هذا المقال هو مساهمة "السفير العربي" في ملف مشترك أنجز في إطار نشاط "شبكة المواقع الإعلامية المستقلة حول العالم العربي".
يتحدث الكثيرون عن "عدالة" فيروس كوفيد-19 الذي يصيب الجميع بلا تمييز، لكنهم يتناسون أن هناك مناطق أكثر ضعفاً أمام الكوارث والطوارئ من غيرها، حتى وإن كان عدد المصابين فيها منخفضاً نسبياً. فالمنطقة العربية مثلاً (باستثناء بعض الدول) تعاني من عدة مشاكل بنيوية قديمة وجديدة، تجعلها مهددة لا فقط بخسائر بشرية كبيرة في حال تفشي الوباء، بل كذلك بعواقب اقتصادية واجتماعية وخيمة. أظهر كوفيد-19 مدى تدهور البنى التحتية الصحية في أغلب هذه البلدان، وكذلك هشاشة اقتصاداتها وحجم الدمار الذي خلفته عقود من الفساد والخيارات الفاشلة. ولكنه أظهر أيضاً أوجهاً جميلة مثل المبادرات الشعبية التضامنية، والبدائل الخلاقة لتعويض النقص فيما يلزم لمواجهة الوباء.
I- مجتمعات مرهقة زادتها الكورونا إرهاقاً
قبل الحديث عن آثار كورونا وتأثيراتها سيكون من المفيد أن نذكّر ببعض المعطيات الفصيحة. فلا يجب أن ننسى أن قرابة نصف البلدان العربية تعيش حالة حرب و/أو ضعف (وحتى غياب) الدولة المركزية أو انتفاضات شعبية اجتماعية - سياسية أو حصار أو احتلال: سوريا، اليمن، ليبيا، الصومال، العراق، فلسطين، الجزائر، لبنان.
تختلف مؤشرات التنمية البشرية، ونصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من دولة عربية إلى أخرى، لكن الكثير منها يحتل مرتبة متدنية، وأحياناً متدنية جداً على سلم الترتيب العالمي. وإذا ما استثنينا دول الخليج (حيث تتراوح نسب البطالة بين صفر وكسور وخمسة بالمئة) فإن بقية الدول تسجل- حسب أرقام البنك الدولي لسنة 2019- نسب بطالة رسمية تتراوح بين 9 و26 بالمئة. هناك أيضاً معضلة الاقتصاد غير المهيكل حيث تصل نسبة العاملين في قطاعاته إلى أكثر من 40 في المئة من مجمل السكان النشطين (بلا عقود تشغيل ولا تغطية اجتماعية)، دون احتساب الملايين الذين يعملون بشكل منظم، ولكن بأجور متدنية جداً. ولا يجب أن ننسى المعطى الرئيسي عندما يتعلق الأمر بوباء: مدى توفر الخدمات الصحية وجودتها.
هناك نقص حاد في عدد الاطباء، وبالاخص منهم العاملين في القطاع الصحي العام. هناك 70 ألف طبيب مصري يعملون في السعودية وحدها، والمسجلين في نقابة الأطباء يبلغ تعدادهم 220 ألف طبيب يوجد منهم 120 ألفاً خارج مصر. وفي العام الفائت وحده هاجر 800 طبيب تونسي متخرج حديثاً من البلاد، وكذلك من الجزائر والمغرب والعراق وسوريا ولبنان..
البلدان العربية الأكثر ثراءً و/أو اعتناءً بقطاع الصحة توفر أقل من ثلاثة أسرّة استشفاء لكل ألف ساكن، وتنزل النسبة إلى أقل من 1 سرير في دول مثل اليمن. أما بالنسبة لعدد الأطباء لكل ألف ساكن فهو يتراوح ما بين 0.3 و 2.5. كل هذه المعطيات ضرورية لكي نفهم هشاشة الوضع في أغلب الدول العربية. هشاشة ستفاقمها الكورونا وستتعدد مظاهرها:
- نقص حاد في "عتاد" الحرب على كورونا:
تشكو أغلب الدول العربية - بشكل متفاوت - من النقص في مستلزمات الحماية الشخصية من العدوى (أقنعة وكمامات وبدلات خاصة ومحاليل كحولية للتعقيم والتطهير)، وأجهزة الاختبار ومختبرات فحص العينات والعتاد الطبي "الثقيل" اللازم للتكفل بالمصابين بفيروس كوفيد-19 الذين تتطلب حالتهم البقاء في المستشفى للمراقبة والإنعاش. ويفسَّر هذا النقص بسياسة مديدة وراسخة من عدم الاكتراث بمفهوم "الصحة العامة" كحق، ازدادت مع اعتماد "التعديلات الهيكلية" التي فرضها على الموازنات في معظم بلدان المنطقة صندوق النقد الدولي، وتدابير "التقشف" التي طالت خصوصاً القطاع العام في الصحة. ويصبح الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة لأسرّة العناية المركزة وأجهزة التنفس الصناعي، والتي لا يفوق عددها الآلاف في أكثر الدول العربية ثراءً، وبضعة مئات في أغلب الدول، وعشرات في الدول الأفقر أو تلك التي دمرتها الحروب. وفي بعض الدول مثل تونس والمغرب ولبنان (في حدود 500 سرير) نجد أن عدد هذه الأسرّة في القطاع الخاص يساوي، أو يفوق تلك التي يوفرها القطاع العام.
قرابة نصف البلدان العربية تعيش حالة حرب و/أو ضعف (وحتى غياب) الدولة المركزية أو انتفاضات شعبية اجتماعية - سياسية أو حصار أو احتلال: سوريا، اليمن، ليبيا، الصومال، العراق، فلسطين، الجزائر، لبنان.
تصل نسبة العاملين في قطاعات الاقتصاد غير المهيكل إلى أكثر من40 في المئة من مجمل السكان النشطين (بلا عقود تشغيل ولا تغطية اجتماعية)، دون احتساب الملايين الذين يعملون بشكل منظم، ولكن بأجور متدنية جداً.
ندرة كل هذه الأدوات والتجهيزات فتح الباب أمام الاحتكار وتضاعف الأسعار من جهة، والغش والفساد من جهة أخرى. فمثلاً قفزت أسعار الكمامات الواقية والمعقمات أضعافاً مضاعفة (عشر مرات في بعض البلدان) في لبنان ومصر والمغرب وتونس والجزائر والسودان وسوريا والقائمة تطول. وفتحت هذه الوضعية شهية بعض المؤسسات المختصة (وحتى غير المختصة) لتصنيع هذه المواد، ولإنتاج كميات كبيرة وتسويقها بأسعار مرتفعة، رغم أن الكثير منها غير مطابق للمواصفات. كما يتنافس العديد منها لعقد صفقات مع وزارات الصحة والصيدليات المركزية دون المرور بمسار الصفقات العمومية التقليدية.
وهناك نقص حاد في عدد الاطباء المتوفرين في أكثر من بلد، وبالاخص منهم العاملين في القطاع الصحي العام. ولأن مصر تواجه تهديداً بان تتحول كورونا الى جائحة في البلاد، يقترح الرئيس السيسي تأهيل الصيادلة "بسرعة" لسد النقص في عدد الاطباء! بينما نعلم ان هناك 70 ألف طبيب مصري يعملون في السعودية وحدها، وأن المسجلين في نقابة الأطباء يبلغ تعدادهم 220 ألف طبيب يوجد منهم 120 ألفاً خارج مصر. وفي العام الفائت وحده، وكذلك الذي سبقه، سجلت هجرة 800 طبيب تونسي متخرج حديثاً من البلاد. ويصح الأمر نفسه على الجزائر والمغرب والعراق وسوريا ولبنان الخ..
- حجر صحي يهدد قوت الناس
كثيراً ما تطالعنا مقالات ودراسات عن فوائد الحجر الصحي، والبقاء في البيت مع ما تتيحه من فرصة للتأمل والقراءة ومشاهدة الأفلام وتناول طعام صحي والتمتع بصحبة العائلة وإعادة التفكير في مفهوم الوقت والزمن. وقد يكون كل هذا صحيحاً، لكنه لا يصّح على الكل. فالبقاء في البيت دون الخوف من المستقبل (على الأقل القريب) هو ترف لا يقدر عليه الجميع. تجمّع العائلة لأشهر دون خروج قد يصبح جحيماً عندما يكون "البيت" مكوناً من غرفة أو غرفتين تأويان عدة أنفار، وعندما تكون غرفة الجلوس هي أيضاً غرفة النوم والطعام. وليس لكل الناس ثروات ومدخرات وأعمال ثابتة، تجعلهم يصبرون على الحجر ويتعاملون معه كعطلة.
الكثير من المجتمعات العربية يشكل فيها العمال المياومون والمشتغلون في قطاعات الاقتصاد غير المهيكل أغلبية من هم في سن العمل، ناهيك عن المتبطلين في أغلب أوقاتهم. حتى العمال والموظفون المرسمون في القطاع الخاص يخافون من إفلاس المؤسسات التي تشغلهم، أو إغلاق أبوابها لفترات طويلة. أصحاب المحلات التجارية والخدماتية الصغيرة، وكذلك الحرفيون هم أيضاً يخافون من تبعات الركود الاقتصادي، وتدني المقدرة الشرائية لحرفائهم.
تجمّع العائلة لأشهر دون خروج قد يصبح جحيماً عندما يكون "البيت" مكوناً من غرفة أو غرفتين تأويان عدة أنفار، وعندما تكون غرفة الجلوس هي أيضاً غرفة النوم والطعام. وليس لكل الناس ثروات ومدخرات وأعمال ثابتة، تجعلهم يصبرون على الحجر ويتعاملون معه كعطلة.
ورغم اتخاذ أغلب الدول العربية لبعض التدابير التي تخفف من أزمة الفئات الاجتماعية الأكثر تضرراً، فإن الخوف باقٍ ويتزايد. فالإجراءات الحكومية في أغلب الأحيان غير كافية، إذ أن قيمتها متدنية (ما بين 50 و150 دولار في أغلب الدول العربية) لا تتناسب مع واقع الأسعار وتكلفة المعيشة، ولا تشمل كل مستحقيها نظراً لعدم تحديث قواعد البيانات الخاصة بالسكان وحالتهم العائلية والمهنية والمادية. وتزداد الأمور سوءاً في البلدان التي يحضر فيها الاقتصاد الموازي بشكل قوي وحتى مهيمن. هذا الخوف من الفقر الحاضر والجوع المستقبلي، دفع العديدين من الباعة المتجولين والحرفيين وبعض أصحاب المحلات في عدة مدن عربية إلى كسر الحجر والخروج لكسب القوت، فيما يشبه لعبة "غميضة" مع السلطات تتطور أحياناً إلى مناوشات وإيقافات وغلق محلات ومصادرة لأدوات عمل وحتى وسائل نقل. وهكذا تجد بعض الفئات نفسها محشورة بين طبقات من الخوف: الوباء والفقر وعنف السلطة. وقد وقعت عدة تظاهرات احتجاجية في لبنان الذي يعاني فوق الوباء من انهيار اقتصادي، وكذلك يهدد الوضع في العراق بانفجار جديد للاحتجاجات.
- النساء: الخاسر الأكبر؟
حسب كثير من الإحصائيات أوردتها دول مختلفة، عربية وغير عربية، فإن الذكور هم الأكثر عرضة للإصابة بوباء كوفيد-19. هذا على المستوى الصحي، أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فقد تكون الضريبة التي تدفعها النساء أعلى. فمن الناحية الاقتصادية ستنعكس المصاعب على المرأة سواء إن كانت تعمل أو مرتبطة مادياً برجال العائلة. إن فقدت عملها، فستفقد استقلاليتها المالية التي لا توفر لها فقط حاجياتها المادية، بل تمنحها نوعاً من المكانة الاجتماعية والحماية من الإذلال. وإن كانت بلا عمل وفقد "معيلها" مصدر رزقه، أو تراجع دخله فستصبح حياتها وحياة أطفالها أصعب. نستذكر هنا "بائعات الشاي" في السودان، وبائعات الكسكس في موريتانيا وبائعات الخبز والسندويشات والفطائر والحلويات الرخيصة وغيرها من "السلع" في الأسواق الشعبية في عشرات المدن العربية. والخطر يمس أيضاً قوت ملايين العاملات التونسيات والمغربيات والمصريات اللواتي تعملن في مؤسسات قطاع الصناعات الخفيفة (نسيج، صناعات غذائية، تعليب، الخ...) والتي قد يتعطل نشاطها لأشهر وتسرح عاملات، أو تغلق أبوابها بسبب نقص الطلبيات وتوقف حركة التصدير والاستيراد.
ملازمة النساء لبيوتهن رفقة أزواجهن لمدة طويلة لا يعني في الكثير من الأحيان المزيد من القرب والحب بل قد يتحول إلى جحيم عنيف. الكثير من الدول العربية (وهي ليست استثناءً في العالم) سجلت ارتفاعاً كبيراً في عدد النساء المعنفات منذ منتصف شهر أيار\ مايو الفائت. في تونس مثلاً تؤكد منظمات نسوية مثل "جمعية النساء التونسيات للبحث حول التنمية" أن عدد المبلغات عن تعرضهن للعنف تضاعف خمس مرات مقارنة. وفي المغرب دفعت هذه الظاهرة منظمات نسوية لإطلاق حملة "عاون بلادك وخليك فدارك بلا عنف" للضغط على السلطات ومحاولة التأثير في الرأي العام، وكثفت من خلايا الإنصات للنساء المتعرضات للعنف. أما لبنان فلقد تضاعف -مقارنة بالفترة نفسها من السنة الماضية- عدد المكالمات الواردة على الخط الساخن المخصص لتلقي شكاوى النساء المعنفات. نفس الشيء في الأردن حيث نبه "اتحاد المرأة الأردنية" إلى تفاقم حالات العنف المسلط على المرأة منذ الأيام الأولى لفرض الحجر الصحي.
- المنسيون
حال الفقراء عندما يكونون في أوطانهم ومدنهم الأصلية برفقة عائلاتهم تبقى أفضل من حال عدة فئات أخرى متجاهلة في زمن "الخير" ومنسية في زمن الوباء. فمثلاً يجد آلاف الطلبة العرب أنفسهم عالقين في دول أجنبية يدرسون فيها بلا أمل في أن تدعمهم دولهم الأصلية مادياً أو تجليهم. كما ظهرت في بعض البلدان كتونس وموريتانيا والمغرب مشكلة المواطنين من العمال المهاجرين الذين يشتغلون في دول مجاورة، ويريدون العودة إلى بلدانهم عبر الحدود البرية، لكن المعابر الحدودية أغلقت في وجوههم بمقتضى تدابير الحجر الصحي. تكدس المئات من التونسيين على الحدود الليبية - التونسية طيلة أسابيع بانتظار موافقة السلطات حتى عيل صبرهم واخترقوا البوابات، وعلى الحدود الموريتانية - السينغالية يعلق الكثير من الموريتانيين الراغبين في العودة إلى بلدهم وبعضهم ينجح في التسلل.
أغلب الدول العربية التي تحتضن أراضيها مخيمات لاجئين (فلسطينيين وسوريين وعراقيين وجنسيات أخرى) تركتهم لأنفسهم ولرحمة المنظمات الأممية وغير الحكومية. وفي بعض البلدان العربية مثّل انتشار الوباء وإعلان الحجر الصحي ضربة قاسية لفئة المهاجرين الفقراء و/أو الذين لا يملكون أوراق إقامة. يتعلق الأمر أساساً بأفارقة جنوب الصحراء في دول المغرب العربي، والآسيويين في دول الخليج. فعدد كبير منهم لم يعد قادراً على توفير حاجياته، ولا يستطيع التوجه إلى السلطات الرسمية خوفاً من الملاحقة القانونية أو لأن قوانينها تمييزية ضد المهاجرين. وأغلبهم يقتسم السكن مع عدد كبير من الأشخاص مما يصعّب مسألة الحجر الصحي والتوقي من العدوى.
II- مبادرات تضامنية متعددة الأشكال
منذ الأيام الأولى لانتشار الفيروس في الدول العربية، وخاصة مع تتالي قرارات الحجر الصحي التي تختلف درجة صرامتها من بلد إلى آخر، تبيّن للناس مدى هشاشة الوضع وخطورته. وفهموا (البعض منهم على الأقل) أنه لا مناص من التضامن لعبور المرحلة بأخف الأضرار. تتالت المبادرات الخيرية والتطوعية بشكل سريع مما يجعل إحصاءها وحصرها أمراً مستحيلاً. بعض أشكال هذا التضامن قديم وسابق للكورونا مثل التآزر العائلي والعشائري والقبلي وحتى المناطقي والطائفي. وبعضها "كلاسيكي" بمعنى أنه بمبادرة من جمعيات ومنظمات عمل خيري وإغاثة، محلية أو دولية، تعمل بشكل مستمر منذ سنوات ولديها الخبرة والإمكانيات للتدخل بسرعة وفعالية. أكثر المبادرات شيوعاً هي تلك التي تعنى بجمع وتوزيع مساعدات عينية من غذاء وأدوات حماية ومواد تطهير وتنظيف. وهناك أيضاً مبادرات جديدة ولدت مع تفشي الفيروس وهي التي اخترنا أن نسلط الضوء عليها.
- تطوع شبابي في الحياة اليومية
في تونس مثلاً لعب الشباب، وما زال، دوراً كبيراً في التوعية بوجوب التوقي من فيروس كورونا، وفي تخفيف آثاره الاجتماعية والاقتصادية. فضلاً عن حملات التعريف بالمرض وسبل الحماية منه، بادر العديد منهم، بالتعويل على جهودهم الخاصة أو بالتنسيق مع أجهزة حكومية ومكونات المجتمع المدني، إلى القيام بحملات تعقيم للشوارع والمباني، وتنظيم صفوف المواطنين أمام وداخل الإدارات والفضاءات التجارية الكبيرة ومحطات النقل للحفاظ على مقتضيات التباعد الجسدي. أما في السودان فلقد اعتبر شباب "لجان المقاومة" التصدي للفيروس وآثاره الاجتماعية معركة جديدة، فنظموا حملات توعية وحاولوا التصدي لمحتكري مواد التعقيم والتطهير عبر التنسيق مع مبادرة "اللجنة المركزية للصيادلة" وتوزيع مئات آلاف العبوات مجاناً على المواطنين، كما ساهموا في حصر عدد الأسر الأكثر حاجة للمساعدات الغذائية. وفي الصومال، ساهم طلبة من جامعة مقديشو في تنظيم حملة "درهم وقاية خير من قنطار علاج" الناشطة في المناطق الأكثر فقراً وعرضة لتفشي المرض مثل التجمعات السكانية الكبيرة ومخيمات النازحين المتاخمة للعاصمة. وهم لا يكتفون بالتوجه إلى مناطق خطرة ومخاطبة سكانها وتوعيتهم، بل يوزعون الأدوات الأساسية للحماية الفردية والجماعية مثل الصابون وعبوات التعقيم ومواد التنظيف المنزلية. وكذلك في الكثير من القرى المصرية الفقيرة والمتروكة لنفسها في الأزمة، يقوم الشباب بدور حيوي فيتولون -بإمكانيات بسيطة، وبلا دعم حكومي في الكثير من الأحيان - تعقيم الشوارع وتوعية الأهالي بماهية الوباء ومخاطره وسبل الحماية منه، بل ويساهمون أيضاً في تنظيم الحياة اليومية، وإيجاد الحلول للتزود بالسلع الغذائية وغيرها بأسعار مقبولة. وتميزت مبادرات الشباب في قطاع غزة بالمثابرة وبالإبداع، بناءً على وجود وعي حاد بأنوضع القطاع المحاصر منذ 14 عاماً، والذي تعرض لحروب اسرائيلية تدميرية متوالية سيكون كارثياً إذا لم يتم استباق انتشار الوباء من ناحية، ودعم شروط حياة السكان من ناحية ثانية، الذين يبلغ مستوى الفقر بينهم نسبة 70 في المئة.
منذ الأيام الأولى لانتشار الفيروس في الدول العربية، تبيّن للناس مدى هشاشة الوضع وخطورته. وفهموا أنه لا مناص من التضامن لعبور المرحلة بأخف الأضرار: آلاف المبادرات - الشبابية خصوصا – وعشرات الاختراعات لتعويض النواقص.
الشباب من الأطباء والممرضين كانوا في الصفوف الأولى للمتطوعين في المستشفيات، وللعاملين في الأقسام والمسارات التي خصصت لاستقبال وفحص وعلاج المصابين بمرض كوفيد-19، فمثلاً نجد أن هؤلاء الشباب من أطباء الجامعة اللبنانية الرسمية (الجامعة الوحيدة المجانية في لبنان وتسمى "جامعة الفقراء"، ولكن مستوى كلية الطب فيها ممتاز) وممرضيها كانوا أول من ركّز خلية استقبال وإرشاد للمشتبه بإصابتهم بالفيروس في مستشفى رفيق الحريري الجامعي والمجاني في لبنان، بل وقاموا بعلاجهم في بلد يتغول فيه القطاع الطبي الخاص الذي لا تقوى على تحمل كلفته الأغلبية الساحقة من المواطنين.
- مبادرات تضامن مخصصة لفئات معينة
في السودان تسببت إجراءات الحجر الصحي وحظر التجوال في حرمان عشرات آلاف السيدات -جزئياً أو كلياً- من مورد رزقهن المتمثل في بيع الشاي في الشوارع، فنشأت مبادرة " خليك ببيتك وقروشك تصلك لحد عندك" لجمع تبرعات تعوض بعض خسائر "ستات الشاي" كما تُسميّن في السودان، وهناك حتى من تبرع لهن بالمال الذي كان سيخصص لحفل زفافه. أما في بعض مناطق لبنان فلقد نظمت حملة "نحنا حدّك" لدعم سائقي سيارات التاكسي، وهم من الفئات التي تضررت كثيراً من الحجر الصحي. كما تشكلت أطقمٌ من الشباب لإجراء إحصاء للعائلات المحتاجة في مدينة طرابلس وهي أفقر مدن البلاد، التي تفتقد إلى المعلومات والإحصائيات الفعلية، تمهيداً لتوزيع المساعدات الرسمية أو التبرعية عليهم.
بعض المواطنين ليسوا بحاجة إلى التبرعات، لكنهم يجدون صعوبة في الخروج للتسوق وحتى الحصول على أدويتهم، ففي مدينة "تطوان" المغربية مثلاً (وكذلك في عدة مدن مصرية) تطوع الكثيرون للتسوق بدلاً عن الأشخاص المسنين والعاجزين والمرضى ضعيفي المناعة، ووضعوا أرقام هواتفهم على ذمة كل من يستحق العون.
وفي مصر تجندت عدة مطاعم لتقديم وجبات مجانية للعاملين في المستشفيات القريبة منها دعما ل"الجيش الأبيض" في معركته مع كوفيد-19، وكذلك للمارة ممن لا يجدون الرغيف. وفي تونس أيضاً تعددت المبادرات الشبيهة، فلقد نسقت عدة جمعيات ومبادرات أهلية مع أصحاب مطاعم لتوفير آلاف الوجبات يومياً للعاملين في قطاعات الصحة ورفع الفضلات، وكذلك للطلبة الأجانب والعمال المهاجرين خاصة الوافدين من دول إفريقيا جنوب الصحراء.
- مبادرات مهنيي وطلبة قطاعات الصحة
في عدة دول عربية بادر أطباء وحتى ممرضون وطلبة الاختصاصات الطبية وشبه الطبية، باستغلال منصات التواصل الاجتماعي وتقنيات الاتصال بالفيديو، لتقديم معلومات حول فيروس الكورونا، والطرق العلمية الصحيحة للتوقي منه، وكذلك إرشاد المشتبه في إصابتهم بالعدوى. في العراق مثلاً نشأت عدة صفحات فيسبوك يضع عليها الأطباء المتطوعون أرقام هواتفهم لمن يحتاج إلى استشارة طبية عاجلة ومجانية في عدة اختصاصات. وفي المغرب أطلق أطباء مبادرة "شفاء" التي تقوم ببث فيديوهات توعويّة وإخبارية، كما تنظم جلسات حوار مباشرة مع المختصين.
وهناك أيضاً الدعم النفسي، وهو مهم جداً للمواطنين مع طول مدة البقاء في البيت وتعطل الحياة الاجتماعية، ويشمل حتى الأطباء أنفسهم. ففي مصر مثلاً أطلق أخصائيون نفسيون مبادرة " الدعم النفسي للطواقم الطبية". وللصيادلة ومحضري الأدوية والعقاقير نصيب في هذه المبادرات التطوعية، ففي السودان مثلاً لم تكتفِ "اللجنة المركزية للصيادلة" بتصنيع كميات كبيرة من المعقمات مجاناً (بالتعاون مع نقابة الأطباء وشباب الثورة السودانية)، بل استطاعت التغلب على صعوبات مثل عدم توفر بعض المواد اللازمة للتصنيع أو ارتفاع ثمنها، وعوضتها بتركيبات أقل تكلفة وبنفس الفاعلية والخصائص.
- مبادرات المهندسين والتقنيين والمختصين في التكنولوجيا
الكثير من خريجي وطلبة مدارس الهندسة والمعاهد التقنية وغيرهم شمّروا عن سواعدهم وحاولوا أن يقدموا البدائل لتوفير وسائل الوقاية من الفيروس والتجهيزات الطبية. ففي المغرب مثلاً أطلق مهندسون تجربة "الهندسة في مواجهة كوفيد-19 أفريقيا" بالتنسيق مع مهنيي الصحة وأساتذة من جامعات الدار البيضاء وطنجة، فطوروا نماذج أقنعة تحمي كامل الوجه ومكونات لأجهزة تنفس اعتماداً على السوق المحلية وعبر استغلال مكونات أقنعة وتجهيزات الغطس. وفي تونس أطلق طلبة مدارس الهندسة تحدياً لصنع نماذج أجهزة تنفس اصطناعي بإمكانيات محلية مع الحرص على الجودة والدقة، وفعلاً استطاع طلبة "المدرسة الوطنية للمهندسين بسوسة" تطوير نموذج حاز على مصادقة وزارة الصحة. وبرهنت غزة المحاصرة مرة أخرى على قوة عزيمة أبنائها وقدرتهم على استنباط الحلول، فتجندوا وتكاتفوا وتعددت مبادراتهم واختراعاتهم. بعضهم طور خوارزميات وتطبيقات لتتبع المصابين وحصر عدد الأشخاص المخالطين لهم، وهناك من عمل على تصنيع أجهزة التنفس رغم شح التجهيزات والمكونات الضرورية، وآخرون حاولوا إيجاد حلول لمشكلة النقص في أجهزة الفحص وأخذ العينات والمختبرات عبر استعمال برمجيات متطورة قادرة على تشخيصحالات الإصابة بدقة تناهز نسبتها 80 بالمئة.
---
● كل هذه المبادرات (وهذه هنا عينة صغيرة جداً) محمودة ومطلوبة، لكن هل يمكن التعويل عليها إلى ما لا نهاية؟ العديد من الخبراء يقولون أن الآثار الاقتصادية للوباء ما زالت لم تظهر بعد، وأن أصعب الأيام لم نعشها بعد، مما يعني أن الكثيرين ممن يتبرعون ويتضامنون اليوم قد لا يكون بإمكانهم الاستمرار في ذلك، بل وقد يصبح جزء منهم في حاجة إلى المساعدة والتضامن. ماذا ستفعل الدول حينها؟ هل ستفرض ضرائب استثنائية على الطبقات الأكثر ثراءً؟ هل ستتوقف عن سداد ديونها للمؤسسات المالية الدولية وتسترد أموال الشعب من الفاسدين والمتهربين ضريبياً؟
● أثبتت جائحة كورونا أن توفير الصحة مرتبط بشكل وثيق بقطاعات أخرى تبدو في الظاهر غير ذات صلة: التعليم العام الجيد أولاً، والتمكن من استبقاء المتخصصين ومنهم الأطباء والممرضين في البلاد حيث هناك نزيف هجرة هائل للخريجين بسبب سوء أجورهم أوحتى تبطلهم، السكن ثانياً وتوفر شروط حد أدنى لائقة ومنها تلك التي تخص النظافة ومساحات العيش، التغطية الاجتماعية التي تسمح لكل إنسان بالأمل بالعناية الصحية الجيدة والمجانية، العمل الذي يسمح لكل إنسان بتوفير مستلزمات العيش والتغذية الخ. وهذه "خيارات" سياسية واقتصادية واجتماعية فضح الوباء تبعات تجاهلها..
_____________
"شبكة المواقع الإعلامية المستقلة " هي إطار تعاون إقليمي تشارك فيه "السفير العربي"، "الجمهورية"، "مدى مصر"، "مغرب امريجان"، "ماشا الله نيوز"، "نواة"، "حبر" و"أوريان XXI".