تعد حركة "كاذبون" شكل جديد/قديم في مواجهة السلطة. فهى تقاومها من "أسفل"، في الموقع الذي يدرك فيه المجتمع تفاعله مع الأشياء ومع محيطه ووعيه بذاته وبنمط السلطة الذي يمارس عليه. وتستمد الحركة شكلها وطبيعة عملها من مخزون كبير قائم في التراث المصري. فهي تنزل إلى الساحات العامة وتقوم بقص رواية أخرى مغايرة لرواية السلطة. وهى بهذا تذكرنا بالحكواتي والأراجوز (الكركوز) وخيال الظل وحواديت جحا. إلا أنها لبست ثوب العصر الحديث.
الحكواتي الجديد
تم استبدال الأراجوز بشاشات العرض الضخمة، واستبدلت حركة خيال الظل بحركة الأفلام المصورة المصحوبة بالصوت والموسيقى. وتعد مثل هذه الحركات في وقتنا الراهن الأخطر في مواجهة السلطة، لطبيعة تكوينها ونمط تفاعلها. فمؤسسة السلطة، مصحوبة بجهاز الدولة، تجد صعوبة شديدة في مواجهة مثل تلك الحركات لاتسامها بالرخاوة والسيولة. فلا يوجد قيادة مركزية لتلك الحركة، وهي منتشرة في عموم الجمهورية، أفقياً لا رأسياً، مما يجعل تتبعها ومحاولات قمعها تبوء بالفشل، حتى ولو نجحت ظاهرياً في إحدى المرات. ذلك أنها تعيد تشكيل نفسها بأشكال مغايرة وأشخاص جدد وأنماط تفاعل غير مسبوقة. فغياب فكرة الرأس والتنظيم الشجري الذي يمكن تتبعه ومحاصرة قيادته أو التفاوض معها ومساومتها، يجعل السلطة في مواجهة شبح خفي قابل للظهور في أي وقت والاختفاء في أي وقت أيضاً. أضف إلى ذلك أن الحركة لا يوجد بها داخل وخارج. فخارجها داخلها وداخلها خارجها، لأنها تستمد حركتها من أبناء المناطق المختلفة الأكثر وعياً بأحيائهم وطبيعة ونمط تفاعل الأهالي بها. وهي تستمد موادها من الفيديوهات والصور المختلفة التي يقوم بتسجيلها المواطنون. وبهذا هى لا تعاني مشاكل ضخمة في تعبئة الموارد أو مشاكل في التمويل، حيث لا تقوم بإنتاج أفلام ضخمة التكلفة. وهى تنزل إلى الساحات بشاشات عرض من اقمشة بيضاء أو مما يتطوع به بعض الأفراد، ما يهيئ لها سرعة كبيرة في الحركة ومناورة السلطة. ولقد كسرت الحركة عوائق مثل الانتماء الطبقي وثنائية علمانية /إسلامية. فنجحت في النزول إلى مناطق مختلفة مثل إمبابة (إحدى أكثر المناطق شعبية)، ومصر الجديدة التي تعد منطقة يسكنها اصحاب المداخيل العالية. وهي تستهدف خلق وعي بالذات والمحيط وممارسات السلطة ووحشيتها، بعيداً عن الصراعات الأيديولوجية. ويمكن القول إن الحركة نجحت نسبياً في التواصل مع قطاعات من المجتمع والتأثير فيهم. ولعل الشاهد على ذلك أكثر من واقعة. فمثلاً هي نجحت في جذب تعاطف جماهير منطقة سيدي جابر في الإسكندرية، بعد أن كانوا يتسمون بعدائية شديدة تجاه الثوار. وتجلى تأثير الحركة في إمبابة عندما قام أهالي المنطقة بطرد الفريق أحمد شفيق، أحد مرشحي الرئاسة التابعين لنظام مبارك والمجلس العسكري.
نقاط الصراع مع السلطة... وليس من أجلها
تتصارع الحركة حول نمط السلطة وطموحات الثورة ورفض حكم العسكر، ولا تتصارع على الوصول إلى السلطة والحكم. وهو ما يبعدها بالكلية عن أي نوع من التآمر أو المصالح الشخصية. إلا أن مثل هذه الحركات تولِّد نوعاً غريباً من المقاومة من قبل السلطة. فالمجلس العسكري، على عكس مبارك، قد أستوعب الدرس. وبدأ في التمترس المباشر في المجتمع وخلق خلايا رخوة أيضاً، وأحياناً غير منظمة، وتتسم بالطبيعة نفسها، وذلك في مواجهة حركة مثل "كاذبون"، مما يجعل تلك الحركات تواجه مقاومة شبيهة للغاية لها، مما يعقد العمل التي تقوم به ويعيقه. وسيتوقف النجاح على مدى التجذر واستقطاب أبناء المناطق أنفسهم. فإذا قام الأهالي بأنفسهم بالتحرك، في مناطقهم وأحيائهم، وبناء الحركة من بين أبنائهم، فسيزيد ذلك من قوة وفاعلية الحركة، وسيقضي بالضرورة على القوى المضادة وعلى فرصها في التجذر في المجتمع.
"عسكر كاذبون" و"إخوان كاذبون"
تحاول الحركة كسر حالة الإنكار التي أصابت قطاعات واسعة من المجتمع في خضم الأحداث الأخيرة. وكان مسعى الحركة في نسختها مرحلتها الأولى ("عسكر كاذبون") قائم على تحريك ما يمكن تسميته بالفطرة الإنسانية تجاه انتهاكات العسكر الصارخة. وتسعى في مرحلتها الثانية ("إخوان كاذبون") إلى فضح انتهاكات النظام في ظل حكم الإخوان، ورفع غطاء القداسة الدينية عنه من خلال تفكيك خطابه وفضح آكاذيبه وتناقضاته، وإظهار جانبه الوحشي السلطوي. ومن ناحية أخرى يمكن القول إن الحركة تقوم بنشر وعي مضاد للماكينة الاعلامية الضخمة التابعة للمجلس العسكري، سواء الخاصة أو "ماسبيرو" وجهاز الدولة بشكل عام. ولم يختلف دورها كثيراً في المرحلة الثانية لأن الإخوان حاولوا وراثة الجهاز نفسه بآلياته القمعية والتضليلية نفسها. وأغلب الظن أن الناس كانوا على ثلاث حالات تجاه انتهاكات العسكر: الإنكار، أو عدم المعرفة بالأحداث وتفاصيلها، أو مقاومين وثائرين تجاه ما يقع عليهم. وكان دافع الأمن والاستقرار هو أهم ركائز حالة الانكار والتماهي مع السلطة. ولم تختلف الحالة كثيراً مع وصول الإخوان للسلطة، ومحاولتهم قمع الثورة والمقاومة للنظام الاستبدادي العام وجهاز الدولة القمعي. ولم تكف قيادات الإخوان وتابعوهم وجريدة "الحرية والعدالة" وقناة "مصر خمس وعشرين" عن التلويح بعصا الفوضى، مثلما كان يفعل مبارك، واستخدام خطاب الثورة المضادة نفسه، بمفرادته، مثل هيبة الدولة، والأمن، واحترام السيادة، والأبوية، والتراتبية. وهو الخطاب نفسه الذي يحاول قمع المقاومة والمطالبة بالحقوق الاجتماعية والحريات الفردية والسياسية، تحت مزاعم الأمن القومي، مصنفاً كل معارض له بالعميل صاحب الأجندة الخارجية. وزاد مؤخراً على الأمن القومي وذاك العقائدي، ضد ما تسميهم السلطة العلمانيين الذين يريدون خراب الدين وأحياناً تنعتهم فضائياتهم بالفجرة والملاحدة.
استعادة القيم التأسيسية
وحركة "كاذبون" لا تقوم فقط على نشر الوعي بآليات التسلط، ولكنها تعيد للمواطن إدراكه لأساسيات الفطرة الانسانية، وحقه في الكرامة. وهى أيضاً تدعم ابتداع مقاومة السلطة الطاغية بأشكال مختلفة. وتساعد الحركة الثورة في التجذر في المجتمع والتواصل معه. فقد شهدت الفترة الأخيرة انحسار الثورة وضعف وجودها في ميدان التحرير. وتسبب ذلك في تضعضع التواصل بين الحركات الثورية والمجتمع بشكل عام. وهو ما أضعف قدرة الثورة على المناورة وشن حرب الأفكار والمعتقدات في مواجهة السلطة وجهاز الدولة. ففي الوقت الذي أكتفى به شباب الثورة وبعض الرموز الثقافية بالاتصال الجماهيري من خلال الفضائيات، ومد جذورهم في الإعلام لا في الشارع المصري، نجحت قوى الثورة المضادة في التجذر والتواصل مع قطاعات كبيرة من المجتمع، والتلاعب بالاحتياجات الانسانية المتمثلة في لقمة العيش والأمن. وهو بشكل من الاشكال نجاح للثورة المضادة في ضرب الثورة وأخذها من أسفل. ويحدث هذا ببساطة عندما تترك المساحات والأماكن المختلفة، كأرض رحبة للخصم يتمترس بها ومن خلالها في مواجهة قوى ثورية، هي بالنسبة للكثيرين شبح يظهر من حين لآخر بميدان التحرير. ولقد نجحت السلطة والقوى المضادة في تصوير هذا الشبح بشكل معاد لحياة الناس وأمنهم واستقرار أشغالهم وتهديد مصالحهم. في المقابل لم تنجح الثورة في تصوير حلمها الثوري.
الصورة/السحر والتأثير على القناعات العامة
تتركز حركة "كاذبون" على ما يسمى بالصورة والإدراك. فهي تقوم باستخدام الصورة لإعادة تشكيل الوعي ودرجاته. وهي بذلك تضع الأفراد أمام بشاعة السلطة وإمكانية تعرضهم لمثل تلك الانتهاكات. وتقوم بفضح وتعرية ممارسات السلطة. ومن هنا تتولد مقاومة شديدة لنمط السلطة المعسكرة وما يمكن أن تتسبب فيه، والسلطة المؤطرة بقداسة النص وما يمكن أن تفضي إليه. فالصورة تلعب دوما دور السحر، بالأخص إذا تصاحبت بالتواصل الانساني حول موضع الحدث. ولقد أسهمت الثورة في توسيع ونشر صورة خالد سعيد مما أستدعى انتباه كثيرين أن ما حدث ليس بعيداً عنهم، وأن حالات التعذيب وسحق الأجساد لم تعد ممارستها تقتصر فقط على داخل أبنية أمن الدولة وسراديبها، وهي أيضاً لم تعد مقصورة على فئة أو شريحة معينة من الناس في معاملاتهم اليومية مع الشرطة، ولكنها صارت على قارعة الطريق وأمام الجميع. تقوم حركة كاذبون بعرض الأفلام والصور لما يتعرض له المتظاهرون والمواطنون من العسكر، ثم ما يحدث في عصر الإخوان، وأحياناً على أيديهم بشكل مباشر. ولا تكتفي بهذا فقط، وإنما يتواصل أعضاؤها مع أفراد الشارع والمارة في مناطق النزول. ومن خلال هذا التواصل يستطيع هؤلاء النقاش والوصول إلى تفاهمات وتوضيحات مع المختلفين معهم. فمثلا كان الكثيرون يرفضون معارضة المجلس العسكري ومقاومته، إلا أن كثيراً منهم بعد تواصل ونقاش ورؤية الأفلام والصور وافقوا على أن هذا "السحق والتدمير لأبنائنا وبناتنا حتى لو أختلفنا معهم" هو غير معقول وغير مقبول. بالإضافة إلى أنه حينما تتواصل ضحايا هذه الممارسات أنفسهم مع الشارع، يرى الناس أن هؤلاء ليسوا بلطجية ولا مأجورين، بعكس ما تقول عنهم اصوات السلطة، فتتم إعادة التصنيف والتعريف من أسفل. إن غياب الثوار عن التواصل مع الشارع بشكل ممنهج يعطي فرصة كبيرة لجعل توصيف السلطة حقيقة راسخة في الأذهان، حيث أن للخطاب الإعلامي والرسمي لمؤسسة الدولة والسلطة قدرة كبيرة على صياغة تعريف الأشياء وبالتالي تجريمها أو تحليلها. وهذا ينطبق على الكتلة البشرية العامة، حيث لا يمكن الاكتفاء برأي النخبة، وإن كانت ثورية.
ما تقوم به حركة كاذبون هو مواجهة خطيرة للسلطة في ساحة تعريف الأمور وواقع الأشياء. وإذا نجحت هذه المحاولة قبل أن يعيد النظام السابق إنتاج نفسه، فستنجح الثورة في ترسيخ مفاهيمها والتجذر في المجتمع. وهو ما يستتبع قدرة أعلى في إسقاط النظام القديم وتغيير نمط السلطة، والشروع في إنشاء نظام جديد على أسس تحقيق الآمال الثورية.