على قيد الأمل: مشروعٌ أو قمر

تحية إلى حسام مؤنس وزياد العليمي في محبسهما، بعد مرور عام بالتمام على اعتقالهما في 25 حزيران/يونيه 2019، ب"تهمة" تأسيس "تحالف الأمل الانتخابي". وقد أصبحت الزنازين مساكن سجينات وسجناء الرأي في مصر.
2020-06-25

منى سليم

كاتبة وصحافية من مصر


شارك
تركيب فني من انجاز ممدوح عبد المنعم - مصر.

هذا النص إهداء إلى "حسام" و"زياد" في محبسهما الذي يجمعهما منذ عام مع الرفيق الأجمل "هشام" في زنزانة تتشابه مع غيرها، وتضم سجينات وسجناء رأي في مصر. فتحية لهم جميعاً.(1)

***

صوتان، من ضيق الزنزانة ينطلقان، يتمددان على ظهرهما في ليلة صيف، يقترب أحدهما من الأرض والآخر من السقف، وفي المسافة الفاصلة بينهما يمتد درب مضاءٌ بألوان لا يراها غيرهما، يتابعانها بأعينهما إذ تتخطى حواجز النافذة، وتلقي طيفها على سطح القمر..

وهما بالداخل الضيّق الكئيب، لا يملكان غير الانتظار، وعلى صدى أشعار "درويش" دار بينهما هذا الحوار .(2)

***

الدرويش
نازلاً من نحلة الجرح القديم إلى
تفاصيل البلاد
وكنت وحدي .. آه يا وحدي
ذاكرة تجيء من القطارات التي تمضي
وساعداً يشتد في النسيان

***

صوت 1: كم تبقّى منه في جعبتك؟
صوت 2 : القليل
صوت 1: هل يكفينا للتذكر؟
صوت 2: لا أعرف، ولكن ليس أمامنا إلا هذا الطريق
صوت 1: ولما؟
صوت 2: حتى لا ننسى حين نخرج عناويننا
صوت 1: على كل حال.. سأبدأ أنا، فراقبني..

***

جاءت البداية قبل ما يزيد عن عام بأيام، حين سعى الشابان للبحث عن مخرج. بدت اللحظة موحية، لا لانفراجةٍ بها بل على العكس، زادت العتمة، زادت كثيراً حتى الطفح، فظنّا ومن معهما أنها اليوم الأنسب لبدء شق الطريق الصعب.

ولكن كيف يمكن شق طريق بدون ضوء؟ هو تأثير الصدى على الأرجح. كان هذا حين سمعوا كلمة "لا". ظنوا بها طاقة تكفي للإنارة، ولكن الكلمة الجبارة كانت قد سُلبت قوتها مرتين، الأولى على حواف صناديق الاقتراع القريب، والثانية داخل الغرف المغلقة التي تعجز عن حماية "صديق" عبّر داخلها عما يدور في خلده.

***

مقالات ذات صلة

الدرويش:
"سائراً بين التفاصيل
اتكأتُ على مياه، فانكسرت
لم يكذب عليّ الحب
ولكن كلما جاء المساء
امتصني جرس بعيد"

***

تمّ وأد الحلم في مهده، تبعثر التحالف قبل أن يلتئم، وخرجت الاتهامات الممجوجة تعلن عن نفسها، مطمئنة أن وقع الضربة سيشتت ما تبقى من صوت داخل الحناجر، وأن الجميع سيتساوى. من سيتحدث ويشهد بالحقيقة، ومن سيلتزم الصمت أو من سيفكر في التبرؤ من حماسهم بأي طريقة. ووسط الزحام، تلاقت ـ بوجل ـ مجموعات من الشابات والشبان "فلنبدأ.. فلنعيد.. فلنذهب في البعيد..". قالوا ولم يصلوا، سجلوا بعض الكلمات ومن فوق رؤوسهم توالت الضربات، فكلما أغلقت زنزانة أبوابها، انفسحت قضبان، والأسقف في الخارج تقترب من رؤوس أصحابها، ويضرب الحصار.

***

صوت 1: أخطأنا حين تخيلنا أن هناك طريقاً يمكن شقه بقلب هذه الصخرة؟
صوت 2: لم نفكر في استلهام مصدر للضوء لندرك الخطوة
صوت 1: وهل كان سيفرق كثيراً؟
صوت 2: كان سيمكّننا من تحديد النقطة التي من خلالها نخلق ثغرة. فيخرج ماء
صوت 1: أي ماء؟ لقد امتلأ سد معادٍ، والمياه من تحتنا في طريقها للجفاف (3)
صوت 2: وهل سمعت أيضاً، يقولون هنالك حرب على حدود الغرب، وفيروس في الهواء)

***

الدرويش:
"وأعدّ أضلاعي فيهرب من يدي بردى
وتتركني ضفاف النيل مبتعدا
وأبحث عن حدود أصابعي
فأرى العواصم كلها زبدا
وأوقد شمعتي من جرحيَ المفتوحللأزهار"

***

مر عامٌ صعب، وهو يزداد صعوبة، كان مبتغى الشباب مقاعد، يملك من يجلس عليها تمثيل الكادحين باتجاه لقمة العيش ليل نهار، أمِلوا في الدفاع عن حقهم وتذليل العقبات وتوفير الخدمات، ولكن ذهب كل ذلك هيهات، فها هي موالد "النواب" قد نُصبتْ، والجميع يقف على الأبواب، بعضهم ـ إثر صدقه ـ يرزح تحت حِمله، بينما تتراقص على مدخل كل مدينة آلاف الذئاب.

يقولون أنه بعد انتهاء الحفل الهزلي، وعودة الصادقين والمساقين من أمام لجان الاقتراع، سيعطون ملمحاً جديداً لبهو البرلمان، سيجعلونه أشبه بمعمار باب زويلة استعداداً لتعليق أكثر من رأس، وسيحرصون على استخدام التقنيات الحديثة بتسليط الأضواء (4).

أما الكادحون، فقد أطبق عليهم نهار ومن بعده ليل، وليل ومن بعده نهار، وهم لا يزالون كعهدهم يمررون ـ ببراعةٍ ـ مراراتهم، ويصبرون.

***

مقالات ذات صلة

"صاعداً نحو التئام الحلم
تنكمش المقاعد تحت أشجاري وظلكِ
يختفي المتسلقون على جراحكِ
كالذباب الموسمي
ويختفي المتفرجون على جراحكِ
فاذكرينيقبل أن أنسى يدي"

***

صوت 2: لم أعد أدرك مما يدور إلا حدود اليأس
صوت 1: أدركناه أم أدركنا!!
صوت 2: فلتقل .. صادفناه بساعة التريّض الأولى وتوالت اللقاءات
صوت 1: لكني سمعت ظهيرة اليوم في ممر العنبر صوتاً جميلاً
صوت 2: وأين كنتُ أنا؟
صوت1 : ذهبت ـ ويا للعجب ـ في نوم عميق
صوت 2: لقد استبدلتها في الحلم بسحابة
صوت 1: إذاً حصلنا أخيراً على قسط متساو من نفض الكآبة

***

تحكي "هي" عن سيارة الترحيلات. تقول: "إنها الأسوأ"، ولعلها السمة المميزة دوماً لمراحل الانتقال، حرّ الصيف بها كما برد الشتاء لا يطاق، وتتذكر أنها في أغلب المرات لم تتعلق بقرار الإفراج قدر ما تمنت العودة السريعة من جلسة التحقيق إلى بلاط الزنزانة، لا لشيء إلا للتخلص من مرارة الارتجاج داخل السيارة، ومن مرارة التأرجح على حافة الرجاء. وحين نزل اسمها في "قوائم العفو" كانت تدخن سيجارة في الساحة الواسعة وتثرثر تحت أشعة الربيع مع بعض النزيلات (5).

أما ذاك الشاب الشهير، فقد استسلم في فرحة طفولية لخطوات تصويره ليخرج ليلاً على الشاشات دليلاً على سلامة الاحترازات المتبعة والإجراءات، ومن دون أن يملك أحدٌ وقف هذه المهزلة، مرّت ضحكته جزلة فأربكت المعادلة (6).

من أين إذاً سيمر الضوء؟ أصبح هو السؤال.لا يردده أحد. فقط يسكن الصدور وينتظر أن يلهمها الخيال

***

الدرويش:
أصعد من جفاف الخبز والماء المصادر
أنتمي لسمائي الأولى وللفقراء في كل الأزقة
ـ للفراشات اجتهادي ـ
وصدري باب كل الناس

***

صوت 1: تذكر ذاك الصديق بالزنزانة القريبة.. كان يسأل "لماذا لايفكر الجيران من حولنا أبداً بفتح الشرفات؟"(7)
ـ صوت 2: يخافون الرصاص
ـ صوت 1: رصاص من؟
ـ صوت 2: الجميع
ـ صوت 1: وماذا عنه
ـ صوت 2: هو مثلنا
ـ صوت 1: وقد جاء غيرنا
ـ صوت 2: نعم، نحن الأكثرية هنا وهناك..
ـ صوت 1: هناك!! حيث تسكن الراحة ويتبدّى الأحباب
ـ صوت 2: نعم، وأنا مثلك ـ يا صديقي ـ اشتاق

***

لا يقين حول نتائج المعادلات المفتوحة، عرف الجميع زوار الفجر، والزوار أنواع، مرضٌ يخنق الأنفاس ويسحب الأكسجين من الدم، رسالة مقتضبة عن الاستغناء عنك بالعمل ترشيداً للنفقات فيسكنك الهمُّ، أو اجترار ينفرد بفتاة وحيدة تستيعد ما مر على جسدها من حزن فتنقطع شرايينه بين يديها (8).

أما أنت يا من سُجنت، فعلى الرغم من كآبة المشهد، اختزن حلمك قيمته في قرار وأده.

فهذا "معاديك" في أوج بطشه، وخوفه الكامن، لا يرتضيه فقط اعترافك به، ولكن يشترط إقرارك بأنه هو المشروع الصحيح الوحيد، لا يقبل بأن تطرح نفسك من الداخل كبديل، ولا بديل له معك، فإما أن يدفعك لأن تتبرك به، أو أن يلقي بك في الجبّ في الصحراء خارج المعبد مع الموصومين الراغبين في الهدم. ولأنه يعرف أنك مهما بلغ وجعك أو قوتك لن تفك حجراً واحداً، فهو يلقي بك بمنتهى الأريحية ودون هوادة، يراكم مرات كسرك ويحدّث نفسه أنك قد انتهيت، ولا مستقبل أمامك إلا الفناء حَراً وعطشاً، وعلى الرغم من هذا لا يتوقف عن ملاحقتك وإن سكن خطوك، فهو لا يعرف من أين يمكن أن يأتيه "بعض السائرين"، هؤلاء ممن يملكون وجوهاً تشبهك، ولم تتسجل أسماؤهم بالدفتر بعد.

***

"فاذهب عميقاً في دمي
واذهب عميقاً في الطحين
لنُصاب
بالوطن البسيط
وباحتمال الياسمين

***

صوت 2: تعرف معك الحق، لا بد من ثغرة، لكن لا لينبثق منها الماء فنرتوي بل لنرى، فنحن يا صديقي تحت الصخور، لا فوقها
صوت 1: وعندها؟
صوت 2: تُخلق ألف ثغرة، نقاط بسيطة متفردة، متقاربة أو متباعدة، وجميعها باتجاه السطح نفسه.
صوت 1: لعله صحيح.. فليس المهم أن نسير متكاتفين متشحين بالسواد، ولكن أن تأتي نتائج حفرنا متوازية في ثبات
صوت 1: تخيل معي الصورة الآن من النافذة.. آلاف الأكف تخرج من هنا وهناك من تحت الصخور
صوت 2: لكن قد يقطعون الأيدي.. يسدون الثغور
صوت 1: فيعيد آخرون دوماً المحاولة.. لأنهم ـ في سبيل الحياة ـ غير ذلك لا يملكون
صوت 2: سيصعد بعضنا إلى السماء، سيخرج بعضنا إلى النور، ووحدها الصخور تعرف الحقيقة. إنها بضغط الماء ـ وحده ـ يمكن أن تزول

***

انتهت أحاديثهم غير المسجلة.. فمن يدري القادم، من يملكه؟ من يعرف الناحية التي تنفتح منها الأبواب؟

***

الدرويش:
يا أيها الولد الموزع بين نافذتين
يا أيها الولد المكرس للندى
يا أحمد السريّ مثل النار والغابات
أشهر وجهك الشعبي فينا

***
آخر الليل، يدنو من وراء النافذة معلناً قرب انقشاع القمر وتلاشي الألوان
صوت 1: تعال قبل أن ننام.. نعطي هذا الدرب اسماً
صوت 2: تحسس بيده جعبته، وقال:
"لعله الأمل".

______________

1- حسام مؤنس وزياد العليمي هما قياديان شابان بالتيار المدني المعارض داخل مصر، وهما مؤسسا "تحالف الأمل الانتخابي" الذي تم تفتيته قبل الإعلان عنه رسمياً بالقبض عليهما وآخرين فجر حزيران/ 25 يونيو2019. "هشام فؤاد" هو رفيقهما الثالث بزنزانة سجن ليمان طرة، وهو صحافي يساري ناشط في الدفاع عن حقوق العمال.
2- أبيات الشعر هي قطع متصلة منفصلة للشاعر الفلسطيني الكبير "محمود درويش" من من قصيدة "أحمد الزعتر" وقد لحنها وغناها الفنان اللبناني "مارسيل خليفة" بمشاركة "أميمةالخليل".
3- "سد النهضة" الذي أوشكت أثيوبيا على ملئه وانسحبت مصر أكثرمن مرة من المفاوضات الدولية حوله اعتراضاً على تأثيره السلبي على أمنها المائي. وتشهد الحدود الغربية لمصر تأجج الصراع الليبي غير البعيد عن مشاركة مصر ومساعي للتدخل.
4- يستعد البرلمان المصري لإنهاء أعماله وبدء التحضير لجولة جديدة من الانتخابات، وكانت الدورة التشريعية الأخيرة ومدتها 5 سنوات قد شهدت وصول عدد محدود من الأصوات المعارضة تحت اسم "تكتل 25-30" وهم تباين أداؤهم في كثير من المواقف ولكن اجتمعوا على معارضة قضايا كبرى أهمها رفض اتفاقية التنازل عن جزيرتي"تيران وصنافير" والتعديلات الدستورية التي تسمح بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية لأكثر من مرتين. وقد شارك النائب "أحمد الطنطاوي" في الإعداد لإطلاق تحالف الأمل الانتخابي، وتمّ القبض على عدد من أعضاء حملته ومكتبه.
5- "عبير الصفتي" معارضة مصرية قضت عاماً بسجن القناطر الخيرية الذي يضم عدداً من السياسيات والصحافيات وذلك لاعتراضها على تمرير التعديلات الدستورية.
6- "أحمد دومة" هو أحد أبرز الوجوه الشابة بثورة يناير، ويقضى الآن عامه السادس بالسجن بسبب اتهامات تتعلق بالتظاهر والتجمهر، وكان قد ظهر مؤخراً في مقطع فيديو بثته وزارة الداخلية المصرية عن إجراء مسحات فحص للكشف على فيروس كورونا بين السجناء.
7- "وليد شوقي" طبيب أسنان مصري وقيادي سابق بحركة 6 أبريل يقضي عامه الثاني بالحبس الاحتياطي كسجين رأي، وقد جاءت هذه الجملة في خطاب له تم نشره مؤخراً بعنوان "نظرة من شباك السجن".
8- "سارة حجازي" شابة مصرية انتحرت هذا الشهر في كندا، وذلك بعد أن اضطرت للاغتراب إثر تجربة احتجاز وتعذيب وتنمّر تعرضت لها داخل السجون المصرية وخارجها لإعلانها ميولها الجنسية المثلية.

مقالات من مصر

ثمانون: من يقوى على ذلك؟

إليكم الدكتورة ليلى سويف، عالمة الرياضيات المصرية بالأصالة، البريطانية بالولادة، على صقيع رصيف وزارة الخارجية في لندن، تُعدُّ بالطباشير – ككل المساجين - أيام اضرابها.

للكاتب نفسه

عيش.. حرية.. إلغاء الاتفاقية!

منى سليم 2024-03-29

هل يستقيم ألا تغيِّر الحرب على غزة موازين الأرض؟ أو لا يصير الى صياغة برنامج سياسي مصري ينطلق من إلغاء هذه معاهدة كامب ديفيد، وأن يكون ذلك ركيزة للتغيير الجذري...