"30 يونيو" المقبل في مصر: ماذا يحدث حين يطفح الكيل؟

يصعب استمرار حالة الانسداد السياسي على هذه الدرجة من التعقيد والتناقض، فضلاً عن التناحر، وليس من طرف قادر على الحسم أو التسوية السياسية. في هذه الأجواء، ظهرت حركة «تمرد» ولاقت رواجاً شعبياً ضخماً. انتشرت الحركة، وضمت أطيافاً ثورية، وبعض فلول النظام السابق أيضاً، دونما تنسيق بينهما. فالموضوع لا يحتاج لأكثر من طباعة أوراق العريضة والنزول إلى الشارع لجمع التواقيع. كان يمكن رؤية تلك
2013-06-19

علي الرجّال

باحث في علم الاجتماع السياسي متخصص في الدراسات الأمنية، من مصر


شارك
ناشطات من حملة "تمرّد" في مقر الحملة (من الانترنت)

يصعب استمرار حالة الانسداد السياسي على هذه الدرجة من التعقيد والتناقض، فضلاً عن التناحر، وليس من طرف قادر على الحسم أو التسوية السياسية. في هذه الأجواء، ظهرت حركة «تمرد» ولاقت رواجاً شعبياً ضخماً. انتشرت الحركة، وضمت أطيافاً ثورية، وبعض فلول النظام السابق أيضاً، دونما تنسيق بينهما. فالموضوع لا يحتاج لأكثر من طباعة أوراق العريضة والنزول إلى الشارع لجمع التواقيع. كان يمكن رؤية تلك الأوراق بين أيدي أفراد يتباكون على رحيل المخلوع مبارك أو خسارة شفيق، وبين أيدي آخرين ممن خاضوا أشدّ وأشرس معارك الثورة تصميماً وعنفاً.

الإخوان والفلول: مستويات التصالح والصدام

الفلول نوعان: كبار رجال الحكم والأعمال، ومن هؤلاء أحمد عز وساويرس وأبو العينين وسواهم، والشبكات الصغرى الممتدة في عائلات ومصالح تجارية واقتصادية واسعة في كل الأحياء الشعبية بالمدن والدلتا... كان جزء كبير من نظام مبارك مكوّناً من رجال أعمال يمثلون النيوليبرالية الجديدة، ولكنه كان أيضاً مكوناً من علاقات زبائنية، من خلال رجال الحزب الوطني ونوابهم في مجلس الشعب في الأحياء والقرى. والمستويان ليسا متسقين أو منسقين، بل كانت علاقاتهما أحياناً تنافسية، وحتى تناحرية.
مصائر المستوى الأول متنوعة. فبعض أفراده ما زال قابعاً في السجون، مثل أحمد عز، وآخرون تمّ الأفراج عنهم مثل صفوت الشريف وفتحي سرور، وآخرون أيضاً تمت المصالحة معهم من قبل الإخوان مثل أبو العينين صاحب مصنع «سيراميكا كليوبترا» الشهير، الذي يكاد يظهر في كل الرحلات التجارية لحسن مالك القيادي ورجل الأعمال الإخواني المعروف. وهناك آخرون يحرِّضون بصراحة ضد نظام الأخوان مثل المرشح السابق للرئاسة أحمد شفيق. ويوجد من هم مثل طارق طلعت مصطفى وعائلته، أصحاب واحدة من أكبر مجموعات الإنشاءات والبناء في مصر، ومثل هؤلاء لا يبدو لهم دور واضح في الصراع القائم الآن، إلا إبداء بعض التململ من حكم الإخوان، ولكن استقرار وضعهم الاجتماعي والاقتصادي يحول دون دخولهم في صدام حاسم. وبقدر من التعميم، يمكن القول إن المستويات العليا من الفلول، وبالأخص «الفرع» المعادي للإخوان، يمتلكون ارتباطات واسعة بالخارج، بعضها مرئي وجلي وبعضها الآخر خفي. وقد أبدت السعودية والإمارات عداء واضحاً للثورة منذ اليوم الأول، ثم تفارقت في درجات عدائها للإخوان (باءت بالفشل الكامل زيارة خيرت الشاطر الى الإمارات، وهو القيادي الإخواني الأبرز على الساحة المصرية. ليس أنها رفضت فحسب تقديم معونات أو وعود بمشاريع استثمارية، بل هي تمارس تضييقاً واضحاً على المصريين المقيمين فيها). ولأعضاء من النظام السابق ارتباط بإسرائيل، وبالأخص منذ اتفاقية الكويز الشهيرة... ولا شك في أن تلك الفئة من المعارضين لنظام الإخوان، بشبكات علاقاتها المحلية والإقليمية والدولية، ستلعب دوراً مهماً في 30 حزيران/يونيو المقبل، لا سيما أنه لا زال لبعضهم نفوذ قويّ داخل مؤسسات الدولة. إلا أنه لن يكون الحاسم. فالتحريض والتمويل لا يكفيان لإحداث ثورة كاملة تطيح بالإخوان، ولا بد من أسباب موضوعية وذاتية أكثر حدة وشراسة. ثم إن التحريض والتمويل يكفيان لتحريك بعض المجموعات على الأرض، ولكنهما ليسا كفيلين بتحريك الجموع في فعل ثوري كامل.
أما شبكات الفلول «السفلى»، فخطيرة لأسباب عديدة. أولها أن هناك حرب مواقع على أشدّها، تصل إلى معركة وجود بينها وبين الإخوان. والأخيرون لم يمسوا أي ركن من أركان النظام السابق، ولم يتعرّضوا لجهاز الداخلية الموروث من النظام السابق، على الرغم من كل المطالبات بتطهيره وإعادة هيكلته وتغيّر عقيدته وممارسات الشرطة... إلا أنه وبالمقابل، فهم يقومون بعمليات اجتثاث حقيقية واسعة النطاق لشبكات الفلول الدنيا. تدور مثلاً رحى معركة طاحنة للسيطرة على شبكات توزيع عبوات الغاز المنزلي في الأرياف ومحافظات الدلتا، ويحاول الاخوان الاستيلاء على تلك الشبكات. كما تجري محاولات للسيطرة الكاملة على الخدمات في المحافظات والمجالس المحلية، فتضرب أواصر تلك الشبكات مع جهاز الدولة. المعركة بين الاخوان وتلك الشبكات قديمة، بدأت منذ عهد مبارك، وكانت تنفجر دوماً في مجريات انتخابات مجلس الشعب. إلا أن جهاز الدولة كان الفاصل والحَكَم في ذلك الصراع، الذي غالباً ما كان ينتهي إما بتشارك في بعض المساحات مثلما حدث في انتخابات 2005، أو باكتساح تلك الشبكات وإحكام هيمنتها، مثلما حدث في 2010. ويقاتل الاخوان لإزاحتها لمصلحة شبكاتهم هم، معتمدين في ذلك على إفقادها أهم عنصرين لاستمرارها: المكانة الاجتماعية، والمصالح الاقتصادية المتشابكة مع جهاز الدولة. وهذه الشبكات، وبالأخص في مدن الدلتا، كانت توفر زبائنية كاملة، فتقدم الأمن والوظائف وحتى الخدمات التحتية من خلال جهاز الدولة. ولكل واحدة منها تجذرات اجتماعية قوية في مساحتها، وهي متصلة بشكل عضوي مع جهات أخرى، مثل القضاء والداخلية، من خلال علاقات القربى والنسب أو التجارة أو الحيازات الزراعية. وخزنت هذه الشبكات أيضاً أسلحة عسكرية متنوعة. بل ولبعضهم داخلها مصلحة اقتصادية مباشرة و«بسيطة» في تأجيج الصراع العنيف والمسلح، إذ يمتلكون مصانع صغيرة للسلاح الخفيف أو الذخائر! ولديها شبكات من البلطجية يتلقون أموالاً لدخول المعارك. وفي كثير من المناطق الشعبية، وحتى بعض تلك البرجوازية داخل القاهرة والإسكندرية، شوهدت تحركات قوية لتلك الشبكات للحشد والتعبئة ليوم «30 يونيو».

الأهالي والثوار والإخوان

ثمة تحوّل آخذ في التحقق على المستوى الجماهيري، وداخل الأوساط المحافظة سياسياً والداعمة عادة لخطاب الأمن والاستقرار، وهو الدفع الى «الثورة». فأغلب القطاعات التي كانت رافضة للتحرك الثوري، وترى فيه تعطيلاً لمصالحها، ليست فقط متململة من وضع الإخوان، بل بدأت بالتمرد الصريح وغير المنظم سياسياً. فقد قام الأهالي في منطقة مثل عابدين، التي تتسم بطابع محافظ للغاية، بمنع سوق خيري حاول الإخوان تنظيمه، وطردوهم خارج المنطقة. بالإضافة إلى ذلك، ولأول مرة منذ قيام الثورة، استقبلت حملتي «تمرد» و«إخوان كاذبون» بترحاب شديد. وأغلب قاطني المنطقة يستعدون للخروج في «30 يونيو». ومنطقة مثل شارع سوريا بالإسكندرية، التي تتسم بطابع برجوازي محافظ، ولم يخف أغلب أبنائها ضيقهم من الثورة منذ اليوم الأول، خرجت في مظاهرتين مؤخراً، قاطعة طريق الترام وأبو قير. وفي مناطق عديدة في عموم الجمهورية خرجت كثير من المظاهرات الساخطة على تردي أوضاع المياه والكهرباء والصرف الصحي، وعلى ارتفاع الأسعار. مرسي لم يعد مقنعاً بالنسبة لهم، وليس هناك أي شواهد تجعلهم يقبلون بخطاب الانتظار والصبر، بالأخص مع اشتداد أزمات الخدمات وفضائح وعجز الرئاسة، مثل أزمة نهر النيل وأثيوبيا، وفضيحة اللقاء السري المذاع على الهواء مباشرة. والتعليقات الشائعة والمسموعة في الشارع تقول: «احنا حنخرج علشان نعدّلها والبلد توقف على حالها شوية بقه». أي أن خطاب الاستقرار والفزاعة الأمنية الذي انتهجته الجماعة، وارثة اياه عن مبارك، بدأ يأتي بمفعول عكسي. فالناس ستثور للدفع الى استقرار الأوضاع، والإطاحة بعناصر الاضطراب التي صارت متمثلة بنظرهم في الجماعة، بعدما كان الاضطراب يتجسد في «المجموعات الثورية» التي كانت تواجه رفضاً متزايداً في الاحياء، تعبيراً عن إنهاكها وعن تطلعها الى الهدوء.
أما الشبكات والأفراد الذين ثاروا منذ اليوم الأول ضد الجميع، مبارك والداخلية والفلول والعسكر ثم الإخوان، فثمة في أوساطهم شعور بالخيانة والمرارة معاً: تخلي الإخوان عن دمهم منذ أحداث محمد محمود، ثم إهدار دمهم بعد الوصول إلى الحكم، وخيبة من إسقاط النظام السابق من خلال مرسي، الذي دفعوا به للحكم في مواجهة شفيق، رمز الثورة المضادة. والأنكى هو تخوين الجماعة لهم، وتمجيد الرئيس لعدوهم اللدود، الداخلية، وتكريمه للعسكر. ثم استهدفت الجماعة نشطاء عديدين وزجت بهم في السجون، بل وحرَّضت عليهم، وانتشرت الاستدعاءات والتحقيقات مع آخرين. ولم تحرك الجماعة ساكناً في قضية حسن مصطفى بالإسكندرية (وهو من أهم مفجّري موضوع خالد سعيد، وتم الحكم عليه بسنة مع الأشغال بعد اتهامه بضرب وكيل نيابة، واتهم بقضايا أخرى مثل تعطيل المرور والهجوم والتعدي على أفراد الشرطة، ولائحة اتهامه تشبه تماماً تلك التي كانت توجه للمعارضين قبل الثورة)... هناك دم كثير أريق، ومنظومة لم تتغير، بل على العكس، هي تترسخ.

خلاصات ترصد اللحظة

في أجواء مصر الحالية، قد يؤدي أي قدر من اشتعال العنف الى حالة هستيرية لا يمكن التنبؤ بمداها ونطاقها. إلا أن ثمة منطقاً للعنف ونطاقاً له سابق على وقوعه. ولا يعني وضوح الهدف واستخدام العنف نجاح التحرك الثوري بالضرورة. فمثلاً في 25 كانون الثاني/ يناير 2011 لم يكن هدف إسقاط النظام قد تبلور بعد بشكل حقيقي وواسع على المستوى الشعبي، ولذلك لم يتكثف العنف في ذلك اليوم، باستثناء في سيناء والسويس. وبوضح الهدف في 28 منه، مِن أنه إسقاط النظام، وكسر ذراعه الأمني، والاستعداد لمواجهة جهاز الداخلية بأكمله، اتسعت رقعة العنف وحُرقت أقسام الشرطة والمدرعات في الشوارع، وسقط المئات من الثوار، وقتل وجرح العديد من الضباط والعساكر. وفي مواجهات «الاتحادية»، أي مقر الرئاسة (كانون الاول /ديسمبر الفائت، عقب الإعلان الدستوري)، كان الهدف الحقيقي من وراء استخدام العنف هو الرد وردع الإخوان وبعض الإسلاميين بعدما أزاحوا خيم المعتصمين وأوغلوا في استخدام العنف. وكانت أغلب التعليقات تنحصر في « إحنا حنربّيهم، حنعرّفهم إزاي يستفردوا بشوية المعتصمين في الخيم». إلا أن هدف الإزاحة أو الحسم الكامل لم يكن قد تبلور بعد. وفي معركة المقطم (22 آذار/مارس الماضي) لم يكن هدف التحرك هو حرق مقر الإخوان، ولم يكن أيضاً القضاء عليهم وإسقاطهم بالكلية، بل كان، كما جاء على لسان التعبير الشعبي، «نازلين نعلِّم عليهم». فالموضوع لم يكن أكثر من ردّ الألم الذي ناله بعض النشطاء وبالأخص الناشطات، في مظاهرة سابقة أمام مقر الاخوان المركزي ذاك. وكذلك موجة اقتحام مقراتهم بالإسكندرية، فهي لم تكن أكثر من رد عنيف ومباغت لهجوم الإخوان وبعض الإسلاميين على الثوار خارج مسجد القائد إبراهيم (23 /11/ 2012).
ولكن الوضع يختلف الآن كثيراً. فالهدف صار واضحاً، والفاعلون المتنوعون في داخله مجمعون عليه. واللافت أن أطراف المعركة جميعاً يفترضون استخدام السلاح الحربي وإن بدرجات متفاوتة. فالإسلاميون لديهم الكثير من السلاح، وكذلك شبكات الفلول، والثوار والأهالي صاروا يمجّدون المولوتوف. وأما ما يمكنه أن يبرِّد قليلاً المشهد، ويجنب الإخوان هذا الامتحان العسير، فهو شدة حرارة الطقس ودخول شهر رمضان!
يمكن لأقل مقدار من العنف أن يمتد إلى معركة مواقع داخل المدن المختلفة. ويبدو أن أغلب خطوط التراجع والمناورة للإسلاميين ــ أي الأحياء السكنية ــ مقطوعة عليهم شعبياً. بل إن دلائل تقول إنه مع أقل استخدام للعنف من قبلهم، فسيكون الهجوم المضاد عليهم شعبياً، وضد مقراتهم وأماكن تمركزهم. ففي 12 حزيران/يونيو، قام بعض الإخوان بالتعدي على افراد في حملة «تمرد» بالإسكندرية، في إحدى المناطق الشعبية (أبو سليمان) التي تعد أحد أهم معاقل الإسلاميين بالمدينة. وتقول رواية الإخوان إن حملة تمرد هي من قامت بالتحرش بهم. أياً كان، فالمثير هو رد الفعل الشعبي. هجم الأهالي على تلك المجموعة من الاخوان، ثم أمتد الأمر إلى تكسير مقرهم بالكلية، وامتد أكثر إلى منطقة شعبية أخرى (باكوس) ليقوم الأهالي هناك بالفعل نفسه.
لا تبدو جلسات «الاستماع الوطني»، المتسمة بالمراوغة السياسية، كافية لتهدئة الموقف! ومن دون إجراءات فعلية على مستوى الازمة، فلن يكون في «وسع القصيدة أن تمنع ماضياً يمضي ولا أن توقف الزلزال»، على رأي محمود درويش.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

في مصر يمكنك فقط الاختيار بين سجن صغير وآخر أكبر

إيمان عوف 2024-12-09

تحوّل القانون رقم (73) لسنة 2021، الذي يتيح فصل الموظفين المتعاطين للمخدرات، إلى أداة لملاحقة العمال والنشطاء النقابيين العماليين، والنشطاء السياسيين والصحافيين. وعلى الرغم من اعتراض النقابات والجهات الحقوقية على...

للكاتب نفسه

مصر: في ضرورة تحرير الفائض البشري

قراءة في مسيرة النظام المصري منذ هزيمة 1967، عبر تتبع السمات الاساسية الطابعة لكل واحدة من الحقبات الثلاث المتتالية زمنياً، والعوامل التي حددت الانتقالات بينها، وخيارات أو اضطرارات كل واحدة...