يتوقف تقييم نتائج الاجتماع الوزاري الذي التأمَ في الخرطوم، كانون الأول/ديسمبر الماضي، بين وزراء الموارد المائية لمصر وإثيوبيا والسودان، على الخلفيات التي ينظر إليه من خلالها. فهل كان الاجتماع فاشلاً أم متعثراً أم ناجحاً؟
- أولاً: فَشلَ الاجتماع الثلاثي الذي انعقد في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي لمناقشة القضايا العالقة حول السد. وهو انتهى دون أن يَعقدَ الوزراء مؤتمراً صحافياً أو أن يصدروا بياناً مشتركاً، ما أشار لوجود خلافاتٍ حادة، وللفشل في التوافق علي أيٍّ من المسائل الخلافية. بل إن الوزير الإثيوبي عقد مؤتمراً صحافياً منفصلاً تحدّث فيه عن هذه المسائل العالقة وكرّر عرض إثيوبيا للسودان ومصر للمساهمة المالية في تمويل السد وفي إدارته والمشاركة في منافعه.
- ثانياً: أعلن السودان رسمياً على لسان رئيس جمهوريته تأييد السودان لسدِّ النهضة في الرابع من كانون الأول/ديسمبر الفائت، قبل أسبوعٍ من انعقاد الاجتماع الوزاري الثلاثي. وقد أنهى ذلك التأييد حالة ارتباك السودان تجاه السدِّ وخلقَ حِلفاَ جديداً بين إثيوبيا والسودان، ما أضعف بصورةٍ كبيرة التكتّل المصري السوداني في مقابل بقية دول حوض النيل الذي برز إلى الوجود عقب توقيع "اتفاقية مياه النيل" في 8 تشرين الثاني/نوفمبر عام 1959.
- ثالثاً: حدث نوعٌ من المرونة في الموقف المصري الرافض لسدِّ النهضة. فقد اجتمعت اللجنة المصرية العليا لمياه النيل في تشرين الأول/أكتوبر الفائت، برئاسة رئيس الوزراء المصري حازم الببلاوي لمناقشة التطوّرات في ملف مياه النيل. وأعلن الببلاوي بعد نهاية الاجتماع أن اللجنة العليا لمياه النيل المصرية تعتقد أنَّ سدَّ النهضة الإثيوبي يمكن أن يكون مصدر خير ورفاهية لدول حوض النيل، وخصوصاً مصر والسودان، موضحاً أن إثيوبيا لديها فائض من مياه النيل.
- رابعاً: شملت التعديلات الوزارية الأخيرة في السودان وزير الموارد المائية والكهرباء. وهذا يعني تحلّل السودان من أي تفاهماتٍ أو اتفاقياتٍ شفاهية قد يكون الوزراء السابقون أدخلوا السودان فيها مع مصر أو إثيوبيا حول سدِّ النهضة.
صراع الوقت والمال.. والوساطات
أعلنت إثيوبيا أن حوالي 30 في المئة من أعمال بناء السد قد شارفت على الاكتمال منذ أن بدأ العمل فيه في نيسان/أبريل عام 2011. في هذه الأعوام التي قاربت الثلاثة، بدأت مساحة التفاوض لمصر في التَضيق والانحسار. فالزمن الذي كان في الماضي يُحْسبُ لمصلحة مصر (من خلال تأكيد ما تسميه حقوقها التاريخية أو المكتسبة في مياه النيل)، قد أصبح في مصلحة إثيوبيا. فكل يومٍ يمر يصبح سدُّ النهضة حقيقةً ماثلة يصعب تجاهلها، بل يجب التعامل معها. وهكذا بدأت إثيوبيا في الرهان على عامل الزمن.
لكن مصر تراهن على عدم مقدرة إثيوبيا في تحمّل التكلفة الكاملة لسدِّ النهضة والتي ستبلغ قرابة خمسة مليارات دولار. وتعتقد مصر أن العمل في بناء السد سيتوقّف عندما تنضب الأموال، لأن إثيوبيا، وبسبب الخلافات مع مصر، لم ولن تنجح في الحصول على تمويلٍ خارجيٍ للسد. ووقتها ستذعن إثيوبيا لبعض الشروط المصرية سعياً وراء التمويل.
ورغم تأييد السودان لسدِّ النهضة، إلا أن الحكومة السودانية تراهن على مواصلة قبول مصر لها كوسيط في هذا النزاع، مع العلم أن السودان كان الحليف الرئيسي والوحيد لمصر. ونقلت وكالات الأنباء أن الوزير السوداني كان نقطة الاتصال والتجوال بين الوفدين الإثيوبي والمصري اللذين بقي كلٌ منهما في غرفة اجتماع منفصلة لمعظم وقت التفاوض. كما أنه هو الذي تحدّث في نهاية الاجتماع (وهو يتوسّط الوزيرين المصري والإثيوبي) عن نجاح الاجتماع في معاجة بعض القضايا العالقة. عليه فقد بدأ السودان في الرهان على ضرورة قبوله وسيطاً.
وهذه الرهانات الثلاثة المختلفة ستحمل كل طرفٍ من الأطراف على البقاء في الحلبة ومواصلة التفاوض، وهو بحد ذاته نجاح للاجتماع. فقد اتفق الوزراء الثلاثة على اللقاء في الخرطوم في الرابع من كانون الثاني/يناير الجاري، ما يؤكّد اللقاء الوزاري الشهري حول سدّ النهضة.
وقائع ما جرى
في الاجتماع الفائت، طالبت مصر بتكوين لجنة خبراء دوليين لتقييم آثار سدِّ النهضة على مصر. وأصرّت مصر على أن يتوقّف العمل في بناء السد حتى تنتهي اللجنة الدولية الجديدة من أعمالها. رفضت إثيوبيا المقترحين، وأعلنت أنها لن توقف بناء السد. تراجعتْ مصر عن موقفها القائل بوقف بناء السد حتى فراغ اللجنة من دراساتها واقترحت توقّيف البناء لمدة ستة أشهر. لكن إثيوبيا رفضت إيقاف بناء السد لأيِّ فترةٍ زمنية. كما أصرّت إثيوبيا على أن لجنة الخبراء الدولية قد انتهت مهمتها في أيار/مايو عام 2013 بعد أن قدّمت تقريرها للأطراف الثلاثة.
غير أنه البيان المقتضب الذي تلاه وزير الموارد المائية السوداني، أوضح أن الأطراف الثلاثة وافقت على تشكيل لجنة خبراء محليين تتكون من 12 خبيراً، أربعة من كل دولة، وأن مرجعية هذه اللجنة هي بحث تقرير لجنة الخبراء الدولية الذي أوصى بتشكيل لجنة لدراسة وتقييم آثار السد.
وهكذا تراجعت مصر عن مطالبها بأن تكون اللجنة دوليةً، وأن يتوقّف بناء السد خلال فترة عمل اللجنة، أو لمدة ستة أشهر. وتراجعت إثيوبيا عن إصرارها أن تكون اللجنة التي تقوم بهذه الدراسات إثيوبيةً بحتة، بقبولها أن تكون اللجنة ثلاثية. ويبدو أن تراجع إثيوبيا مردُّه تأييد السودان لسد النهضة وتوقّعات إثيوبيا أن يقف الخبراء السودانيون في اللجنة مع حلفائهم الإثيوبيين الجدد.
كانت إحدى نتائج الاجتماع الماضي إذاً أن السودان استطاع أن يأكل الكعكة ويحتفظ ببقيتها في الوقت نفسه. فقد أيّد السودان سدّ النهضة، لكن ظروف مصر، وعزلتها وسط دول حوض النيل، وصمت بقية العالم، اضطرها لقبول استمرار السودان وسيطاً، والخرطوم مقراً لاجتماعات الوزراء الثلاثة، ولمواصلة الاجتماعات والتفاوض من خلال الوزير السوداني. من الجانب الآخر، فقد عاد الوزير الإثيوبي إلى أديس أبابا وهو يحمل معه موافقة مصر على مواصلة العمل في بناء السد. كما أن الدوائر المصرية اعتبرت أن تكوين اللجنة الثلاثية لدراسة آثار سدِّ النهضة على مصر (بدلاً من اللجان الإثيوبية) هي انتصار للمفاوض المصري.
لهذه الأسباب، ورغم فشل اجتماع كانون الأول/ديسمبر في حسم القضايا العالقة، إلا أنه يتضمن بعض عناصر النجاح رغم تعثره، وأبرزها استمرار التفاوض.
حوض مشترك
الحل الوحيد للخروج من هذا التعثّر والبدء في عملية تفاوضٍ جادة، هو قبول العرض الإثيوبي لمصر والسودان بأن يكون سدُّ النهضة مشروعاً مشتركاً في الإدارة والتمويل والملكية بين إثيوبيا والسودان ومصر، وأن تقوم البلدان الثلاثة بالمشاركة في المنافع، من كهرباء ومياه ري، ووقفٍ للفيضانات. وهذا العرض منصف وهو غير مسبوقٍ في تاريخ نهر النيل الذي تميّز دائماً بالمشاريع الأحادية. وينبغي بعد قبوله (وهو ما يفترض أن يتم على وجه السرعة) الشروع في التفاوض مع إثيوبيا حول تفاصيله. فالأحواض المشتركة لا يمكن تنميتها وإدارتها والمحافظة عليها والمشاركة في منافعها بدون التعاون والعمل الجماعي.
قبول السودان ومصر العرض الإثيوبي سيساهم في معالجة نقاط النزاع بين هذه الدول. فسيجد السودان ومصر نفساهما في موقع المشاركة في اتخاذ كل القرارات في كل المسائل المتعلّقة بسدّ النهضة، بدءاً من ارتفاعه وحجم بحيرته والمدة الزمنية لملئها. كما سيكونان طرفين فاعلين في مسألة سلامة السدّ وتأمينها والإشراف عليها. هذا بالطبع بالإضافة إلى الإشراف على إدارة المنافع المشتركة وتنظيمها.
كما أن مشاركة السودان ومصر في إدارة وملكية سدِّ النهضة سوف تفتح الباب واسعاً للتمويل الخارجي. وسوف يتيح التمويل العالمي الفرص لدراساتٍ أكثر عمقاً وفنيةً في مسائل السدّ المختلفة، المفتقدة في الوقت الحاضر، ما سيساهم في حلول أكثر علميّة واستمراريّة. كما ستُلبّي مشاركة المنظمات الدولية مطالبَ مصر الحالية في أن تقوم جهاتٌ دولية بالدراسات الفنية للسد. فهذه المنظمات لا تشترك في تمويل أي مشروعٍ بدون دراسات مكثّفة وعميقة له.
ويفترض بالاجتماع المقبل التركيز على العرض الإثيوبي ومناقشته والتفاوض حول تفاصيله والشروع في تنفيذه بدلاً من الدوران في حلقة اللجان المفرغة. قد تعتقد مصر أن هذا المقترح سوف يساعد إثيوبيا في عملية التمويل، ويهزم استراتيجيتها القائمة على وقف بناء السد بقفل الطريق أمام التمويل الخارجي. لكن لا بُدَّ من التذكير بأن إثيوبيا سوف تجد التمويل اللازم من مواردها أو من جهاتٍ أجنبية، فكهرباء سد نهر أومو الضخمة التي يتمُّ توليدها حالياً (والتي تعادل كهرباء سد النهضة) سوف يتمُّ بيعها للسودان وكينيا وجنوب السودان وجيبوتي. وستدرُّ دخلاً كبيراً على إثيوبيا يساعدها في تمويل سد النهضة، أو ستستخدم إثيوبيا دخل هذه الكهرباء كضماناتٍ لتمويلٍ أجنبي. كما أن الغاز الطبيعي في منطقة أوغدين الإثيوبية هو ضمن اهتمامات جمهورية الصين الشعبية المتعطّشة للموارد الطبيعية، والتي تعتبر نفسها الرائد في بناء السدود. وقد ساهمت الصين مع إثيوبيا في تمويل وبناء سدِّ تكزي على نهر عطبرة. وهو السد الذي باعت إثيوبيا مئة ميغاواط من إنتاجه الكهربائي للسودان الشهر الماضي بعد افتتاح خط الربط الكهربائي بين البلدين.
ويخشى أن العرض الإثيوبي لمصر والسودان بالتمويل والإدارة المشتركة لسدِّ النهضة (مثله مثل أي عرضٍ مماثل من أي دولةٍ لأخرى) لن يظلَّ على طاولة التفاوض لوقتٍ طويل. فكلّما تواصل البناء في السد واكتملت مراحل منه، كلّما قلّت الاحتياجات والضغوط على إثيوبيا للشراكة في تمويل السد وإدارته... فتفوت فرصة جدية على مصر والسودان.