الجـــزائـــر: وقائع انعدام الاستقرار

بعدما انتهت أزمة الخطف الجماعي للرهائن في حقل تيغنتورين إين أميناس بحصيلة بشرية ثقيلة، يتساءل الجزائريون: هل حان دور بلدهم في لعبة إعادة التقسيم العنفية التي يقودها الغربيون منذ عقدين في العالم العربي؟ ينتاب الجزائريين القلق إزاء الضعف السياسي لنظامهم التسلّطي الذي قد يشارك في هذه اللعبة من أجل المحافظة على نفسه، بدلا من انخراطه في عملية إصلاح ديموقراطي داخلي باتت «حاجة ملحّة من أجل الأمن
2013-01-23

الأخضر بن شيبة

كاتب من الجزائر


شارك
| en
إحدى ضحايا التهجير الداخلي في مالي (أ ف ب)

بعدما انتهت أزمة الخطف الجماعي للرهائن في حقل تيغنتورين إين أميناس بحصيلة بشرية ثقيلة، يتساءل الجزائريون: هل حان دور بلدهم في لعبة إعادة التقسيم العنفية التي يقودها الغربيون منذ عقدين في العالم العربي؟ ينتاب الجزائريين القلق إزاء الضعف السياسي لنظامهم التسلّطي الذي قد يشارك في هذه اللعبة من أجل المحافظة على نفسه، بدلا من انخراطه في عملية إصلاح ديموقراطي داخلي باتت «حاجة ملحّة من أجل الأمن القومي».
وصلت الحصيلة الرسمية لعملية خطف الرهائن حتى يوم الاثنين الماضي، على يد مجموعة جهادية «متعددة الجنسيات» في حقل تيغنتورين للغاز، إلى مقتل 23 رهينة و«تطهير» 32 إرهابياً. ويُخشى أن تكون حصيلة الخسائر البشرية أكبر، على ضوء المعلومات التي ترددت عن العثور على 25 جثة مجهولة الهوية في الحقل في منطقة إين أميناس الواقعة على بُعد 100 كيلومتر من الحدود مع ليبيا. وفي حين لم تنتهِ السلطات الجزائرية بعد من احتساب الخسائر البشرية، والتأثير الاقتصادي لهذا الهجوم الذي يمسّ قطاعاً مركزياً في الاقتصاد الجزائري، تُطرَح أسئلة خطيرة: كيف ولماذا تمكّن الارهابيون «تقنياً» من الوصول إلى حقلٍ يُفترَض به أن يكون متمتعاً بحماية شديدة؟ أما سياسياً، فتتمحور التساؤلات حول السياسة الخارجية للجزائر، وحول علاقات هذا البلد مع القوى الغربية التي انخرطت بشكل هجومي في حروب من أجل الدفاع عن تفوّقها السياسي ــ الاقتصادي المهدَّد بفعل صعود المارد الصيني.

أين تكمن الثغرة؟

على الصعيد «التقني»، يدرك معظم الجزائريين أن الهجوم الذي قامت به القوات الخاصة للجيش الجزائري كان حتمياً. وبحسب هؤلاء، فإنّ القوات الجزائرية الخاصة تفادت بعمليتها، الأسوأ، نظراً للوضع القائم، أي بوجود حوالي 700 رهينة، وحقل نفطي بين أيدي الجهاديين. من وجهة النظر تلك، تمّ تفسير الانتقادات التي وجّهها الاعلام الغربي للأساليب التي وصفها بـ«العنفية» للجيش الجزائري، من زاوية سياسية، على اعتبار أنّها عبارة عن ممارسة للضغط على الحكومة الجزائرية بهدف لجمها واخضاعها، لتوريطها أكثر في العمليات الحربية الجارية في منطقة الساحل الأفريقي.
وفي الواقع، ليست الإدارة الجزائرية لعملية خطف الرهائن، بحد ذاتها، ما يثير النقاش في أوساط الجزائريين. فبالنسبة لهؤلاء، الأسوأ من ذلك هو أن الجهاديين تمكنوا من الوصول إلى حقل الغاز. وذلك «فشل أمني» كبير. فشلٌ مقلقٌ لأنّ النظام الجزائري نفسه كان أول مَن حذّر من الأثر المزعزع للاستقرار الذي يمكن ان تتسبب به حرب القوى الغربية على ليبيا لإزاحة القذافي. هذا بينما النظام الجزائري مشلول بهمّه الأكبر، أي الحفاظ على نفسه وسلطته من خلال رفضه الانخراط في الاصلاحات الديموقراطية الحقيقية، والرهان عن مدى نفعه للدول الغربية. وقد رُبطَ  تطوّر الأوضاع في منطقة الساحل الأفريقي، أي انهيار الجيش المالي في شمال البلاد، وسيطرة المتمردين والجهاديين على مساحات شاسعة منها، مباشرةً بالحرب الغربية في ليبيا. ذلك أنّ ترسانات الأسلحة الليبية فُتحَت أمام «تسوق» مجموعات الطوارق المتمردة والجهاديين. لماذا لم تترجَم هذه القراءة التحليلية الدقيقة والمقلقة التي قدمها المسؤولون الجزائريون بإجراءات أمنية أكثر حزماً، وبيقظة أكبر؟ بالطبع، لهذا السؤال طابع «تقني»: لم يكن حرّاس حقل الغاز مسلّحين، وهو ما سمح للجهاديين باحتلاله بسهولة. هنا يُطرح سؤال «تقني» آخر: الوضع خطير منذ أشهر في منطقة الساحل، والتدخل العسكري الفرنسي في مالي يزيد من وتيرة المخاطر. ويتفاقم ذلك مع إعلان وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس أنّ الجزائر سمحت بـ«تحليق غير محدود» للطائرات العسكرية الفرنسية، وهو اعلان احرج السلطات الجزائرية التي كانت بغنى عن مثل هذه الدعاية.
بطبيعة الحال، تفترض طبيعة الهجوم على حقل تيغنتورين أنها قد سبقتها فترة تحضير طويل، لكن فابيوس، من خلال «توريط» النظام الجزائري بشكل علني، جعل الجزائر هدفاً «مؤكَّداً»، بينما لم تكن قبل ذلك سوى هدف محتمل. لقد شعر الكثير من الجزائريين بالصدمة وبالغضب لمعرفتهم أنّ المقاتلات الفرنسية تجوب الأجواء الجزائرية. ذلك أن «الذاكرة» الجزائرية عن «الاعمال التمدينية» التي قام بها الجيش الفرنسي خلال حرب التحرير الوطنية، لا تتقبل عودة مماثلة للطيران الحربي الفرنسي إلى الأجواء الجزائرية، حتى ولو كان هدف هذا التحليق شنّ حرب خارج الجزائر. وما أثار المزيد من غضب الجزائريين، تلقّيهم هذا الخبر من الوزير الفرنسي، في حين أنّ المسؤولين الجزائريين لم يخبروهم بشيء. ويجسد هذا السماح الجزائري تنكُّراً للسياسة الجزائرية الرسمية التي ظلّت تكرّر منذ أشهر، أنّ تدخلاً عسكرياً في مالي ستكون له آثار عكسيّة ومزعزعة للاستقرار. ثم إن فابيوس باعلانه ذاك ورّط الجزائر مباشرة في الحرب. وبالنسبة للعديد من المحللين، فإنّ تنكُّر السلطات الجزائرية لموقفها السابق، وانحيازها إلى صفوف الحرب، هما علامتان مقلقتان تؤشران إلى «الضعف السياسي» للنظام الجزائري. كان الموقف الجزائري صائباً، لكنّ الهمّ الأكبر بالنسبة للمسؤولين الجزائريين، أي المحافظة على النظام القائم بدلا من إصلاحه، قد جعل هذا الموقف في النهاية في وضع يستحيل الدفاع عنه. إنّ تسلسل الأحداث، من «هجوم» الجهاديين في جنوب مالي (وهو من وجهة النظر الاستراتيجية حركة عبثية، تمّ استخدامها في الوقت المناسب كمبرّر لتدخل عسكري فرنسي يتم التحضير له منذ أشهر)، وصولاً إلى الهجوم الارهابي ضد حقل الغاز الجزائري، يعرّي ضعف الدولة الجزائرية. وهو ضعف يعود بشكل أساسي إلى الطبيعة الاستبدادية لهذه الدولة. هكذا يمكن التخلي عن تحليل صائب، لأن النظام الجزائري، شأنه شأن الكثير من الأنظمة العربية الاستبدادية، يستمدّ جزءاً كبيراً من «مشروعيته» من وظيفة «حراسة» الأسوار التي يعرض تأديتها لمصلحة «المركز» الغربي.

نظام يمكن التحكُّم به.. لكنه بلد معادٍ

يقوم محلّلون جزائريون منذ أشهر بنوع من التسجيل لوقائع حملة كبيرة هادفة إلى التلاعب بقرار بلدهم. ويعرب هؤلاء المحللون عن قلقهم أيضاً من أن السياسة الجزائرية غامضة، يقودها رئيس بات نشاطه محدودا، حتى ولو أنه لا يزال راغباً على ما يبدو بالتجديد، ويعمل للحصول على «الموافقة» الغربية لولاية رئاسية جديدة، في مقابل «مساهمة» جزائرية في المناورات العسكرية الجارية في منطقة الساحل الأفريقي. وهذا، بحسب بعض المحللين، أحد عناصر الضعف السياسي للنظام الجزائري. إنها لعبة خطيرة تصل نيرانها في النهاية إلى الجزائر. وقد ساءت الأوضاع بفعل عجز النظام وجموده، حيث ان المسؤولين ليسوا محكومين بأي التزام تجاه المواطنين. «بالنسبة للغربيين، تشكل الجزائر حالة مفارِقة، بين نظام تجعله نقاط ضعفه العضوية عُرضة للتلاعب به من جهة، وبلد معادٍ بعمق من جهة ثانية. نحن هنا أمام ميدان للمناورات، والحيل القذرة التي لا يمكن تفاديها إلا إذا تصالح النظام السياسي الوطني مع البلاد». تقدّم الصحافية لينا عزيزي وصفاً دقيقاً عن الوضع العام: «يدرك علماء السياسة الأمر جيداً. الدولة التي تكون مؤسساتها غالباً مجرّد واجهات، لا يتم فيها وضع الأشخاص الذين يقع عليهم عبء المسؤوليات أمام متطلبات كبيرة. إنّ الأشخاص الذين يمتلكون المؤهلات التقنية ينتظرون الضوء الأخضر من السياسيين، غير الموجودين أصلاً، بما أن القرار السياسي غير متوفر في الواقع إلا في إطار ضيّق للغاية (...) وهنا تكمن المشكلة الخطيرة. إنّ إلغاء حياة سياسية جدية، حيث تتم مناقشة مسائل وطنية بشكل جدي، أصبح مشكلة بالغة الخطورة. لم يعد الاصلاح الديموقراطي ترفاً، بل ضرورة من ضرورات الأمن القومي. ذلك هو الدرس الصحيح لمأساة حقل عين أميناس. الحادثة هي نقطة نظام بالنسبة للأمة الجزائرية. وهناك خطر من أن تصبح نقطة قطيعة إذا تركنا أنفسنا نتورط في الألعاب التي يخطط لها الآخرون».
وفي إطار مشابه، يستعيد كاتب افتتاحية صحيفة «وهران» اليومية، الأسئلة الخطيرة المطروحة في الجزائر: «عن أي مصلحة علينا أن ندافع؟ هل نوعية مؤسساتنا ــ ديموقراطيتها، وفعاليتها ــ تسمح بحماية البلد بطريقة ذاتية في مناخ معقّد، فنتصدى لحماية مصالحنا من دون أن نصبح وكلاء أو مساهمين في لعبة إعادة تقسيم مقررة من الخارج، وذلك خدمةً لمصالح ليست خاصة بنا؟». ورداً على افتتاحية صحيفة وهران، يثير الشيوعي المخضرم الصادق هجريس مسألة «الفشل الذي غالباً ما يتم إخفاؤه للاستراتيجية الجزائرية الشاملة، المشلولة بفعل الخطيئة الأصلية، والتي تفتقد منذ الاستقلال إحد المكونات والدعائم الأساسية، اي التوافق واللحمة والدعم الوطني. وتنص هذه الاستراتيجية الشاملة على حد أدنى من الاصلاح الديموقراطي والمشاركة في الرأي حول التوجهات التي تقرر مصير الأمة، وهو عامل شكّل، على الرغم من جميع العوائق، المفتاح للكفاح المنتصر من أجل الاستقلال». تلك هي الأسئلة الثقيلة التي يطرحها تسلسل وقائع انعدام الاستقرار المعلَن.

مقالات من الجزائر

للكاتب نفسه