الهمُّ الأساسي لمصر والسودان كان يجب أن يتركز حول الفترة الزمنية التي ستملأ اثيوبيا فيها بحيرة سدّ النهضة. فكلما طالت تلك الفترة كلما قلّت التأثيرات السلبية المتمثّلة في نقص كميات مياه النيل التي ستصل الى البلدين. ويجب أن تكون هذه المسألة هي جوهر المفاوضات مع اثيوبيا بدلاً من الارتباك الحالي الذي تتمّ فيه الموافقة في القاهرة والخرطوم على قيام السدّ يوماً، ومعارضته في اليوم الآخر.
التخبط
فور ما اعلنت اثيوبيا بدء العمل بتحويل مجرى النيل الازرق، يوم 27 أيار/ مايو، قامت كل ألوان الطيف السياسي المصري – من اليسار واليمين، العسكر والمدنيين، الإسلاميين والعلمانيين، الأكاديميين والعامة – بدقِّ طبول الحرب على اثيوبيا. وقد شارك سفير السودان في القاهرة في ذلك العرض، موضّحاَ أنه صُدِمَ بالقرار الاثيوبي، ومتوعداً بتصعيد الموقف وإحالة الأمر إلى الجامعة العربية. غير أن وزارة الخارجية السودانية عادت بعد يومٍ من تلك التصريحات لتعلن عن وجود مشاورات وتفاهمات بين السودان واثيوبيا ومصر حول مشروع سدّ النهضة الإثيوبي، وقالت في بيانٍ لها: "أكدت الجهات الفنية بوزارة الكهرباء والموارد المائية، أن الخطوة الاثيوبية الأخيرة لا تسبب للسودان أي ضرر".
الخصائص
يقع سدّ النهضة الاثيوبي، الذي كان يُعرف حتى وقتٍ قريب بسدِّ الألفية، على النيل الأزرق الذي يُعرف في اثيوبيا بنهر أباي، على بعد حوالى 40 كيلومتراً من الحدود مع السودان. ويُتوقع أن يقوم هذا السدّ بتوليد 5,250 ميغاوات من الطاقة الكهربائية (أي أكثر من مرتين ونصف المرة من كهرباء السدّ العالي) عند اكتماله بعد أربع سنوات. وسوف يحجز السدّ 62 مليار متر مكعب من المياه، وهذه الكمية تساوي تقريباً ضِعف كمية مياه بحيرة تانا، وأقل بقليل من نصف مياه بحيرة السد العالي التي تبلغ سعتها 162 مليار متر مكعب. أشارت اثيوبيا إلى أن التكلفة الإجمالية للمشروع تبلغ 4,8 مليار دولار، وأن الحكومة الإثيوبية ستقوم بتمويل المشروع من مواردها ومن خلال إصدار سندات للإثيوبيين. وتقوم الشركة الايطالية "ساليني" ببناء السدّ، ويُتوقّع أن تنضم شركاتٌ صينية إلى عملية البناء.
تضاربت المواقف السودانية حول سدّ النهضة عندما أعلنت اثيوبيا قرارها الشروع في بناء السدّ في شهر نيسان/ أبريل عام 2011. فبينما أعلنت بعض الوزارات وأوضح بعض المسؤولين السودانيين ترحيبهم بالسدّ، اعترضت عليه وزارات أخرى ورفضه مسؤولون آخرون. غير أنه بعد أشهر من ذلك الارتباك، أصبح الموقف الرسمي والواضح للسودان هو تأييد قيام السدّ. ولهذا السدّ فوائد جمّة على السودان:
أولاً: سوف يحجز سدّ النهضة جزءاً كبيراً من كميات الطمي الضخمة التي يحملها النيل الأزرق كل عام إلى السودان، والتي تفوق كميتها خمسين مليون طن. وقد تسبّبت هذه الكميات الضخمة عبر السنين في فقدان خزاني سنار والروصيرص أكثر من نصف الطاقة التخزينية للمياه والتوليدية للكهرباء. والانقطاع المتواصل للكهرباء في السودان حتى قبل بضعة أعوام كان بسبب "تراكم الطمي في توربينات خزان الروصيرص" وفق البيانات الرسمية للحكومة.
ثانياً: سوف يُطيل سدّ النهضة عمر خزان الروصيرص بحجزه لكمية الأشجار والحيوانات والمواد الأخرى الضخمة التي يجرفها النيل الأزرق وقت اندفاعه الحاد في شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس من كل عام.
ثالثاً: سوف يوقف سدّ النهضة الفيضانات المدمّرة التي تجتاح مدن النيل الأزرق في السودان كل سنواتٍ عدة، وسوف ينظّم انسياب النيل طوال العام في السودان، بدلاً من موسميته الحالية التي يفيض فيها النيل في أشهر ثلاثة. وتقدر كمية المياه التي فشل السودان في استخدامها بأكثر من 350 مليار متر مكعب، هي نصيبه حسب اتفاقية مياه النيل، منذ توقيعها عام 1959. فنصيب السودان بموجب الاتفاقية هو 18,5 مليار متر مكعب في العام، بينما لم تَزِدْ استعمالاته السنوية على 12 مليار متر مكعب خلال كل هذه الفترة، كما أكّد ذلك وزير الري والموارد المائية السابق. فما معنى الحديث عن الري الفيضي إذا كنا لا نستعمل نصيبنا الثابت من مياه النيل؟ إنه حديثٌ عن النوافل قبل أداء الفروض.
رابعاً: إن انسياب النيل الأزرق على مدى العام سوف يساعد في التغذية المتواصلة كل أشهر السنة للمياه الجوفية في المنطقة بدلاً من تغذيتها فقط في الأشهر الثلاثة التي يفيض فيها.
خامساً: وعدت اثيوبيا ببيع كهرباء السدّ للسودان ومصر بسعر التكلفة. وهذا السعر هو حوالى ربع التكلفة لتوليد الكهرباء في خزاني مروى والسدّ العالي. وقد بدأ السودان بالفعل في الاستفادة من الكهرباء التي تقوم اثيوبيا بتوليدها من الأنهر الأخرى، خصوصاً من سدّ تكزي على نهر عطبرة، بعد توقيعه على اتفاقية مع اثيوبيا لشراء الكهرباء منها.
هل لاثيوبيا حقوق في مياه النيل؟
اثيوبيا هي مصدر حوالي 86 في المئة من مياه النيل، والنظرية الأساسية التي ينبني عليها القانون الدولي هي نظرية الانتفاع المنصف والمعقول والمساواة بين جميع دول الحوض. وهي المنطلق الأساسي لاتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بقانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية.
وكانت كل من مصر والسودان قد وقعتا مذكرة التفاهم التي أنشأت "مبادرة حوض النيل"، في مدينة دار السلام في تنزانيا في 22 شباط/ فبراير عام 1999. وفي العام 2011، اقترحت اثيوبيا تكوين لجنة من عشرة أعضاء تشمل عضوين من كلٍ من مصر والسودان واثيوبيا، وأربعة أعضاء آخرين من خارج دول حوض النيل، لتنظر في أي أضرارٍ قد تنتج من سدّ النهضة وتقترح الحلول اللازمة للتقليل من هذه الأضرار. وقد قبل البلدان المقترح بترحابٍ حار. وتكوّنت اللجنة، وبدأت أعمالها بالفعل قبل أكثر من عام. وقد ظل السودان ومصر يشاركان في اللجنة بانتظام منذ إنشائها.
للكهرباء فقط
سيتم استخدام مياه النيل الأزرق لتوليد الكهرباء في سدِّ النهضة، والمياه تعود بعد ذلك للنيل الأزرق وتواصل انسيابها للسودان ومصر. وقد أوضحت اثيوبيا مراراً أنه لن يكون هناك استخدام لأي مياهٍ من سد النهضة لأغراض الري، وأكّدت ذلك طبيعة منطقة السد الصخرية. علاوة على ذلك، فالتبخّر في بحيرة سدّ النهضة سيكون قليلاً بسبب عمقها واعتدال الطقس في المنطقة، ولن يفوق المليار متر مكعب في السنة. وبالمقارنة، فالتبخّر في بحيرة السد العالي هو عشرة مليارات متر مكعب في العام، ويتجاوز التبخّر في بحيرات سدود السودان الخمسة ( سنار وجبل أولياء والروصيرص وخشم القربة ومروى) سبعة مليارات متر مكعب في العام.
الضرر؟
يتطلب بناء أي سدٍّ تغيير مجرى النهر، ليتمَّ البناء في مجرى النهر الأصلي، ثم يعاد النهر لمجراه الطبيعي الأصلي بعد اكتمال العمل في السدّ. وهنا يبرز الارتباك الكبير في الموقفين المصري والسوداني. فقد وافقا على قيام سدّ النهضة واشتركا في اللجنة الدولية التي ظلّت تجتمع على مدى أكثر من عام منذ قيامها، بينما تواصل بناء السدّ. ومرجعية اللجنة التي قبلها البلدان لا تشمل وقف أو إلغاء قيام السدّ. وعليه، لا بُدّ من التساؤل عن أسباب هذه الضجّة الضخمة.
لقد أوضحت اثيوبيا في الماضي أنها سوف تقوم بتحويل مجرى النيل الأزرق في شهرأيلول/ سبتمبر بعد انتهاء موسم الفيضان، ولم تثر مصر أو السودان أية اعتراضات على هذا القرار لأنهما يدركان جيداً أن بناء سدّ النهضة (مثل بناء أي سدٍّ آخر) يتطلب بالضرورة تحويل مجرى النيل الأزرق. وقد عدّلت اثيوبيا جدولها الزمني لتقوم بتحويل مجرى النيل الأزرق في 28 أيار/مايو عام 2013 في ذكرى الاحتفالات بمرور 22 عاما على وصول الحزب الحاكم والحكومة الحالية للسلطة.
وأما القول بضرورة انتظار صدور تقرير اللجنة الدولية قبل تحويل مجرى النيل فيزيد من مظاهر التخبط والارتباك، لأن مرجعية اللجنة لا تشمل وقف بناء السدّ. بل هي تتمثّل فقط في التحقق من وجود أي آثارٍ سلبية وأضرار بمصر والسودان من سد النهضة، والعمل على التقليل منها.
خطر انهيار السد؟
تثار مسألة خطر انهيار سدّ النهضة، وانه لو حدث، فسيغرق السودان ويدمّر كل أرجائه من الحدود مع اثيوبيا وحتى حلفا. صحيحٌ أنه لو انهار السدّ فستكون له آثار كارثية على السودان، ولكن لو انهار السدّ العالي فستكون آثاره الكارثية أكبر على مصر. ولو انهار سدّ مروى فستغرق معظم المدن والقرى السودانية حتى حلفا القديمة. ولو انهار خزان الروصيرص فستغرق كل المدن والقرى على ضفافه حتى الخرطوم. انهيار السدود ونتائجه الكارثية إذا ليس حكراً على سدّ النهضة.
إن التقانة التي تبني بها الشركات العالمية (مثل ساليني) السدود اليوم متقدمة عشرات المرات على التقانة التي بنى بها الاتحاد السوفياتي السدّ العالي قبل نصف قرنٍ من الزمان، وبنى بها الايطاليون خزان الروصيرص في ستينيات القرن الماضي، وبنى بها الصينيون سدّ مروى قبل أعوام. لماذا إذا سينهار سدّ النهضة ابن تقانة العصر الحالي ولن ينهار السدّ العالي أو خزان الروصيرص أو سدّ مروى أبناء تقانة القرن الماضي؟
كما أن القول إن سدّ النهضة يقع في منطقة زلزالٍ (وعليه فهو معرّضٌ للانهيار) قولٌ مردودٌ أيضاً، إذ لم يسمع عن أي زلزالٍ في اثيوبيا إطلاقاً. ولو كانت المنطقة منطقة زلزال لانهار خزان الروصيرص، ابن الخمسين عاما، والذي يقع في المنطقة الجغرافية نفسها لسدّ النهضة. ولما كان هناك معنى لصرف مئات الملايين من الدولارات لتعلية خزان الروصيرص في وقت بناء سدّ النهضة.
التعاون ثم التعاون
بعد ذهاب بترول الجنوب، يحتاج السودان الآن أكثر من أي وقتٍ مضى لاستعمال كل نصيبه من مياه النيل. كما أن مصر تحتاج إلى مياهٍ إضافية لوقف استيراد أكثر من 60 في المئة من احتياجاتها من القمح كما تفعل الآن، فمصر هي أكبر مستوردٍ للقمح في العالم، رغم الاستعمالات الضخمة والمهولة لمياه النيل، والتي تتكوّن حالياً من كل نصيبها ومن ثلث نصيب السودان من مياه النيل. لكن هذه الزيادات في مياه النيل لن تتأتّى إلا بالتعاون التام وبحسن النية والصدق مع دول حوض النيل الأخرى، والتخلّي عن سياسة الاستعلاء والإقصاء والتهديد التي يمارسها البلدان منذ زمن... علاوة على التخبط والارتباك اللذين يخفضان من الجدية والعقلانية، فيضيع كل شيء.