يسجّل يوم 28 أيار/مايو من العام 2013 كيومٍ مشهودٍ في تاريخ نهر النيل. فقد قامت إثيوبيا في ذلك اليوم بتحويل مجرى النيل الأزرق معلنةً بذلك البدء الرسمي والعملي لبناء "سدِّ النهضة العظيم". تجاهلتْ إثيوبيا الاحتجاجات والتهديدات بضرب السدّ وإعلان الحرب عليها، وأوضحتْ أنها ستأخذ ما تراه حقاً لها في مياه النيل.
كبرياء وطنية وحاجة اقتصادية ملحة
سدَّ النهضة أصبح حقيقةً واقعةً تُمثّل "الكبرياء الوطنية الإثيوبية" (على حد قول الكاتبان المصريان الأستاذان محمد حسنين هيكل وفهمي هويدي)، تماماً كما مثّل السدُّ العالي الكبرياء الوطنية المصرية في ستينيات القرن الماضي. وأعلنت إثيوبيا في بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر أن 30 في المئة من أعمال بناء سدّ النهضة اكتملت، وأكّدت ذلك شركة ساليني الإيطالية التي تقوم ببناء السدّ. كما أن إثيوبيا قد استطاعت حتى الآن توفير تكلفة ما تمَّ بناؤه من السدّ من مواردها الوطنية، من دون الاعتماد على أي مصدر خارجي.
وإذا كان جلُّ الشعب المصري وبعض الشعوب (والأحزاب السياسية) العربية قد رأت في السدّ العالي في ستينيات القرن الماضي انتصاراً كبيراً ضد الاستعمار والإمبريالية وهيمنة الغرب، فإن غالبية الشعب الإثيوبي يرى في سدِّ النهضة بداية لاستخدام مياه النيل للنهضة ببلادهم من فقرها وجوعها وظلامها وبؤسها، ومن هنا أتى اسمه.
ويفترض أن ينتقل الحديث الآن في هدوءٍ وعقلانية إلى خيارات السودان، وما يتعيّن عليه القيام به.
أولاً: تأييد قيام السدّ بوضوح
لا بُدَّ في البداية من إنهاء حالة الارتباك السودانية التي سادت وتسود التعامل مع سدّ النهضة، وإصدار السودان لإعلانٍ يشير فيه بوضوح إلى تأييده قيام السدّ، وتأكيد الفوائد التي سيجنيها منه والتي تتضمّن بإيجازٍ الآتي:
1 - حَجزُ سدِّ النهضة للطمي الذي أفقد ثلاثة من سدود السودان (سنار والروصيرص وخشم القربة) أكثر من نصف طاقتها التخزينية للمياه والتوليدية للكهرباء، وأدّى إلى انهيار البنية التحتية للري في مشروع الجزيرة. وتَحْمِلُ أنهارُ إثيوبيا سنوياً بين 120 إلى 150 مليون طن من الطمي المُقْتلَع من التربة الإثيوبية بسبب الاندفاع الشديد لهذه الأنهار. ويصرف السودان سنوياً حوالى 20 مليون دولار في حربه الخاسرة ضد الطمي.
2- وَقْفُ الفيضانات المدمّرة التي تجتاح مناطق النيل الأزرق كل عددٍ من السنوات.
3 - تنظيم انسياب النيل الأزرق خلال العام بدلاً من موسميته الحالية (خلال اشهر الصيف) مما سينتج عنه تعدّد الدورات الزراعية، وتنظيم وزيادة الإنتاج الكهربائي من سدِّ مروي، وتنظيم تغذية المياه الجوفية في منطقة النيل الأزرق خلال كل العام بدلاً من موسميتها الحاليّة.
ومن الضروري إنهاء الارتباك والتضارب في التصريحات السودانية الرسمية حول الموقف من السد، وتأييد قيامه صراحة، وتحديد شخصٍ واحد يتولّى مهامَ التحدّثِ باسم السودان في كلِّ القضايا المتعلّقة به. بعد ذلك، يستطيع السودان أن يبدأ نقاشاً جاداً ومفاوضاتٍ بنّاءة مع إثيوبيا حول المواضيع المتعلقة بالسدِّ.
ثانياً: ارتفاع سدِّ النهضة وحجم البحيرة
أوضحتْ إثيوبيا في نهاية شهر آذار/ مارس العام 2011، عندما أعلنتْ أنها بصدد بناء سدِّ النهضة أن ارتفاع السدّ سوف يكون 150 متراً، وأن بحيرة السدّ سوف تحجز 62 مليار متر مكعب من المياه. غير أن تقارير لاحقة أشارت إلى أن ارتفاع السدّ سوف يكون 170 متراً، وأن البحيرة سوف تخزّن 74 مليار متر مكعب من المياه. وهذه الكمية تساوي تقريباً ضِعف كمية مياه بحيرة تانا (التي تساوي 32 مليار متر مكعب)، وأقل بقليلٍ من نصف مياه بحيرة السدّ العالي (التي تبلغ سعتها 162 مليار متر مكعب). ويمثّلُ حوالى 14 مليار متر مكعب من هذه الكمية التخزين الميّت، بينما يُكوّن ما تبقّى التخزينَ الحيَّ الذي يقوم بتوليد الكهرباء والتي يُتوقّع أن يصل إنتاجها إلى 6,000 ميغاوات عند اكتمال المرحلة الأخيرة من سدِّ النهضة.
يبدو من التغيير في الأرقام أن هناك مساحةً للتفاوض حول ارتفاع السدّ وحجم تخزين البحيرة بغرض تقليل الآثار السلبية المحتملة على السودان.
ثالثا: الفترة الزمنيّة لملء بحيرة السدّ
الهمَّ الأساسي للسودان ومصر في ما يتعلق بسدّ النهضة يجب أن يكون الفترة الزمنية التي ستملأ إثيوبيا فيها بحيرة السدّ. فكلّما طالتْ تلك الفترة كلّما قلّتْ التأثيرات السلبية المتمثّلة في نقص كميات مياه النيل التي ستصل السودان ومصر. من الجانب الآخر، فكلّما قصرتْ فترة ملء البحيرة كلّما كانت التأثيرات السلبية كبيرة على مصر والسودان.
ويجب أن ترتكز مسألة ملء البحيرة على كميات المياه التي سوف يحملها النيل الأزرق سنوياً في كلٍ من الأعوام المقبلة، وتنبني على معادلةٍ تتضمّن نسبة تصاعدية مع الزيادة في مياه النيل الأزرق في الأعوام المقبلة.
ورغم أن المعلومات العامة التي تتداولها تقارير وكتب ومقالات نهر النيل تشير إلى أن النيل الأزرق يحمل سنوياً حوالى 50 مليار متر مكعب، إلّا أن كميات مياه النيل الأزرق العابرة للحدود الإثيوبية إلى السودان قد زادتْ كثيراً في السنوات الأخيرة، ووصلت في العام 2008 إلى حوالى 70 مليار متر مكعب. وإذا واصل النيل الأزرق انسيابه على هذا المنوال ووافقت إثيوبيا على فترةٍ معقولة لملء البحيرة، فإن معادلة النسبة التصاعدية ستقلّل كثيراً من الأضرار التي يمكن أن تنتج على السودان ومصر. وهذه الزيادات غير المتوقّعة في متوسط انسياب نهر النيل منذ الستينيات كانت قد ساهمت كثيراً في ملء بحيرة السدّ العالي (162 مليار متر مكعب) في فترةٍ وجيزة ومن دون أي تأثيراتٍ سلبية على المساحات المرويّة في مصر.
والسودان يستخدم فقط 12 مليار متر مكعب من نصيبه من مياه النيل بموجب اتفاقية مياه النيل للعام 1959 التي حدّدت نصيبه بـ 18,5 مليار. وهذا يعني أنه إذا ظلّت استعمالات السودان على هذا المنوال للسنوات المقبلة فإن تأثيرات ملء البحيرة لن تكون سلبيةً، أو حتى ملحوظةً، في السودان.
رابعاً: موضوع سلامة السدّ
يثير بعض الفنيين والكتّاب والسياسيين المعارضين لسدّ النهضة مسألة انهيار السدّ، قائلين بأنَّ انهيار السدّ سوف يُغرِق السودان ويدمّر كل أرجائه. صحيحٌ أنه لو انهار سدّ النهضة فستكون له آثارٌ كارثيةٌ على السودان. ولكن لو انهار السدّ العالي فستكون آثاره الكارثية أكبر على مصر. ولو انهار سدّ مروي فستغرق معظم المدن والقرى السودانية حتى حلفا القديمة. ولو انهار خزان الروصيرص فستغرق المدن والقرى على ضفافه من مدينة الدمازين وحتى الخرطوم. انهيار السدود ونتائجه الكارثية إذن ليس حكراً على سدّ النهضة.
إلا أن التقانة التي تبني بها الشركات العالمية (مثل ساليني) السدود اليوم متقدمةٌ عشرات المرات على التقانة التي بنى بها الاتحاد السوفيتي السدّ العالي قبل نصف قرنٍ من الزمان، وبنى بها الإيطاليون خزان الروصيرص في ستينيات القرن الماضي، وبنى بها الصينيون سدّ مروي في العقد الأول من هذا القرن. لماذا إذن سينهار سدّ النهضة ابن تقانة العصر الحالي ولن تنهار سائر السدود؟ كما أن القول أن سدّ النهضة يقع في منطقة زلزالٍ قولٌ مردودٌ أيضاً. فالعالم لم يسمع عن أي زلزالٍ في إثيوبيا إطلاقاً.
ويوجد في العالم اليوم أكثر من 45,000 سدٍّ كبير كما أشارت اللجنة الدولية للسدود في تقريرها الذائع الصيت الذي صدر العام 2000. إن العالم لم يسمع عن انهيار أيٍ من هذه السدود خلال القرن الماضي أو هذا القرن. فلماذا ستبدأ انهيارات السدود بسدِّ النهضة؟
رغم هذا فإننا نرى أنه يجب ألّا تتراخى حكومة السودان في مسألة سلامة السدّ هذه. وأن تطالب الحكومة الإثيوبية بتكوين لجنةٍ مشتركة دائمة بينهما مهمتها مسألة سلامة سدّ النهضة.
خامساً: وعود إثيوبيا بمدِّ السودان بكهرباء السدّ ومياهٍ للري
وعدت إثيوبيا ببيع جزءٍ من كهرباء سدِّ النهضة للسودان ومصر بسعر التكلفة. وهذا السعر هو حوالى ربع التكلفة لتوليد الكهرباء في خزان مروي والسدّ العالي. وكان السودان قد بدأ بالفعل في الاستفادة من الكهرباء التي تقوم إثيوبيا بتوليدها من الأنهار الأخرى، وتحديداً من سدّ تَكزِّي على نهر عطبرة، بعد توقيعه على اتفاقية مع إثيوبيا لشراء الكهرباء منها لاستعمالها في المناطق السودانية المجاورة لإثيوبيا.
كما وعدت إثيوبيا بمدِّ السودان بمياهٍ لري مشاريع السودان الزراعية في ولاية النيل الأزرق من بحيرة سدِّ النهضة عبر قناةٍ يمكن شقّها من البحيرة وحتى هذه المشاريع، إن رغب السودان في ذلك.
وعلى السودان العمل على توقيع مذكرة تفاهمٍ مع إثيوبيا، ومن المؤكد أن هذين العرضين سوف يساعدان السودان في حلِّ مشاكل إمدادات الكهرباء في كل الولايات، وفي زيادة كميات المياه التي سيستخدمها من نصيبه من مياه النيل، وفي توسيع الإنتاج الزراعي في ولاية النيل الأزرق.
سادساً: إدارة وتمويل وملكيّة مشتركة للسدّ
عرضت إثيوبيا منذ لحظة إعلانها نيّتها بناء سدّ النهضة أن يكون السدُّ مشروعاً مشتركاً في الإدارة والتمويل والملكية بين إثيوبيا والسودان ومصر، وأن تقوم البلدان الثلاثة بالمشاركة في المنافع من كهرباء ومياه ري ووقف الفيضانات. غير أن السودان ومصر تجاهلا هذا المقترح مثلما تجاهلا طلبات إثيوبيا المتكرّرة في نهاية خمسينيات القرن الماضي بالسماح لها في المشاركة في مفاوضات مياه النيل. وقد نتجت عن تلك المفاوضات اتفاقيةٌ كارثية ليس فقط على السودان، بل على مجمل العلاقات مع كل دول حوض النيل الأخرى. ورغم مرور أكثر من عامين ونصف فإنه لم يقم أيٌ من السودان ومصر حتى الآن بالردِّ أو حتى التعليق على هذا العرض الإثيوبي علانيّةً.
وهذا العرضٌ غيرُ مسبوقٍ في تاريخ نهر النيل الذي تميّز بالمشاريع الأحادية، ويجب على السودان ومصر قبوله والشروع في التفاوض مع إثيوبيا حول تفاصيله. فالأحواض المشتركة لا يمكن تنميتها وإدارتها والمحافظة عليها والمشاركة في منافعها بدون التعاون والعمل الجماعي. وقد فطنتْ دولٌ كثيرة إلى المزايا الإيجابية والمنافع الكبيرة المشتركة للتعاون في الأحواض المائية المشتركة. فقد بنتْ دولتا البرازيل وبراغواي "سدّ إيتايبو" الضخم على "نهر بارانا"، وتشاركتا التكلفة والإدارة والمنافع. وينتج السدّ أكثر من 22,000 ميغاوات من الكهرباء تتشاركها الدولتان وتبيعان جزءاً منها لدولة الارجنتين. كما قامتْ دول السنغال وموريتانيا ومالي (وانضمت إليهم دولة غينيا) ببناء "سدّ مانانتالي" و"سدّ ماكا دياما" على نهر السنغال، وتشاركت الإدارة والتكلفة والملكية والمنافع المُتمثّلة في الكهرباء ومياه الري ومياه الشرب ووقف الفيضانات المُدمِّرة. وهناك العشرات من المشاريع المشابهة. كما أن مشاركة السودان ومصر في إدارة وملكية سدِّ النهضة سوف تفتح الباب واسعاً للتمويل الدولي، خصوصاً من البنك الدولي والصناديق العالمية والإقليمية الأخرى.
التعاون هو الركيزة الأساسية والوحيدة للاستفادة القُصوى من مياه الأحواض المشتركة وتنميتها وإدارتها والمحافظة عليها. وتُكرّر اتفاقية الأمم المتحدة بشأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية كلمة "تعاون" ومشتقاتها أكثر من عشرين مرة.
وحوض النيل، رغم محدوديّة مياهه، يمتلك الكثير من الإمكانيات المتاحة التي يمكن استغلالها بصورةٍ جماعية لمصلحة شعوب الحوض الفقيرة والمنهكة والجوعى والعطشى والتي يعيش غالبيتها في ظلامٍ دامس. فهناك إمكانيات توليد الطاقة الكهربائية والتي تزيد عن 30,000 ميغاوات من النيل وروافده في إثيوبيا وحدها. ويملك السودان ودولة جنوب السودان الأراضي الشاسعة والخصبة التي يمكن أن ترويها مياه النيل لإنتاج غذاءٍ سيزيد عن احتياجات دول حوض النيل والدول العربية مجتمعةً. كما أن ثروة بحيرة فكتوريا السمكية الضخمة يمكن أن تُطوّر وتُنمّى وتُستغل لإطعام شعوب دول الحوض. وهناك إمكانيات مصر الصناعية الكبيرة التي يمكن توسيعها في جوانب الصناعات الغذائية لمنتجات دول النيل من الحوض نفسه. كما أن مستنقعات جنوب السودان الشاسعة تمثل خزاناً احتياطياً لزيادة مياه النيل (بعد اتباع المتطلّبات الأساسية لذلك).
لكنّ هذه الفرص المتاحة لا يمكن تحقيق أيٍ منها بدون التعاون الجاد الذي يستند على حسن النية والاعتراف بالآخر وحقوقه وتظلماته. فهل سيقفز السودان ومصر لالتقاط هذه الفرصة والاستفادة منها؟ أم أنهما سيتركان هذه الفرصة الثمينة تمرُّ وتتجاوزهما لتزدادَ وتتعمّقَ النزاعات حول مياه النيل؟ إن ضياع هذه الفرصة سوف يساهم في مواصلة إصرار دول النيل الأخرى على أخذ حقوقها بطريقةٍ أحادية، كما يحدث الآن في سدّ النهضة في إثيوبيا، وسدّ كارُوما في يوغندا، ومشروع شين يانغا لمياه الشرب في تنزانيا.