فـي مسـارب وصعـوبات «العدالـة الانتقاليـة»

صدر بلاغ عن الديوان الملكي يفيد بأنه «في إطار الإنصات الدائم والعناية التي ما فتئ يحيط بها جلالة الملك كافة المواطنين المغاربة أينما وجدوا تقدم عدد من المواطنين المغاربة المقيمين في الخارج بشكاوى وذلك على إثر تعرضهم لسوء المعاملة لدى عبورهم عددا من المراكز الحدودية للمملكة. وأمر الملك بفتح تحقيق طبقا للقانون بشأن هذه السلوكيات غير اللائقة ذات الصلة بالرشوة وسوء المعاملة الممارسة من قبل عدد
2012-09-19

عبد العلي حامي الدين

أستاذ علم السياسة في جامعة الرباط، وعضو المكتب السياسي لحزب العدالة والتنمية في المغرب


شارك

صدر بلاغ عن الديوان الملكي يفيد بأنه «في إطار الإنصات الدائم والعناية التي ما فتئ يحيط بها جلالة الملك كافة المواطنين المغاربة أينما وجدوا تقدم عدد من المواطنين المغاربة المقيمين في الخارج بشكاوى وذلك على إثر تعرضهم لسوء المعاملة لدى عبورهم عددا من المراكز الحدودية للمملكة. وأمر الملك بفتح تحقيق طبقا للقانون بشأن هذه السلوكيات غير اللائقة ذات الصلة بالرشوة وسوء المعاملة الممارسة من قبل عدد من عناصر الأمن العاملين في هذه المراكز الحدودية». وأضاف البلاغ «لقد أفضى هذا التحقيق إلى توقيف عدد من عناصر الأمن والجمارك والدرك الملكي الذين سيحالون على المحاكم المختصة. وسيقوم صاحب الجلالة شخصيا بمتابعة هذا الملف٬ الذي يسيء إلى صورة المغرب والمغاربة من أجل تفادي تكرار مثل هذه الأعمال المشينة. وفي هذا الإطار انعقدت جلسة عمل بالقصر الملكي بالدار البيضاء تحت رئاسة جلالة الملك وبحضور وزير الداخلية ووزير الاقتصاد والمالية، والجنرال دوكور دارمي قائد الدرك الملكي، والمدير العام للأمن الوطني، والمدير العام للجمارك والضرائب غير المباشرة». كان ذلك في آب/اغسطس الماضي.
الإشكالية التي تطرحها مثل هذه القرارات هو مدى إمكان اعتبارها منسجمة مع الدستور المغربي المصادق عليه يوم الاول من تموز/يوليو الفائت. والمقصود بالضبط في الواقعة المذكورة: «الأمر بفتح تحقيق في سلوكيات صادرة عن عناصر أمن»، ثم «المتابعة الشخصية لجلالة الملك» وأخيراً «ترؤس جلسة عمل مع وزيرين ومديرين مركزيين»، ولا سيما أنه لم تتم الإشارة في بيان الديوان الملكي إلى الأساس القانوني لهذه القرارات التي ترتبت عنها نتائج قانونية، هي فتح تحقيق أسفر عن توقيف أشخاص من الأمن والجمارك والدرك الملكي ومتابعتهم أمام القضاء، بعضهم في حالة اعتقال. نحن أمام قرارات تكتسي من الناحية القانونية طابعا تنفيذيا/ إداريا، وأخرى ذات صبغة رمزية (المتابعة الشخصية لجلالة الملك). وبالرجوع إلى الباب الخامس الذي يؤطر مقتضيات السلطة التنفيذية، ينص الفصل 89 على ما يلي: «تمارس الحكومة السلطة التنفيذية. تعمل الحكومة، تحت سلطة رئيسها، على تنفيذ البرنامج الحكومي وعلى ضمان تنفيذ القوانين. والإدارة موضوعة تحت تصرفها، كما تمارس الإشراف والوصاية على المؤسسات والمقاولات العمومية».
ومعلوم أن رئيس الحكومة يعينه الملك من الحزب السياسي الذي تصدر انتخابات أعضاء مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها، وذلك وفق الفصل 47 من الدستور. كما ينص الفصل 90 من الدستور على أن «رئيس الحكومة يمارس السلطة التنظيمية، ويمكن أن يفوض بعض سُلطاته للوزراء. وتحمل المقررات التنظيمية، الصادرة عن رئيس الحكومة، التوقيع بالعطف من لدن الوزراء المكلفين بتنفيذها». وباستعراض بقية مقتضيات الدستور، ولا سيما مقتضيات الباب الثالث الذي يحدد اختصاصات الملك (من الفصل 41 إلى الفصل 59)، لا نعثر على الأساس الدستوري الذي يمكن الاستناد عليه لما أعلن بيان الديوان الملكي القيام به. وبالمقابل، يحق للملك ترؤس جلسة عمل مع الجنرال دوكور دارمي قائد الدرك الملكي نظرا لطبيعته العسكرية، لأنه مشمول باختصاصات الملك في المجال العسكري ومنها على الخصوص المقتضيات الواردة في الفصل 53 من الدستور. وربما يحاول البعض توظيف مقتضيات الفصل 42 من الدستور كأساس لهذه الممارسة الملكية، لكن بالرجوع إلى النص نعثر على أن الملك، «رئيس الدولة»، و«ممثلها الأسمى»، و«رمز وحدة الأمة»، و«ضامن دوام الدولة واستمرارها»، و«الحكم الأسمى بين مؤسساتها»، يسهر على احترام الدستور، وحسن سير المؤسسات الدستورية، وعلى صيانة الاختيار الديموقراطي، وحقوق وحريات المواطنين والمواطنات والجماعات، وعلى احترام التعهدات الدولية للمملكة. وهنا وباعتماد نوع من التأويل لعبارة «السهر على حقوق وحريات المواطنين والمواطنات» يمكن للملك أن يتدخل في القضايا التي تتعلق بحقوق المواطنين وحرياتهم. لكن هذا التدخل ينبغي أن يكون في نطاق الاختصاصات المحددة صراحة بنص الدستور، وهو ما أشارت إليه الفقرة الثالثة من الفصل 42 بقولها: «يمارس الملك هذه المهمات بمقتضى «ظهائر» (مراسيم ملكية)، من خلال السلطات المخولة له صراحة بنص الدستور». أما القرارات المتخذة محل المناقشة هنا، فليست مشمولة بالمهمات التي يمارسها الملك بمقتضى «ظهائر»، وبالتالي، وحتى مع اعتماد الفصل 42، فإن هذه القرارات تفتقر إلى الأساس الدستوري.
إن مثل هذه التصرفات ترتب انعكاسات قانونية وأخرى سياسية، بحيث نشعر بأن الدستور كوثيقة تتمتع بالسمو والإلزام، يتم إفراغها من محتواها الديموقراطي لتحل محلها ممارسات قديمة. من أهم الانعكاسات المباشرة لمثل هذه القرارات هي ازدواجية رئاسة السلطة التنفيذية. وهو ما يترتب عنه ازدواجية مصدر التعليمات (بين الملك ورئيس الحكومة) وإمكانية صدور تعليمات متعارضة ومتناقضة، علما بأن المسؤولية القانونية والسياسية يتحملها رئيس الحكومة. كما أن مثل هذه القرارات تشجع على تفلت الإدارة (المديرين المركزيين) من سلطة رئيسهم الدستوري (رئيس الحكومة)، وتعمل على إبطال المفعول الدستوري لاعتبار الإدارة موضوعة رهن تصرف الحكومة (الفصل 89 من الدستور). ولأن جميع القرارات الحكومية تمر عبر الإدارة، فإنها تصبح مرتهنة برغبة المديرين، وهو ما يهدد المشاريع الحكومية بالتعثر والإفشال.
والخلاصة، فلقد خص الدستور المغربي الحكومة تحت سلطة رئيسها بسلطات تنفيذية كاملة من أجل قيادة سياسة الدولة، ووضع تحت تصرفها من أجل بلوغ هذا الغرض، الإدارة. كما اختار الدستور جعل القوات المسلحة خارج إمرتها ووضعها تحت إمرة الملك، خلافاً لما هو عليه الحال في الدستور الفرنسي مثلاً، الذي لم يستثن القوات المسلحة من ولاية الحكومة ووضعها إلى جانب الإدارة تحت تصرف الحكومة.
وإذا كان المشرع الدستوري قد فتح إمكانية ترؤس رئيس الحكومة لأشغال المجلس الوزاري بناء على مقتضيات الفقرة الثالثة من الفصل 48 من الدستور (للملك أن يفوض لرئيس الحكومة، بناء على جدول أعمال محدد، رئاسة مجلس وزاري)، فإن رئاسة المجلس الحكومي ظلت اختصاصا حصريا لرئيس الحكومة، وهو ما يعني أن الوزراء يتلقون تعليماتهم من رئيسهم الدستوري، وهو رئيس الحكومة.
كما تعد «الإدارة» الأداة الرئيسة التي تمتلكها الحكومة من أجل تنفيذ سياسة الدولة. فبالإضافة إلى كونها تهيئ، تحت سلطة الحكومة، النصوص التشريعية التي تقدم إلى البرلمان، تنفرد الإدارة بكونها من يعد النصوص التنظيمية الرامية إلى تنفيذ القوانين من جهة، وتلك التي تُعنى بسن القواعد القانونية التي هي خارج اختصاص مجال التشريع، وتنظم الحياة العامة للأفراد والمؤسسات، من جهة أخرى.
وبما أن رئيس الحكومة يختص بممارسة السلطة التنظيمية ويرأس السلطة التنفيذية، وهو ما يجعل منه رئيس الإدارة بشكل طبيعي، فإن رئيس الحكومة في الدستور المغربي والأنظمة السياسية المشابهة، يكون هو مصدر العديد من النصوص التنظيمية التي تهم حياة المواطنين، أغلبها صادر على شكل مراسيم، موقعة بالعطف إن اقتضى الحال من طرف الوزراء المكلفين بتنفيذها، إعمالاً لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
كما أن انفراد رئيس الحكومة بالسلطة التنفيذية هو الذي جعل توقيعه بالعطف على الظهائر الملكية ضرورياً. إذ لولا هذا التوقيع لما أصبحت تلك الظهائر نافذة. باستثناء تلك المعفاة من هذا الإجراء الجوهري، والمنصوص عليها حصرياً في الفقرة الأخيرة من الفصل 42 من الدستور. إن الولاية الشاملة للحكومة على الإدارة، وبالتالي ولاية رئيس الحكومة، تتجلى أيضاً في سلطة التعيين التي يمتلكها الوزراء في وظائف الدولة المدنية، التي تقع ضمن نطاق وزاراتهم بما في ذلك الأمنية منها. يستثنى من سلطة التعيين هذه الوظائف العسكرية فقط، المسندة حصرياً للملك بمقتضى الفصل 53 من الدستور.
وباستثناء بعض المناصب السامية المنصوص حصراً على أن التعيين فيها يتم في مجلس الوزراء باقتراح من رئيس الحكومة، فإن كل المناصب السامية المدنية الأخرى يتم التعيين فيها من طرف رئيس الحكومة.
إن كل المعطيات تؤكد إذاً ان الوقائع المرتبطة بمتابعة رجال أمن بناء على أمر ملكي يقضي بفتح تحقيق تفتقر إلى الأساس الدستوري، وتجعل أي شطط في استخدام السلطة أثناء هذه المتابعة متفلت من إمكانية المتابعة القانونية، لأننا أمام سلطة لا تتحمل أي مسؤولية قانونية أو جنائية عن قرارات ذات طبيعة تنفيذية، وهو ما قد يؤدي إلى ضياع العديد من الحقوق وإهدارها، ويفرغ مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة من محتواه.
            
 

مقالات من المغرب

المغرب... مَن أثقلَ جيوب العيد؟

يبدو المشهد مثاليّاً، ولا شيء ينغصّه. فالملابس جديدة، والوجوه هانئة، كأن الحياة بهية والجو بديع. بل تتلوّن الجلابيب أكثر كل سنة، وتبدو أغلى تكلفة وأرفع جودة. فهل صار المغاربة أغنى،...