"كارطة تحك كارطة": تاريخ تونس عبر عملاتها الورقية..

تنطق الأوراق النقدية لكل بلد بتاريخه، او هي على الاقل تقول الرواية الرسمية لهذا التاريخ، وتحمل في ادق تفاصيلها الكثير مما يدل على الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وايضا الثقافية القائمة، أو التي يراد ابرازها. وقد توالى صدور الاوراق النقدية في تونس منذ أواسط القرن التاسع عشر، وتعددت الجهات والأنظمة السياسية المصدرة لها. ولكل ورقة حكاية.
2020-05-06

شارك
أحدث اصدارات البنك المركزي التونسي: ورقة نقدية من فئة 10 دنانير يحمل وجهها صورة الدكتورة توحيدة بن الشيخ.

في قلب أزمة وباء الكورونا، اختار البنك المركزي التونسي أن يطرح ورقة نقدية جديدة (27 آذار/مارس 2020) من فئة 10 دينار. وعلى الرغم من التوقيت الغريب، فإن الإصدار الجديد لقي قبولا حسنا واهتماما خاصا، إذ تم وضع صورة الدكتورة توحيدة بن الشيخ (1909-2010) وهي أول تونسية تحوز على شهادة البكالوريا، وكذلك أول طبيبة في منطقة المغرب العربي، ومن أوائل النساء اللاتي عملن في طب الأطفال وكذلك طب النساء والتوليد، كما لعبت دورا كبيرا في وضع برنامج وطني للتنظيم العائلي في تونس وإحداث أقسام التوليد وتطويرها. واعتبر إصدار هذه الورقة في هذا الوقت بالذات بمثابة تكريم مزدوج: لتوحيدة ومن ورائها كل الرائدات التونسيات، وكذلك لقطاع الصحة (وأغلب العاملين فيه من النساء) بحكم موقعه في الصف الأول لمجابهة الوباء.

وتأتي هذه "الورقة بو عشرة لاف" أو "الكارطة بو عشرة لاف" (التسميات الشائعة في تونس) بعد مرور 173 سنة على إصدار أول عملة ورقية في تاريخ تونس. وما بين الورقتين أصدرت عشرات الأوراق وتغير اسم العملة وشكلها مرارا، وتعاقبت الأنظمة السياسية وتطورت الأنماط الاقتصادية. بعض هذا التاريخ منقوش على وجوه وظهور العملات الورقية، إذا ما تمعنا جيدا في التفاصيل..وهل من وقت مناسب لذلك أكثر من هذه الفترة التي تغيرت فيها علاقتنا بالنقود، معدنية كانت أو ورقية، وصرنا ننتبه لها ونركز معها أكثر من ذي قبل. فلقد أصبحت أسطحاً خازنة وناقلة لفيروس كوفيد-19، وصرنا نعقمها ونتعامل معها بحذر مضاعف، مرة عند لمسها خوفا من العدوى، ومرة أخرى عند صرفها خوفا من شح المال و"وقف الحال"..

في البدء كانت "دار المال"..

أصدرت أول عملة ورقية في تونس سنة 1847 بأمر من حاكم البلاد المشير "أحمد باي" (حكم بين 1837 و1855) وبموافقة السلطان العثماني "عبد المجيد الأول"، فتونس كانت وقتها إيالة عثمانية حتى وان كان حكامها (العائلة الحسينية) يتمتعون باستقلالية شبه كاملة عن "الباب العالي". وكانت هذه الورقة من فئة 50 ريال تونسي بسيطة التصميم ولا تشبه كثيرا العملات الورقية كما نعرفها حاليا: فقط القيمة المالية و"الأمر العلي" والتاريخ وختم "الباي" واسمه.

وجاء إصدار هذه العملة الورقية في انسجام مع مشروع عصرنة الدولة الذي كان يقوده "أحمد باي". فلقد كان هذا "الباي" منبهرا بالدول الأوروبية، خاصة فرنسا، وأراد أن يقتدي بها في بناء مؤسسات ودواوين عصرية. فأنشأ مدرسة حربية عصرية وأدخل تغييرات في أنظمة التعليم وشجع على تطوير الصناعة وكذلك أمر بإنشاء "دار المال" التي ستصدر أول عملة ورقية تونسية. لكن كل هذه المشاريع الطموحة (وبعضها تبذير صرف) كانت تفوق إمكانيات البلاد- الفلاحية اساسا- مما دفع "أحمد باي" إلى التداين والاقتراض من المصارف الأوروبية، وكذلك سيفعل البايات الذين سيأتون من بعده والذين سيعولون أيضا على الجباية النشطة.

أول عملة ورقية تونسية، 50 ريال، طبعت سنة 1847.

لم تعمر "دار المال" طويلا ولم تصدر عملات ورقية أخرى، فلقد أفلست واغلقت سنة 1852 بعد واحدة من أكبر فضائح الفساد والإختلاس في تاريخ تونس. فخلال تلك الفترة تآمر كل من وكيل دار المال "محمود بن عياد" (من كبار التجار) وقابض أموال الدولة "نسيم شمامة" ووزير المال "مصطفى خزندار" واختلسوا أموال الخزينة العمومية وهربوها إلى الخارج (تقاليد عريقة!) مما جعل البلاد تغرق في الديون وترزح تحت ضغوط الدائنين الأوروبيين. وفي سنة 1869 خضعت الدولة تماما بقبولها لجنة "كوميسيون مالي" أحدثتها دول أوروبية لمراقبة المالية التونسية وتنظيم استخلاص الديون (مما يذكرنا بمؤسسات وممارسات دولية معاصرة). فقدان السيادة المالية كان الخطوة الكبيرة التي مهدت لفقدان السيادة الكاملة في 1881. لقد كانت ورقة نقدية "مشئومة"..

ثم جاء الإستعمار..

في 12 آيار/مايو وقع حاكم البلاد "محمد الصادق باي" وحكومة فرنسا "اتفاقية باردو" التي صارت تونس بموجبها "محمية فرنسية" ("اسم دلع" للإستعمار). نظريا، لم يقع إلغاء السيادة التونسية تماما كما حدث في الجزائر ومستعمرات أخرى، فحسب بنود المعاهدة تتوزع السلطة بين "البايات" وممثلي الدولة الفرنسية، لكن في حقيقة الأمر صار "المقيم العام" الفرنسي هو الحاكم الفعلي للبلاد. ولعل تغيير عملة البلاد واسمها سنة 1891 من الريال إلى الفرنك التونسي (على اسم العملة الفرنسية) من أول الأمثلة على هذا الأمر. حتى العملات المعدنية الجديدة (الفضية والذهبية) كانت تصك في فرنسا، وتحمل على الوجه نقوشا بالأحرف اللاتينية مع عبارة Protectorat Français (اي "نظام الحماية الفرنسي") وتاريخ الإصدار بالتقويم الميلادي والأرقام العربية-المغربية، وعلى الجهة الأخرى اسم باي تونس وصفته وتاريخ الإصدار بالتقويم الهجري والأرقام العربية-المشرقية (الهندية).

بداية من 1904 ، شرعت السلطات الإستعمارية في ضخ واستعمال الأوراق النقدية في تونس ، ولكن دون انشاء عملة ورقية أو مؤسسة مالية خاصة، اذ ظلت تونس، إلى حدود سنة 1949 ، تعتمد على الأوراق النقدية (الفرنكات) التي يصدرها "بنك الجزائر" المرتبط بالبنك المركزي الفرنسي. لكن كان يتم إضافة إسم البلاد بالفرنسية (Tunisie) على جانب وجه الورقة أو أسفله، دون أي إشارة للبايات والسلطة المحلية. في سنة 1949 سيتم تغيير اسم "بنك الجزائر" ليصبح "بنك الجزائر وتونس"، مما يعكس الوضع الحقيقي لتونس في عيون الفرنسيين: مستعمرة ومقاطعة فرنسية مثلها مثل الجزائر، لا مجرد "محمية" مؤقتة.

وهناك استثناء وحيد في هذه المسألة، اذ قررت فرنسا منذ سنة 1915، أي مع بداية الحرب العالمية الأولى، إصدار أوراق نقدية منخفضة القيمة (نصف فرنك، 1 فرنك و2 فرنك) خاصة بتونس فقط، وتصدرها مطابع خاصة لا البنك الفرنسي المركزي أو "البنك الجزائري"، وذلك بهدف تعويض النقص الحاصل في الأوراق البنكية "الرسمية". ونجد على ظهر كل واحدة من هذه الورقات بعضا من "السيادة" فهي تحمل عبارة Régence de Tunis (إيالة تونس) وختم "الباي" وكذلك تاريخ الإصدار بالتقويم الهجري و"الأمر العلي" القاضي بإصدارها وعقوبة من يقوم بتدليسها. لكن طبعا، كان النص الفرنسي يستبق النص العربي، وفي الأسفل تذكير بالواقع، حيث نجد عبارة Protectorat Français (اي نظام الحماية الفرنسي).

عملات ورقية استعملت في تونس خلال فترة الإستعمار الفرنسي (1881-1956).

وعلى اختلاف الجهات المصدّرة للعملات في تونس خلال الحقبة الإستعمارية، فإن الأوراق النقدية الرائجة كانت في أغلب الأحيان تحمل آثار الايدولوجيا الاستعمارية من استشراق وعنصرية واحتقار لثقافة وتاريخ المستعمرات. فإما نجد رموزا وشخصيات من الحضارة والثقافة والميثولوجيا الغربية القديمة أو الحديثة، أو صورا لعائلة من المستوطنين السعداء بالأرض التي اغتصبوها من اصحابها الحقيقيين. وعندما يتعلق الأمر بالثقافة المحلية فلا نجد إلا الصحراء وواحات النخيل و"سكان اصليين" بملابس تقليدية من القرون الوسطى. لا وجود للمؤسسات والمدارس والمشافي والأسواق والدواوين وكل ما بناه أصحاب الأرض قبل قدوم الاستعمار، وهذا طبعا لتبرير الاحتلال والتعظيم من شأن "المهمة الحضارية للرجل الأبيض". حتى عندما يتعلق الأمر بوضع صورة آثار محلية على الورقات النقدية فهي تكون في أغلب الأحيان رومانية..

تونس تسترد سيادتها على الأوراق..

استقلت تونس عن فرنسا في آذار/ مارس 1956، وبعدها بسنة ألغى المجلس القومي التأسيسي النظام الملكي وأعلن الجمهورية التونسية، وكان الحبيب بورقيبة أول وأكثر من ترأسها. سعت الجمهورية الناشئة لإثبات وجودها وسيادتها، وكان من الطبيعي أن تبني مؤسسة مالية سيادية وعملة وطنية جديدة، فتم إنشاء "البنك المركزي التونسي" في ايلول/سبتمبر 1958 وإلغاء الفرنك التونسي واستبداله بالدينار التونسي في تشرين الثاني/نوفمبر 1958. وفي السنة نفسها أصدر البنك المركزي ثلاثة أوراق نقدية: نصف دينار، دينار واحد وخمسة دنانير. صورة بورقيبة حاضرة على وجه كل واحدة من هذه الأوراق (وستبقى كذلك في كل الأوراق التي أصدرت خلال فترة حكمه). وأصبحت اللغة الرسمية، أي العربية هي المستعملة في كتابة مختلف التفاصيل الواردة على وجه الورقة (الفرنسية في الظهر) التي يعتليها اسم "البنك المركزي التونسي". أما الأرقام المستعملة فهي العربية-المشرقية في الوجه والعربية-المغربية في الظهر، ثم اصبحت الأرقام العربية-المغربية هي المستعملة في الجهتين ابتداء من 1962. وتتالت اصدارات البنك المركزي التونسي في 1965 و1969 و1972 و1973 و1980 و1983 و1986.

أوراق نقدية صادرة خلال فترة حكم الرئيس الحبيب بورقيبة (1957-1987).

خلال فترة الستينات كانت "تيمات" الفلاحة حاضرة بقوة في تصميم الأوراق النقدية، فنجدتقريبا في كل ورقة صورا للأشجار (زيتون، حمضيات،نخيل) والسدود، وكذلك الأدوات والآلات الفلاحية مثل المحراث التقليدي والجرار العصري وغيرها. وفي الفترة نفسها بدأت "ثيمات" أخرى تظهر على أوجه وظهور الأوراق النقدية لها علاقة بالتصنيع والمشاريع الكبرى التي أقرتها مخططات التنمية: شركة الصناعات الكيميائية في صفاقس ومحطة تكرير البترول في بنزرت.

مقالات ذات صلة

في آخر ذلك العقد أصدر البنك المركزي أول ورقة نقدية من فئة 10 دنانير وتزامن هذا الإصدار مع انهاء الدولة لتجربة الاقتصاد التعاوني (التعاضديات، اشتراكية الدولة)، التي استمرت بين 1964 و1969 وتبعها نهج الانفتاح الاقتصادي. في فترة السبعينات سيتركز الاقتصاد التونسي على الصناعات الخفيفة والإنتاج الفلاحي المعد للتصدير والسياحة والأنشطة الطاقية والمنجمية، كما ستمضي الدولة في تطوير التعليم بمختلف مراحله. وسنجد آثارا للاختيارات الاقتصادية-الاجتماعية الجديدة على أسطح الأوراق النقدية الصادرة في سبعينات وثمانينات القرن الفائت. فالكثير منها يحمل صور مناطق سياحية مثل مدينة المنستير (مسقط رأس بورقيبة) ومدينة سوسة و"محطة قربص"، ومنشئات صناعية وحقول نفط ووسائل نقل وطلبة وحرفيين، الخ. ولم يصدر البنك المركزي ورقة من فئة 20 دينار إلا في السنوات الأخيرة من حكم بورقيبة والتي تميزت باحتقان سياسي كبير وأزمة اقتصادية عميقة، حيث تتالت الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية.

ويحضر تاريخ البلاد (القديم والوسيط والحديث) بقوة في مختلف اصدارات البنك المركزي، مع هيمنة للآثار والمعالم الرومانية والقرطاجية مقارنة بالآثار العربية الإسلامية والعثمانية.

قتل الأب..

جريا على نهج التقاليد العريقة في الديكتاتوريات والتي تقضي بأن يقوم الديكتاتور الجديد بتصفية كل آثار سلفه، سعى زين العابدين بن علي اثر انقلابه على بورقيبة ووصوله إلى السلطة في 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 1987 إلى إرساء "عهد جديد" على أنقاض القديم. وطبعا كان لا بد من "تطهير" الإدارة والحزب الحاكم ووسائل الإعلام وحتى الفضاء العام من الأشخاص والرموز المرتبطة ببورقيبة. ولم تسلم الأوراق النقدية من حملات التطهير هذه.

وبالتزامن مع الذكرى الخامسة "للتحول المبارك" (كما كانت تسمى ذكرى الانقلاب)، اي في سنة 1992، بدأ البنك المركزي في إلغاء بعض الأوراق النقدية مثل فئتي 1 دينار ونصف دينار (هناك ايضا مبررات اقتصادية لهذا القرار)، وإصدار أوراق جديدة من فئات 5 و10 و20 دينار بدلا عن تلك التي طبع عليها "رأس بورقيبة". كما اصدر البنك المركزي أوراقا من فئات لم تكن موجودة من قبل مثل ورقة 30 دينار في 1997 ، وورقة 50 دينار في 2009. ويبدو ان إصدار هذه الفئات الجديدة جاء بسبب ارتفاع قيمة المعاملات المالية في البلاد في سنوات 1990، وارتفاع نسب التضخم بداية من مطلع الألفية الثالثة.

أوراق نقدية صادرة زمن حكم زين العابدين بن علي (1987-2011).

و"تعفف" بن علي، الذي وعد بإرساء نظام ديمقراطي عندما وصل إلى الحكم (الكل يعرف بقية الحكاية)، عن وضع صورته على وجوه الأوراق النقدية الجديدة، بل اختار ان توضع صور شخصيات تاريخية مثل "حنبعل" (فئة 5 دنانير) و"عبد الرحمان ابن خلدون" و"عليسة" (فئة 10 دنانير) و"خير الدين الباشا" (فئة 20 دينار) و"ابو القاسم الشابي" و"ابن رشيق القيرواني" (فئة 50 دينار). لكنه لم يرحم ظهور هذه الأوراق، التي أثقلها بالدعاية الفجة لنظامه وانجازاته الاقتصادية و"نظرته الإستشرافية". فنجد على ظهر كل ورقة نقدية صدرت في عهد بن علي تاريخ "7 نوفمبر 1987" وعبارات متكررة في الخطاب الرسمي مثل "المصالحة الوطنية" و"دولة القانون" و"تونس فوق كل اعتبار" ومعها رسومات رديئة الذوق وفقيرة الخيال. كما ركز مصممو الأوراق الجديدة على الدعاية لانخراط نظام بن علي في الثورة الرقمية وتشجيعه للبحث العلمي والتكنولوجيات الجديدة وعصرنة الصناعة والنقل.

من الجانب التقني، كانت الأوراق النقدية الصادرة في عهد بن علي أصغر حجما وأكثر جودة و"أمنا" من تلك التي أصدرت في عهد بورقيبة.. لكن الكثير من التونسيين يرون انها أيضا أقل "بركة"...

انتفاضة 2011: تغيير آخر في/على الورق..

اثر سقوط الديكتاتورية في كانون الثاني/ يناير 2011، بعد انتفاضة كانون الاول/ ديسمبر 2010، وبداية "المسار الديمقراطي الانتقالي"، شرعت مؤسسات البلاد في التخلص من رموز ورمزيات "العهد البائد". أما تصفية ارثه الاقتصادي-الاجتماعي الكارثي فتلك مسألة أخرى. وكان من الطبيعي أن يتم التفكير في تغيير الأوراق النقديةولو تدريجيا، بما تحمله من جرعات بروباغاندا عالية التركيز. ففي سنة 2011 تم تعديل الأوراق من فئة 20 دينارا، اذ بقيت صورة "خير الدين باشا" على وجه الورقة لكن مع تغيير التفاصيل التي تظهر خلفه: فتم استبدال مسجد "سيدي محرز" (العاصمة تونس) بصورة "قصر أولاد سلطان" (ولاية تطاوين) وهو نموذج عن المعمار البربري الشائع في الجنوب التونسي. كما حذفت الحمامة التي كتب على جناحها "7 نوفمبر" من ظهر الورقة واستبدلت بصورة "المعهد الصادقي" الذي لعب دورا كبيراً في انتاج النخب التونسية منذ أواسط القرن 19. كما تغيرت الأوراق من فئة 50 دينار بحذف الرموز "النوفمبرية" من الظهر مقابل الإبقاء على الوجه كما هو. ويسعى البنك المركزي حاليا لسحب هذه الورقة النقدية نهائيا، عملا بنصائح خبراء اقتصاديين ورضوخا لضغوط كبار رجال المال والأعمال. فهذه الورقة - الأكبر قيمة والأكثر شحا في السوق- هي المفضلة لدى المهربين و"المستثمرين" في الاقتصاد الموازي والمتهربين ضريبيا.

وفي 2013 تقرر سحب الأوراق النقدية من فئة 30 دينار من التداول نهائيا، ليس فقط بسبب رموز "ديكتاتورية" تحملها على ظهرها بل كذلك لعدم جدواها وضعف الإقبال عليها. كما تم تغيير ظهر الأوراق من فئة 5 دنانير وسحب ورقتين من فئة 10 دنانير (ابن خلدون وعليسة) صادرتين في عهد بن علي واستبدالهما بورقة جديدة من الفئة نفسها تحمل صورة أبو القاسم الشابي.

بعدها بأربع سنوات، اي في 2017، تقرر سحب الأوراق النقدية "النوفمبرية" من فئة 20 دينار (خير الدين باشا) واستبدالها بإصدار جديد يحمل صورة المناضل السياسي والنقابي "فرحات حشاد" (1914-1952) الذي اغتالته منظمة "اليد الحمراء" الفرنسية الإستعمارية. واعتبرت هذه الورقة رد اعتبار لشخصية وطنية لعبت دورا بارزا في الحركة الوطنية والعمالية التونسية. وهناك من رأى فيها استرضاء لقيادة "الاتحاد العام التونسي للشغل" وكسبا لودها نظرا لنفوذها السياسي المتعاظم منذ 2011.

صورة الزعيم الوطني والنقابي التونسي فرحات حشاد على ورقة نقدية من فئة 20 دينارا، إصدار 2017.

أحدث الأوراق النقدية هي تلك التي تحمل صورة الدكتورة توحيدة بن الشيخ. وهي ليست أول واحدة تظهر عليها صورة امرأة تونسية كما يقول الكثيرون، بل سبق ان ظهرت صورة الممثلة "أنيسة لطفي" على عملات ورقية ونقدية "بورقيبية" أصدرت في سنوات 1970، لكن كرمز للمرأة التونسية لا بصفتها الشخصية. ومسألة المرأة وتحررها وتمكينها كانت ومازالت قضية حاضرة بقوة في الخطاب السياسي، سواء الرسمي قبل الثورة أو الحزبي بعدها، وهي "منطقة اشتباك" بين "الحداثيين" و"الإسلاميين"، خاصة في فترات الحملات الانتخابية...

وعلى اختلاف جنس وصفة وتاريخ ومآثر وخلفية كل واحدة من الشخصيات التي زينت الأوراق النقدية التونسية في كل المراحل، فاغلبها يحظى بالإجماع نظرا لارتباطها ب"سردية وطنية" رسمية رسختها مناهج التعليم والخطاب السياسي والإعلامي منذ استقلال البلاد. فهل سنرى يوما صوراً لأدباء وفنانين متمردين وسياسيين عارضوا الديكتاتورية وقادة الانتفاضات الإجتماعية في القرن التاسع عشر وزعماء وطنيين ونقابيين "غير مرضي" عنهم واهملتهم كتب التاريخ الرسمية...

ختاما

عشرات العملات الورقية* مرت على جيوب التونسيين-بتفاوت كبير في سرعة وحجم التدفق- عبر الفترات المختلفة من تاريخهم الحديث. ولكل ورقة حكاية وظروف ولادة وموت. مهما كانت التفاصيل صغيرة أو "غير مهمة" فهي لها دلالاتها الاقتصادية-الاجتماعية والسياسية والإيديولوجية، سواء تعلق الأمر بكلمة أو رقم أو زخرف أو توقيع أو صورة..

يتحدث اليوم الكثير من الخبراء الاقتصاديين عن ضرورة تسريع مسار رقمنة الإقتصاد والمعاملات المالية وتقليل الاعتماد على "الكاش" عبر "دمقرطة" آليات ووسائل الدفع والاستخلاص عن بعد. وهناك أيضا المتحمسون للعملات الرقمية الافتراضية الذين يعتبرون انها مستقبل المعاملات المالية.

.. قد تختفي العملات الورقية في مرحلة ما، ولكنها ستبقى "شاهداً على العصر" و جزءاً من الذاكرة الجماعية. وفي انتظار"انقراضها"، ستظل حمالة أوجه بالمعنى الحقيقي والمجازي. فمهما كانت الشيكات والتحويلات البنكية والعملات الرقمية عملية وناجعة، فإنها لا توفر فعلاً "الإحساس" نفسه لتداول الأموال نقدا، أو كما يقول التونسيون "كارطة تحك كارطة"..

______________

*لمعرفة المزيد عن العملات الورقية والمعدنية التونسية يمكن الإطلاع على مجموعة مقتنيات متحف العملة أو زيارة هذا الموقع.

مقالات من تونس

للكاتب نفسه