"لا نريد حرباً في جوارنا المباشر. نريد حلاً سياسياً، وهذا الحل ممكن التحقُّق». هذا ما أشار إليه عبر الاذاعة الجزائرية، وزير الخارجية الجزائري مراد مدلسي في 19 تشرين الثاني/نوفمبر 2012. وقد اعتمد مدلسي لهجةً أكثر إيجابية بالنسبة لتراجع حظوظ الخيار العسكري في شمال مالي، وهو الخيار الذي تحثّ عليه فرنسا، وتدعمه بشكل آلي معظم دول غرب أفريقيا في مقابل تمسُّك الجزائر بـ«الحل السياسي». وقد لفت الوزير إلى أن الدول التي سبق لها أن دافعت عن خيار التدخل العسكري «بدأت بالعودة تدريجاً عن مواقفها»، مشدداً على أهمية استعداد حركات متمردة من الطوارق («الحركة الوطنية لتحرير أزواد»، و«منظمة أنصار الدين») للانخراط في حوار جدّي مع الحكومة المالية. وفي اليوم التالي، استبعد الموفد الخاص للأمم المتحدة، الإيطالي رومانو برودي، تنفيذ خيار التدخل العسكري قبل أيلول/سبتمبر 2013، عاكساً بذلك تفاؤل الوزير الجزائري. وأعلن برودي من الرباط، بعد لقاءات عقدها مع وزير الخارجية المغربي سعد الدين عثماني، أنّ «جميع الخبراء (السياسيين والعسكريين) موافقون على أن أي تدخل عسكري لا يمكن أن يحصل إلا في أيلول/سبتمبر 2013». وفي العاصمة الجزائرية، يرى بعض المراقبين، بحذر، أن الجزائر أُعطيَت مهلةً لفرض الحلّ السياسي الذي تدعو إليه، مع اعتبارهم أن النجاح ليس مضموناً بعد. وكان الوضع في شمال مالي، الذي يشهد منذ عقود عدّة تمرُّداً مزمناً لفصائل الطوارق، حيث تجذّرت مجموعات جهادية من خلال الفديات التي دُفعَت في مقابل الافراج عن رهائن غربيين، قد تدهور بشكل كبير غداة انقلاب حصل في 22 آذار/مارس 2012 في عاصمة مالي، باماكو، نفّذه ضبّاط صغار في الجيش المالي. وبعد مرور أيام على الانقلاب، وتحديداً في 30 آذار/مارس، انقضّ التنظيم الاسلامي الطوارقي، «أنصار الدين»، و«الحركة الوطنية لتحرير أزواد»، بالاضافة إلى تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي» و«جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا»، على مدينة كيدال (شمال شرق مالي)، ثمّ جاو وتومبوكتو. تفكّك الجيش المالي، وانقسمت البلاد إلى جزأين. وقد أعلنت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» في 6 نيسان/أبريل 2012، وهي التنظيم الأعرق بين الحركات الطوارقية المتمردة، والأكثر شهرةً إعلامياً، دولة الأزواد المستقلة التي لم تعترف بها أي دولة في العالم ولا حتى الدول المجاورة. غير أن «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» هٌزمَت بدورها على يد «أنصار الدين» والمجموعات الجهادية الأخرى التي طردتها من المدن. وتكشف تصرفات الاسلاميين في المناطق التي سيطروا عليها، من التعذيب الجسدي وتدمير أضرحة المرابطين في مدينة تومبوكتو، عن تشدُّد سلّط الاعلام الأضواء عليه، وهو ما تم الاستناد إليه كحجة لتبرير تدخل عسكري. ومنذ البداية، كانت فرنسا المدافعة عن السير بهذا الخيار.
إحدى نتائح حرب حلف شمال الأطلسي في ليبيا
بالنسبة إلى الجزائر، سيكون التدخل العسكري السيناريو الأسوأ الذي يمكن أن يحصل، وهو كان متوقعاً بعد الفوضى التي اندلعت في ليبيا بفعل التدخل العسكري الغربي. وقد تزوّد المتمردون الطوارق والجهاديون بشكل كبير من الترسانة العسكرية الليبية، قبل الذهاب لـ«فتح» شمال مالي. وبالنسبة للجزائريين، ليست الأزمة في هذا البلد الصحراوي الساحلي سوى نتيجة مباشرة للتدخل العسكري في ليبيا، وسيكون لأي تدخل عسكري جديد في شمال مالي، تحت شعار «الحرب الكونية على الارهاب» المزري، أثراً مزعزِعاً لاستقرار المنطقة بأكملها. أثرٌ لن تكون الجزائر بمنأى عنه، حيث يعيش سكان طوارق يرتبطون بعلاقات قربى مع طوارق مالي. وترتبط الجزائر بحدود برية مشتركة تبلغ 1.376 كيلومتراً مع مالي، وبحدود مع ليبيا يبلغ طولها 982 كيلومتراً. وقد أدّت الحرب في ليبيا إلى تعبئة عدد كبير من الجنود لمراقبة هذه الحدود. وتفرض الأزمة في مالي على الجزائر بذل جهد أكبر، فهي تنشر حوالي 35 ألف جندي على حدودها معها. وإن كان المسؤولون الجزائريون يمتنعون عن الاعتراف بذلك، فإن الصحف تكرّر بشكل دائم أن الأزمة في مالي هي نتيجة مباشرة لتدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا، ولتحوير قرارات مجلس الأمن الدولي حول ليبيا. وخلال الحرب على ليبيا، وُجّهَت إلى النظام الجزائري اتهامات دائمة لكنها ظلّت من دون إثبات، تفيد بدعمه القوات الموالية للقذافي. والرأي العام الجزائري، الذي كان متحمساً في البداية إلى جانب المتمردين الليبيين، غيّر موقفه بشكل جذري بعد تدخل حلف شمال الأطلسي الذي يكنّ له الجزائريون عداءً تاريخياً يعود إلى أيام حرب التحرير الوطني. من شأن الأزمة في مالي التسبُّب بضغوط غربية جديدة هدفها توريط الجيش الجزائري مباشرة في الأزمة.
الضغوط والاتهامات الفرنسية
اتخذت هذه الضغوط في البداية شكل التملُّق الذي كان يُترجَم بعبارة «يستحيل فعل أي شيء في مالي من دون الجزائر»، قبل الانتقال إلى اتهام الجزائر بـ«الغموض»، وصولاً إلى اتهامها بـ«التلاعب» بالمجموعات المسلحة الناشطة في شمال مالي. وقد صرح مسؤول فرنسي دون الكشف عن هويته لصحيفة «لوموند»، أنّ الجزائر «التي عانت كثيراً من الارهاب، تعتمد سياسة في المنطقة يمكن وضعها في خانة رعاية الارهاب!». وبحسب المسؤول المجهول نفسه، لو كانت الجزائر «تؤدي دوراً بنّاءً»، لكانت مشكلة الساحل «قد حُلّت سريعاً ومن دون التزام عسكري غير أفريقي». وفي مقال آخر، يتساءل مصدر في وزارة الخارجية الفرنسية، من دون الكشف عن هويته أيضاً، عما إذا كان الجزائريون يؤثرون «الاتفاق مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي على عدم الاعتداء المتبادل، عوضاً عن القضاء على هذا التنظيم». فُهم الأمر على الشكل التالي: وصلت الرسالة وتم تفكيك رموزها: المطلوب توريط الجزائر وجيشها في مستنقع حرب يستحيل الانتصار فيها. وفي السياق، راحت فرنسا تدعم خيار التدخل العسكري الأفريقي، الذي سيقتصر الدعم الفرنسي له على الجانب اللوجستي. ويشدّد جميع الخبراء العسكريين، على أنه يستحيل استرداد شمال مالي من دون تخصيص إمكانات كبيرة. يحتاج الأمر لأكثر بكثير من الجنود البالغ عددهم 3300 التابعين لـ«المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا» المدعومين من جيش ماليّ المهزوم، والذي يحتاج لإعادة البناء. بالتالي، من الواضح أن باريس، وبدرجة أقل واشنطن، ترغبان بتدخل عسكري للجيش الجزائري. الجزائر إذاً، وبعدما كانت متهمة خلال الحرب ضد ليبيا، باتت مدعوّة بشكل واضح لممارسة «زعامتها» في الساحل الصحراوي، و«تحمل مسؤولياتها» بوصفها القوة الأساسية في المنطقة. وقد استنكرت وسائل الاعلام الجزائرية، التي عكست الرفض القوي للرأي العام الجزائري لخيار إرسال قوات عسكرية خارج حدود الجزائر، «الضغوط مدَّعية الصداقة» الممارَسة على الجزائر.
رأي عام متيقِّظ
لقد استنفر عسكريون جزائريون سابقون من أجل التحذير من أي نيّة لدى السلطات بالخضوع للضغوط، وبالتورط خارج الأراضي الجزائرية. وقد أعلن الديبلوماسي الجزائري السابق، عبد العزيز رحابي، أنّ لدى بلاده كافة المبررات لكي تقلق. وقال إنّ «الحدود تشكِّل تعريفاً، جبهة عسكرية محتملة إن لم تكن نشطة. وإذا راقبنا الوضع في منطقتنا، سندرك أن الجزائر نادراً ما اختبرت وضعاً حساساً كالوضع الحالي. فحدودها غير مستقرة حالياً مع كل من موريتانيا والمغرب، وهي في حالة عداء مع مالي وليبيا. من جهة أخرى، فإنّ التنظيمات المسلحة في تلك المنطقة مجهزة ومنظمة بشكل أفضل من تجهيز وتنظيم الجيوش النظامية لبلدان الساحل الصحرواي. هذه المنظمات مموَّلة جزئياً من البلدان الغربية التي خضعت للابتزاز ودفعت حوالي 90 مليون دولار من الفديات، وهو ما يشكل حوالي 10 في المئة من موازنات مالي والنيجر». أما موقف العقيد السابق في جهاز الاستخبارات الجزائرية، محمد شفيق مصباح، فقاطع: الغربيون الذين لا يريدون الغوص في رمال الساحل الصحراوي، يودّون جعل الجزائر وشركاء أفارقة آخرين بمثابة «وكلاء» عنهم، مع احتفاظهم بسلطات الدعم اللوجيستي، والاشراف الدبلوماسي. ويشير العقيد مصباح إلى أنه «على الصعيد العملياتي، توصي فرنسا بشكل غير مباشر بعملية عسكرية، آملةً بأن تكون الجزائر المنفذة على الأرض. على المرء أن يكون غبياً لكي يتخيل أن الجزائر ستوافق، بكل خفة، على التورط بمهمة تكون فيها طرفاً مساعداً لخدمة مصالح استراتيجية فرنسية في أفريقيا». في الواقع، يعكس هذا الاستنفار الاعلامي وذلك الذي أبداه ضباط عسكريون سابقون، مقاومة قوية من كوادر النظام لأي نية حيال إرسال الفرق الجزائرية إلى مالي. ويبدو وزير الداخلية الجزائري داحو ولد قابلية حاسماً على هذا الصعيد، قائلاً إن «الجزائر لا تأمل حصول التدخل العسكري، وتفضّل الحل السياسي. إن كان الناس يرون أنه يجب إعادة بسط السلطة المركزية على شمال مالي من خلال الحرب، فستكون لذلك عواقب خطيرة للغاية...».
وقد ركّز الجهد الجزائري الرسمي على الحركات الطوارقية المتمرِّدة. وقد دُعيَت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» إلى التخلي عن فكرة دولة للطوارق، مع دعوة منظمة «أنصار الدين» إلى قطع علاقاتها مع المجموعات الجهادية. وبدا أن هذه المهمة التي قامت بها أجهزة الاستخبارات الجزائرية، قد وصلت الى نتيجة. وقد أصبح الحل السياسي الذي تنادي به الجزائر، أكثر وجاهة. لكن لم يعد بالإمكان تأجيل «التفاهم» عسكرياً مع الجهاديين طويلاً، فهم يخلقون وضعاً متوتراً يتم استخدامه كذريعة للتدخلات العسكرية. يقدّر وزير الداخلية الجزائري عدد الجهاديين بما يتراوح بين ألفَين الى ثلاثة آلاف عنصر. وفور انخراط المجموعات الطوارقية في عملية سياسية مع حكومة شرعية في عاصمة مالي، باماكو، «سيصبح القضاء على الارهاب وتجار المخدرات في شمال مالي أمراً سهلاً، لأنّه حينها، ستتمكن السلطة المركزية الماليّة الموحدة من تنسيق جهودها مع سكان تلك المنطقة للقضاء على المخرّبين وتجار المخدرات». وهكذا، فلا يستبعد الاشتراك في جهد عسكري إقليمي حالما يفعَّل مع الطوارق مسار سياسي اندماجي، الذين يجدر التذكير دوماً بأنهم ليسوا غرباء. لا تزال عملية مماثلة بعيدة عن التحقق. لكن يبدو أنه على الجزائر بذل جهود كبيرة لإنجاح خطتها، وتفادي الوقوع في الفخ المالي المنصوب لجيشها.