قبل أيام فقط، كان نادية قد ابتعثت من قبل أمها لتطالب الجارة في الطابق الأرضي بالإيجار المتأخر. كانت نادية دوماً الرسولة المفضلة لأمها. فببرودها وعدم تعاطفها، لا تستمع للأعذار المقدمة من قبل المرأة الشابة، ولا يهمها إن كان ما ستقوله مؤذياً للمشاعر أم لا. إن قالت لها المرأة لدينا أفواه كثر لنطعمها، تذكّرها نادية بأن أسعار حبوب منع الحمل أرخص من شوال السكر، وإن قالت لها أن الزوج خسر عمله بسبب الإجراءات ضد وباء كورونا، توضح لها نادية أن تكلفة القات والسجائر يومياً تساوي تقريباً تكلفة الإيجار... وعلى الرغم من أن المرأة لم تكن لتقول الكثير، إلا أن نادية كانت تعرف أنها تكرهها، لكن هذا آخر ما يمكن أن يسبّب لها الضيق. لذا حين اندفع الجميع لمساعدتها بينما كانت الشقة تغرق بمياه الأمطار، ذكّرتهم نادية أنهم كانوا على وشك أن يطردوها بسبب الإيجار، فلماذا تتلبسهم الآن روح الشهامة؟
كان الأخ مثل أمه، ينظر لنادية على أنها روح شريرة لا أمل في خلاصها أو أنسنتها. شرحت لها الأم أن هذين موضوعين منفصلين، المرأة مع أطفالها في الأسفل تطلب النجدة، والفتى لا يستطيع مساعدتها لأن الزوج غير موجود. تبقّى أن تقوم نادية وأخواتها بالمهمة. وافقت نادية كي تتجنب نقاشاً قد يطول ساعات مع أمها، وقد يؤدي لأن تخبر الأم الأخ المتسلط أن نادية تجلس بجوار النافذة. وهذا سيشعل حرباً، حيث الجلوس بجانب النافذة يعد إحدى الكبائر حتى لو كانت الستائر تحجب من في الداخل أو حتى لو كان الشارع بأكمله يغرق، لذا انصاعت صاغرة بنيّة العودة مسرعة للجلوس بجانب النافذة ومراقبة الشارع، علّها ترى السيول تجرف جثث الناس كما يُحكى كل مرة.
كورونا اليمن والراحلون بعمر الفراشات
25-04-2020
المبنى الذي يملكه والد نادية مكون من ثلاثة طوابق، الطابق الأرضي الذي لديه بابان: باب داخل العمارة نفسها، وباب منفصل للجهة الخلفية من الشارع، وهو باب واطئ يتسبب في الكارثة في كل موسم أمطار. لكن هذه المرة كانت الأسوأ. أزاحت المياه الهادرة الباب من مكانه، وكانت على وشك اقتلاعه. حاولت الأم مع أطفالها بكل الطرق إسناد الباب وصد المياه، لكن سيولاً كتلك، كان من الممكن أن تحرك الجبال من مكانها وليس فقط ذاك الباب الصدئ. في هذه المدينة، يعرف سكان البيوت الأرضية أنهم عرضة للسيول والرطوبة والبرد القارس، لكن تلك الأمكنة هي الوحيدة التي تتناسب ووضعهم الاقتصادي، رجال ونساء لم يعرفوا غير تلك المدينة، بفقرها وأوبئتها وحروبها. لذا كان سهلاً على نادية في كل مرة تطالب فيها بالإيجار المتأخر، أو بتكلفة المياه المشتراة بأن تذكّرهم بأن الناس الآخرين لديهم قرى يعودون إليها، وبالتالي تصبح حياتها وحياة كل ذوي الأملاك أسهل.
تناقلت المدينة أخبارها الحزينة، وأحصت قتلاها الذين كان أغلبهم أطفالاً. انسحبت المياه من الشوارع، وكان في مستطاع المارة سيئي الحظ مغادرة سلالم العمارات التي لجأوا إليها لساعات طويلة. تناقل الناس الأخبار عن الخسائر الرهيبة والبيوت المهدمة، وهؤلاء الذين يتفقدون محلاتهم المنكوبة وبضاعتهم التي تلفت.
تنظر نادية للمشهد متقززة. كانت مياه المجاري قد تدفقت من الحمام واختلطت بالماء القادم من الشارع، خاض الجميع فيها حتى منتصف سيقانهم، وضعت الأم أصغر الأطفال مع أخته التي تكبره بعام على سطح الثلاجة في المطبخ، بدا الطفلان مستمتعين بالمشهد من علو. يحاول الجميع تحريك الأشياء من أماكنها الأصلية لأماكن أخرى، لكن الماء كان في كل مكان. أخيراً اتفقت النساء على أن يقمن بنقل ما يمكن نقله إلى الخارج. لم تتوقف الأم عن الحركة، وهي تسعى لإعادة رسم ملامح الغرفة الوحيدة التي تنام فيها مع أولادها وأبيهم، غرفة متسعة ربما كان مخططاً لها أن تكون مخزناً أو إسطبلاً. كانت الأم تلتقط كل ما يطفو على السطح: العلب البلاستيكية، دمى بدون رؤوس، ملابس، أواني مطبخ. راقبت نادية كيف اندهشت المرأة حين فاجأتها فرشاة المكياج تطفو مع الأشياء، فالتقطتها بسرعة ناظرة إليها بمرارة. كانت نادية أيضاً قد لاحظت كيف أن الجدران نظيفة جداً، وسطح"البوتاجاز" القديم نظيف رغم كل الصدأ الذي يحيط به، وأسطوانة الغاز كانت مغطاة بمفرش مزهر ابتل حتى منتصفه.
لم تكن هناك خزانة ملابس في الغرفة ولا في الصالة، لكن نادية لاحظت أن الملابس منظومة كالورق في أكياس بلاستيكة، وموضوعة بعناية على سرير حديدي في الزاوية، لم تكن المياه قد تسلقت إلى سطحه بعد. والفتاة الصغيرة التي كانت تساعد الأم في إزاحة الأشياء، طلبت من أمها أن تعيد لملة خصلات شعرها لأنها لم تشأ استخدام يديها، كانت مشمئزة من يديها. لم تنهرها الأم كونها منشغلة، جففت يديها بملابسها وعقدت شعر الفتاة الصغيرة بتسامح.
المهمشون في اليمن.. اغتراب في أدنى الهامش
03-10-2019
نادية التي تحاول ألا تطأ الأرض الغارقة، اقترحت أن تساعد بأن تقف على الباب وأن تأخذ الأشياء خارجاً، طلبت الأم من نادية أن تأخذ الطفلين إلى منزلهم في الأعلى، كانا جافين وهادئين، طلبت الأم همساً من الفتاة التي تجلس على الثلاجة أن تعتني بأخيها، ثم ناولتها لنادية التي ذهبت بهما إلى الأعلى دون أن تتحدث إليهما. استقبلهما الأخ بحرارة وذهب بهما إلى النافذة لينظرا إلى الشارع، ومن النافذة شاهدت نادية المنظر المخيف: كانت السيارات تسبح في الطوفان غارقة تماماً في المياه الهادرة، مياه سوداء جرفت في طريقها كل ما يتحرك. صرخ الأخ مرتاعاً، بينما يشاهد كلباً يتخبط في المياه وعبثاً يحاول الصعود، جرفته المياه بعيداً عن مدى النافذة، وفي نهاية الشارع انهار جدار حديث البناء وضاعت آثاره في المياه. كان المطر قد توقف عن الهطول، لكن تلك السيول التي تجوب المدينة ستحتاج الليل بطوله لتجد موطنها عميقاً في جوف الأرض. تذكرت نادية كيف في العام الفائت اقتلعت السيول إسفلت الشوارع والأشجار التي عرفتها منذ كانت طفلة، في هذه السنة، ربما ستقتلع مبان كاملة.
في المساء، كانت المدينة قد تناقلت أخبارها الحزينة وأحصت قتلاها، الذين كان أغلبهم أطفالاً. انسحبت المياه من الشوارع، وكان في مستطاع المارة سيئي الحظ مغادرة سلالم العمارات التي لجأوا إليها لساعات طويلة، تناقل الناس الأخبار عن الخسائر الرهيبة والبيوت المهدمة، وانتشرت صور الناس يتفقدون محلاتهم المنكوبة وبضاعتهم التي تلفت، وأمام التلفاز تسمّرت الأم وبجانبها الطفلين. كانت الأم مصرة أن نشرات الأخبار لا ريب ستورد هذا في أنبائها، لكنها لم تأت على ذكر الكارثة، وحين انتهت الأم من مراهنتها كان الولد الصغير قد نام في مكانه بسكينة، لذا حين طرقت أخته الباب بشعرها المرفوع على شكل كعكة صغيرة، تسأل إن كان بإمكانها إعادة إخوتها الصغار إلى المنزل، أمرت الأم نادية أن تحمل الفتى النائم لتعيده لأمه، ومرة أخرى تنصاع نادية لتتجنب سجالاً جديداً.
تذكرت نادية كيف اقتلعت السيول في العام الفائت إسفلت الشوارع والأشجار التي عرفتها منذ كانت طفلة. في هذه السنة، ربما ستقتلع مبان كاملة.
في الأسفل كانت المياه قد انحسرت كلياً، والغرفة عادت لشكلها الطبيعي، اُستحدثت حبال غسيل جديدة ونشرت عليها كل الأشياء، والباب الذي كادت الأمطار أن تقتلعه ثُبّت من جديد، وطلبت الأم من نادية أن تخبر أمها أن تسده بالإسمنت فلا ينفتح أبداً. وعلى السرير الحديدي، كانت أكياس الملابس المرتبة ما زالت منتصبة في أماكنها، وبجانبها لاحظت نادية وجود قدمي الأب يختبئ من وجود نادية في المنزل كما يفعل عادة الرجال. قبّلت الأم طفلها النائم ووضعته بجانب القدمين، وفي منتصف الغرفة انتصبت مبخرة مزخرفة جميلة الشكل مليئة بالجمرات المشتعلة. وقبل أن تخرج المرأة لتعيد لنادية الغطاء الصغير الذي أحضرت فيه الفتى النائم، وضعت على الجمرات قطعة بخور صغيرة، تسابق دخانها مع رائحتها الجميلة. فكرت نادية أن البيت المبتل برطوبته ورائحة المياه العفنة، يجدد أنفاسه بالبخور، وبأنه أكثر دفئاً من بيتهم الواسع الجاف والدافئ.
موت
06-06-2019
نادية
14-06-2019
علي
27-06-2019
سلمى
18-07-2019
نادية: إكتشافات ما بعد الظهيرة
26-07-2019
علي: القصص الأخرى
08-08-2019
سلمى، ليالي الحب والحرب
16-08-2019
لقاء نادية بسلمى
29-08-2019
علي: البحث عن أسير
12-09-2019
سلمى: بهجة الحكاية
21-11-2019
نادية وطائر الموت
12-12-2019
حرائق
09-01-2020
سلمى: في حضرة الحقائق
01-02-2020
نادية: أشياءٌ لا تُحكى
14-02-2020
على الطريق الى الريحان
27-03-2020
سلمى: بؤس الصفيح
09-04-2020