي لدى الإخوان، الذي تزامن مع الفشل في تلبية الخدمات والاحتياجات اليومية (مثل السولار والكهرباء والمواد الغذائية وارتفاع الأسعار)، فضلاً عن إحباط الآمال في تلاحم مجتمعي أوسع. وهكذا جاء مشهد النهاية: الجموع والشباب في الميادين، محاطين بالداخلية، عدو الأمس والحليف على مضض في معركة اليوم، والقضاء في الشوارع ومنتفض في نواديه، والأهالي الذين ظلوا في مناطقهم أعلنوا رفض تواجد الإخوان فيها، وخاضوا حرب مواقع ضروس معهم. وفي الأخير، الجيش والكنسية والأزهر والمعارضة المدنية في مشهد بانورامي، يعلنون عزل مرسي.
العجز عن توليد سردية كبرى
ومثَّل هذا السقوط فشل الإسلام السياسي في خلق قصة كبرى خارج مريديه. وهذه هزيمة إيديولوجية. فبعد عقود طويلة من وهم تطبيق الشريعة، ووعد الدولة الإسلامية، وأحلام الحكم الرشيد، لم يعد الأمر أكثر من جماعة إخوانية ذات طباع نيوليبرالي/أمني، لا يتجاوز حدود خيالها السياسي تطبيق الحدود الشرعية وغلق المجال العام على ما هو إسلامي فحسب، ومنع فوائد البنوك الربوية... وستتمدد تلك الموجة داخل التيار الإسلامي ذاته لاحقاً حينما يعترف بهزيمته ويبدأ في التأمل والتدبر في فشله، لتنتج استقطاباً حاداً بين نزوع جهادي تكفيري من جهة، وإحساس باضطراب منظومة القيم، وشكٌ فيها، وربما ولادة ظواهر إسلامية جديدة. وهناك في بند ثالث انحسار شعبي ملموس، سواء على مستوى التواجد والتفاعل اليومي، أو على مستوى الانتخابات والعمل السياسي. رابعاً، يُلحظ ارتباك المشروع الأميركي الذي كان طامحاً لخلق قطبيين إسلاميين رأسماليين معتدلين في المنطقة، الأول في تركيا والثاني في مصر، لضمان استقرار السوق، وأمن إسرائيل، ومواجهة القطب الإيراني أو التخفيف من حدة اندفاعته، بالإضافة إلى السيطرة على الجماعات الإسلامية المتطرفة ودمجها في العملية السياسية الديموقراطية داخل بلدانها، في محاولة لمنع هجرتها أو ما يسمى تصدير الإرهاب.
المشكل الأخلاقي
ولكن ثمة أمر أخطر بكثير على المستوى المجتمعي مما سبق. فقد أبى الإخوان الاعتراف بالهزيمة بشكل سلمي، فسفكوا دماء الناس وروعوا أحياءهم وهجموا على اعتصاماتهم، وحاولوا احتلالها بالقوة، مثل محاولة اقتحام ميدانَي عبد المنعم رياض وسيدي جابر في الإسكندرية، وألقوا بالشبان من على أسطع البنايات، وقتل «الجهاديون» جنوداً من الجيش وهاجموا مواقعه في سيناء ومطروح. حوّل الإسلاميون الأمر إلى حرب، وها هو الجيش في المقابل لا يتورع عن سفك دمائهم بلا هوادة. المشكلة أن في الحرب لا يفرق عدد الموتى إلا في الذكريات والتباكي، وإنما ما يفرق هو من المنتصر. وهكذا بدأت لعنات الكثيرين تنصب على القيادات الإسلامية وتتهمها بالخسة لأنها ألقت بأبناء الوطن في هذا المرجل، وكشفت أوراقها مما أتاح للعسكر البطش بها كيفما يشاء. وفتحت المجال لعودة «الدولة» الى الميدان ومعها الخطاب الأمني. وفي الإسكندرية ومحيطها، التي تتسم الأحداث فيها بالعنف تقليدياً، بات من الواضح أن إستراتيجية الإخوان قائمة على شقين: الأول هو ترويع الجموع، وتوليد حالة كره مباشر معها بشكل عام يتيح ممارسة الانتقام بحجة أنهم إما فلول، وإما خونة، وإما علمانيون وملحدون، وإما «لاعقو البيادة» (أي متماهون مع الجيش). والثاني مرعب يقول بأنه إن لم يتمكن الإخوان من تكبيد الأهالي خسائر فليتكبدوا هم شهداء. فسقوط شهداء للإخوان أصبح الوقود الرئيسي لإشعال ثورتهم وإنتاج خطاب مظلومية عميق قادر على التجذر في صفوفهم، لدعم قدرتهم على القتل من جهة، وعلى الاستمرار في المعركة بفضل دوافع نفسية وعقائدية.
إستراتيجية خطرة
تواجه هذه الإستراتيجية مشكلتين: الأولى هي أن الناس شهدت عيانياً وحشية الإخوان، والثانية هي سقوط شهداء وجرحى في صفوف الأهالي مما جعلهم ليس فحسب غير متعاطفين مع شهداء الإخوان بل أكثر تعطشاً لتكبيدهم أكبر قدر من الخسائر. فيوم الأحد في السابع من تموز/يوليو، ظهرت في سيدي جابر بالإسكندرية، لافتة غاية في الخطورة تقول «من رأى منكم إخواني فليقتله وله الأجر». وحينما حاور بعض الثوار الأهالي الذين رفعوا ذلك الشعار، عن خطورته وإنه يحرض على الدم والقتل، كاد بعضهم أن يفتك بهم! وفي ذلك اليوم، قام أهالي الحضرة بالإسكندرية بالفتك بمسيرات الإخوان ودحرهم، كما فعل أهالي بولاق في القاهرة... ثمة خطاب انتقامي تجاه الإخوان لدى مواطنين عاديين، وثمة خطاب انتقامي من الإخوان تجاه الأهالي. وخوض الإخوان والإسلاميين لحرب مع الأهالي، بحسب ما تؤكده شهادات وأحداث كثيرة، يتسبب بحجب التعاطف المأمول معهم. وهو ما أظهره رد الفعل الجماهيري الأوّلي على اقتحام الجيش للاعتصام أمام مقر الحرس الجمهوري، الذي راح ضحيته قرابة الخمسين فرداً من المعتصمين من الإسلاميين. وخطورة ذلك هو خروج العسكر منتصرين عسكرياً وسياسياً ومجتمعياً.