تهدف الثورة، أي ثورة، الى دفع السلطة الحاكمة للدخول في علاقات مباشرة مع الجموع، على النحو الذي يمكِّن الثوار من قلب منطق القوة وكيفية ترتيبها، فتتم تعرية ممارسات السلطة، ونزع فتيل الشرعية عنها، ومنعها من الاختفاء وراء علاقات غير مباشرة، أو خلف شبكات متوارية ملساء الوجه. تستدرج الثورة السلطة لكشف وجهها العنيف الذي تلجأ إليه عندما تشعر بالتهديد المطلق على بقائها، أي حين تفقد ميكانزمات الانضباط والسيطرة والخطاب فاعليتها على الجماهير، فتخسر السلطة قدرتها على شن حرب الأفكار والإقناع.
وقد كشفت قوات الأمن عن وجهها العنيف في مساء الخامس والعشرين من يناير (25 كانون الثاني 2011) حينما بدأت بقمع المتظاهرين. وهذه كانت أولى المواجهات المفتوحة والمباشرة بين قطاعات مختلفة من الناس والسلطة. ولقد حدثت مواجهات مماثلة بعض الشيء في مواقف عدة. فقبل الثورة، في إضراب السادس من نيسان/ أبريل 2008، دخلت قوات الأمن المركزي في مواجهات عنيفة مع عمال غزل المحلة. ودخلت أيضا في مواجهات شرسة مع أهالي منطقة الساعة بالإسكندرية. أضف إلى قمع العديد من المظاهرات المختلفة بالعنف الشديد. وفي العموم، تميز عصر مبارك، وبالأخص منذ 2005، بظهور قوات الأمن المركزي واحتكاك السلطة بالعنف مع الجماهير بشكل مباشر وموسع.
ومن خلال تلك المواجهات الواسعة مع الأمن واحتلال المدينة بشكل عام، بفضل رمزية ميدان التحرير (كأحد أهم المواقع في بداية الثورة)، وبعض المحافظات مثل الإسكندرية والسويس والإسماعيلية، قلب الثوار منطق القوة أو معادلتها. ومع إدراك الضباط والعساكر لهذا الانقلاب، انهارت بنيتهم النفسية، فبدت هزيمتهم أمر حتمي.
ويمثل ميدان التحرير مركزية المركز، حيث تتجمع أغلب مؤسسات الدولة فيه وبجواره. وقد عنى احتلاله انقلاباً في علاقات السلطة، حيث أصبح مَنْ في المؤسسات هو المحاصَر والمراقََب والخاضع لسلطة الجماهير. وكانت هذه الاستراتيجية الثورية فعالة لأقصى درجة في البداية، إلا أن السلطة سرعان ما تداركت الأمر واستعادت إمكانيتها في المناورة والتخفي، حيث استوعبت انه ما دامت لا تتسلل الثورة لها وتحتلها مباشرة، فلا وجود لخطورة بالغة عليها، ويمكنها ممارسة سلطتها من مواقع مختلفة ومتعددة. وهكذا تحول احتلال ميدان التحرير إلى عبء حركي على الجماهير وسكان المدينة وليس على السلطة الحاكمة.
محاصرة السلطة
لقد حاصر الثوار في الإسكندرية مبنى الإذاعة والتلفزيون ولكنهم لم يقوموا باقتحامه. بل لم تكن النية أصلاً موجودة لاحتلال المبنى والسيطرة عليه. وعلى الرغم من أن القوة لاقتحام المبنى كانت متوفرة، كانت القدرة على الاحتلال واستمراريته غائبة. ولقد ناقشت مجموعة من القيادات الثورية الشابة والنشطة في الإسكندرية إمكان احتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون وأهميته. وكانوا متيقنين من إمكان الاقتحام من دون خسائر كبيرة. أما العجز عن استمرار الاحتلال والاستفادة منه فكان لأسباب عديدة: أولها أن أحدا لن يَسمح باحتلال فئة ما للمكان والسيطرة عليه، لأن الثورة لا تخوضها مجموعة معينة أو أطراف معلومة متحالفة. وبالتالي، وثانياً، فإذا كانت لا توجد فئة معينة تمتلك الشرعية الثورية لاحتلال مكان ما، فيعني بالضرورة عدم إحكام السيطرة على المكان وإمكانية وقوع خلافات حادة بين المحتلين أنفسهم، أو تسلل بعض العناصر المخربة الى صفوفهم. ثالثا، ثار الخوف على المكان من إصابته بأي أحداث تخريب. فلقد كان الثوار على وعي كامل بأهمية الحفاظ على ممتلكات الدولة لاستغلالها والاستفادة منها في مرحلة ما بعد الثورة، بالإضافة إلى الحفاظ على الروح السلمية. وقد منع الثوار رئيس الوزراء شفيق وبقية مجلسه من دخول المجلس الوزاري، وحاصروا كلا من مجلسي الشعب والشورى، وأغلب مؤسسات الدولة المهمة الواقعة في منطقة وسط البلد وميدان التحرير.
ومن المعارك الثورية ونمط تفاعل هذه الثورة على الأرض، يمكن الخروج بنتيجة مفادها أن طبيعة الثورة وأنماط تفاعلها غير قادرة على شن حرب الأماكن واحتلال الدولة والجهات والمؤسسات الصانعة للحكم. وذلك لأسباب عدة أهمها يكمن في قيم الثورة. فالثورة تطرح نموذجاً تعددياً وترسخ التنوع والاختلاف، ولا تعطي حقا شرعيا واحدا لتمثيلها وتحويل ألوانها إلى لون أحادي. وتسعى لتعزيز نموذج من الديموقراطية المباشرة ينزع منها فتيل الهيمنة والاستخدام المضاد لما يسمى بالإرهاب الثوري. وتجلت هذه القيم في شكلها التنظيمي السائل والرخوي والأفقي، باعتمادها على شبكات ممتدة وعضوية أحياناً، لا يوجد فيها تراتبية هرمية للسلطة.
... وسحقها واحتلالها
في المقابل، أثبتت الثورة أنها قادرة على المحاصرة والتضييق، بل على تحطيم بنية السلطة إذا تطلب الأمر. وهو ما حدث بالفعل عندما قام بعض الثوار بحل جهاز أمن الدولة بأنفسهم على عموم الجمهورية. وفي الإسكندرية قام الثوار بتحطيم أبنية السلطة المختلفة بدءاً من المحافظة وهي ممثل السلطة المركزية في المدينة ـ مرورا بآخر الحصون آنذاك، وهو مبنى أمن الدولة في شارع الفراعنة. وكذلك تم اقتحام وحرق مباني أمن الدولة في مدن عدة. ففي السويس، تمت محاصرة قسم الأربعين الذي كان يمثل بطش وعنف السلطة، وفي الاسماعيلية، تم حرق مبنى أمن الدولة عن بكرة أبيه.
تغيير لم يطل البنية التحتية للسلطة
لكن الثورة لم تقم بتغيير منطق القوة وعلاقات السلطة وترتيبها على مستوى تحتي أو عميق وشامل. لذلك احتفظ النظام العام بكثير من ملامحه. لم تستطع الثورة محاسبة قتلة الشهداء، وهو الأمر الذي يسبب انفجاراً بين الحين والآخر. واحتفظ العديد من رجال الأعمال بوضعهم الاجتماعي والاقتصادي، وكذلك الكثير من كبار موظفي الدولة ومؤسساتها الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المختلفة. ووقعت حركات احتجاج واسعة النطاق في الجامعات ضد عدد من القيادات الاجتماعية والثقافية، وإضرابات عمالية واجتماعية كعمال مترو الأنفاق، وعمال شركات الكهرباء، والأطباء، كانت تعترض على أوضاع اقتصادية واجتماعية ظالمة أو على استمرار بقاء أشخاص فاسدين على رؤوس هذه المؤسسات والشركات. على الرغم من أننا شهدنا تمردات قوية، كهذه وسواها، نجا الكثير من المتمرَّد عليهم من الثورات الصغيرة داخل مؤسساتهم.
نجحت الثورة في اقتلاع رأس الملك وكثير من المحيطين به، أمثال إبراهيم حسين سالم وفتحي سرور وزكريا عزمي والعدلي. إلا انها لم تستطع اقتلاع رؤوس الفساد والاستبداد على المستويات الأدنى في بنية السلطة المصرية. وعدم تغيير هذه القيادات المختلفة، واستمرارها في مواقعها، أصاب الكثيرين بالإحباط الشديد. إذ هم يرون أن النظام السابق ما زال قائماً، وأن الأشخاص انفسهم ما زالوا يحكمون بالطريقة والنمط السابقين. ويمثل ذلك فشلاً للثورة في حرب الأماكن ضد الدولة.
ضد الممارسات وليس ضد المنظومة
هذه الثورة هي في حقيقة الأمر ضد نمط ممارسات السلطة وليست ضد المنظومة الكاملة التي تسند السلطة. فهي تثور ضد تعسف الشرطة والقهر الاجتماعي والإقصاء والتهميش السياسي والاقتصادي. لكنها لا تثور من أجل تطبيق شرعة ما أو تحقيق نظام اقتصادي وسياسي معين. وهي طالبت وما زالت تطالب - بالعدالة الاجتماعية ولكنها لم تقم لفشل الدولة أو لفشل مشروع الدولة في حد ذاته.
فلم تكن الدولة نفسها عاملاً مهماً في اندلاع هذه الثورة. وإنما كان العنف هو السبب في الثورة، ونمط الممارسات القائم في بعض مؤسسات الدولة مثل الشرطة. ثار الناس على كيفية استخدام الشرطة لحقها في ممارسة العنف لا على حق وشرعية المؤسسة ذاتها في استخدام العنف بشكل عام. ففي نضالات وثورات جذرية، تكون المسألة الرئيسية كيفية ممارسة السلطة أصلا، وهوية من يقوم بها والنمط وتوزيع الحقوق، والشرعيات. اما في الحالة المصرية، فقد قامت الثورة ضد نتائج ممارسات السلطة. ولذلك كانت أول المواقع التي قام الناس بمهاجمتها هي جهاز الشرطة بأكمله، فقامت بتمزيق جسد هذه المؤسسة وتحطيمه. وتمثل ذلك في هزيمة الأمن المركزي، وتعمد إشعال النيران في مركباته من قبل الثوار، وحرق وتحطيم أقسام الشرطة من قبل بعض الأهالي الذين كانوا قد لقوا صنوف العذاب والتنكيل في داخلها. لكننا لم نسمع عن أحد يطالب بإلغاء جهاز الشرطة بشكل عام أو استبداله أو إدارته بشكل مباشر. طالب الثوار بضرورة احترام هذا الجهاز وأفراده لحقوق الإنسان والتزامهم بالقانون وحماية المواطن لا تعذبيه وإذلاله. وحتى حينما قام الثوار بالمطالبة بحل جهاز أمن الدولة، كان ذلك نتيجة لكون الجهاز كله تجسيدا كاملا لنمط مكروه من ممارسة السلطة. إذ لم يبق أحد، من خارج الحزب الحاكم وأعوانه، سواء كان مهتماً بالسياسة أو غير مسيَّس ليست لديه مشكلة حقيقية مع هذا الجهاز.
يبدو أن الثورة المصرية، بعد عامين على بدئها، تُكلف ما لا تحتمل، وتُدفع إلى ما لا تطيق، وتطالَب بأكثر مما تستطيع. وتسببت شدة الأحداث وتسارعها في حالة من التيه عن قيمها وأهدافها، فنسمع نقدين حدّين، يقول الأول ان الثورة لم تغير شيئا، فيجيب الآخر بأن الثورة لم تحكم ولم تتمكن من مراكز السلطة في المجتمع والدولة. ولم يعد احتلال القصر الملكي أو الجمهوري، وقطع رأس الحاكم هو نهاية الحرب الثورية أو غايتها. فالسلطة خفية في مراكز أخرى متعددة، سواء داخل جهاز الدولة أو خارجه. تتسم منظومات السلطة المعاصرة على مستوى عالمي بقدر كبير من السيولة واللامركزية، بينما يبدو الوضع المصري في حالة شديدة التعقيد، حيث تجمع منظومة السلطة فيه في الوقت ذاته بين السيولة والمركزية. وإذا قمنا بتعريف حرب الأماكن على أنها احتلال جهاز الدولة والتحكم به، فيمكن القول بسهولة ان هذا هو كعب أخيل الثورة المصرية، حيث أثبتت طبيعتها الرخوة ومجموع القيم الكامنة فيها فشلاً كبيراً في هذه المعركة حتى الآن. إن توسيع «حرب الأماكن» ليشمل مواقع وشبكات الإنتاج، والتوزيع، وأنماط الاستهلاك، والمجال العام بشقيه السياسي والاجتماعي من ناحية، والجغرافي من ناحية أخرى، يحمل على استخلاص أن هناك حرباً طاحنة ليس بين الثورة والثورة المضادة فحسب، بل داخل معسكر الثورة المضادة ذاته، حيث يعاد توزيع الأدوار والسلطة من جديد. وهو ما يبدو جلياً في الحرب بين جماعة الإخوان المسلمين وبعض أجهزة الدولة التي تتحكم فيها قيادات النظام السابق.