في تعقب أصولهم، لا نحظى إلا بالتابعية للاستعمار الفرنسي، والمتمردون منهم لاذوا بأجندات الاستعمار البريطاني، والتماهي مع أطروحاتهما ومشاريعهما. لكننا نتعثر من حين لآخر بتلك اللفظية الوطنية التي تتسرى بالأغاني والرطانات الشعرية في حب الأشجار قبل أن تُحطّبها فؤوسهم وتحوِّل غاباتها إلى مستوطنات إسمنتية في عهدة المضاربات العقارية، وجداول المياه قبل أن تجففها آبارهم العشوائية لري المزارع والمنتجعات السلطانية، وبعض من الفراشات والعصافير والغزلان قبل إفنائها بطلقات بنادقهم، والأرض قبل أن يحوّلوها إلى مدافن للمواد المشعة القاتلة.
عجز فقه الليبرالية السورية عن إنتاج نص محلي شارح أو متمم يتوضع على هامش النص المؤسس، ربما لغياب هذا النص، المحال بانتقائية لعوبة إلى تجارب البورجوازيات الأوروبية في لحظات محددة من تاريخها: تارة إلى لحظات شجاعتها وثوريتها، حين اندفعت لتقويض بقايا الإقطاع وأدواته السياسية - الحقوقية.. وتارة أخرى إلى لحظات خيانتها لمشروعها، وتحولها إلى هجومية إمبريالية حربية عاجزة عن العيش يوماً واحداً إلا بسلب الشعوب المقهورة والمضطهدة لحيواتها ومصائرها ومنتجاتها.
يُختزل المشروع السوري المدّعي لليبرالية بنقد الدور الاقتصادي المهيمن للدولة الرأسمالية، ونقد الحزب الذي شكل الإطار التاريخي لمشروع البورجوازية الكولونيالية السورية، والتفكه من حين لآخر بأحاديث غياب الحريات العامة، والمظلوميات الطائفية في محددات طائفية لها، لا تبارح موقع المنقود.
يتسرى الليبراليون الجدد - بثقافة شفهية مغناجة - بتبني السردية النقدية التي أنتجتها الليبرالية الأوروبية - الجديدة أو القديمة - في نقد دولة الرفاه، أي دولة الحماية الاجتماعية التي أنتجتها التسويات السياسية بين الأحزاب الشيوعية والنقابات والسلطات الرأسمالية بعد الحرب العالمية الثانية، وما لهذه التسوية من أسس أيديولوجية في توظيف الانتصارات العسكرية للجيش الأحمر ولانتصارات المقاومات الشعبية الأوروبية، وحركات التحرر العالمي في الصين والهند وحركات التحرر الوطني في المستعمرات.
حظي الاتجاه التسووي في الحركة الشيوعية والتنظيمات العمالية بمباركة القيادة السوفياتية ضمناً، ما كان يعبر عن خياراتها ورهاناتها السياسية العميقة، وهو السبب كذلك وراء تخلي الأحزاب الشيوعية الأوروبية عن الإستراتيجية الثورية (افتتحها الحزبان الشيوعيان الأكبران في إيطاليا وفرنسا.. وتبعتهما الأحزاب في الدول الأخرى)، عبر التزامها بالبرلمانية وصناديق الاقتراع كوسيلة أحادية للتغيير التدرجي، أي حصر جغرافيا الصراع السياسي - الطبقي في الحيز البرلماني.
ارتبط نقد الليبراليين الجدد بشروط تجاوزتها دولة الحماية الاجتماعية، بعد توفيرها للحدود الدنيا من الغنى الاجتماعي وارتفاع منسوب استخدام التقانة.. أفصح هذا النقد "عن طابعه الرجعي بمهاجمة التشريع الاجتماعي برمته والنفقات الحكومية المبررة والمرصودة لقطاعات أخرى غير قطاعات الدفاع العسكري"، وفق تعبير هربرت ماركوز.
وفي المقاربة العيانية لليبرالية السورية نؤكد ضرورة التمسك بقيمها التي أنتجت في المجتمعات الأوروبية لنكون ورثة لها، ربما لأن الشروط السياسية - الحقوقية التي تكافح الشعوب في إطارها هي أدنى بكثير من العتبة التاريخية التي وصلت إليها في بلدانها، أي أنها في لحظة تاريخية متفارقة، هي عينها اللحظة التي تخون الليبرالية قيمها، واللحظة التي تنتقل فيها هذه القيم إلى طبقة اجتماعية جديدة، أو تحالف طبقي جديد.
كان الواجب الثوري يقتضي تفكيك الأكذوبة التي أنتجتها مراكز الأبحاث الأميركية - الأوروبية التي تحمّل الطبقة المتوسطة العربية دوراً ثورياً وتحررياً ليس لها، وهي عاجزة بنيوياً عن الأخذ به والكفاح الجسور من أجل تحقيقه.. بعد أن بينت التجربة الحية أنها محافِظة ومتمسكة بامتيازاتها، ومصابة بحالة هلع يقارب الهستيريا من أي تغيير وفق منحى ثوري.. مهما كانت محدوديته، وأنها قاعدة أيديولوجية - اجتماعية صلبة تنطلق منها الهجومات الفاشية، ومسوِّق بارع لهذيانها الإعلامي المتواصل، وكأنها واقعة في أسر قوانين مصحة عقائدية، وعاجزة عن التحرر منها في آن.
توضعت المشكلة في تربة حقل الصراعات السياسية – الحقوقية. مَن أخذ بالمشروع الليبرالي الجديد وباشر بدفعه إلى نهاياته القصوى هو المتحد الطبقي الحاكم، مشروع حمل العديد من المجازفات الاجتماعية التي لم تعد تفيد معها التسويات الاقتصادية... والذي أخذ بشقه السياسي - الحقوقي قسمٌ من المعارضة السياسية، أي جناح يعمل على المشروع الاقتصادي ويتجاهل بل يحارب بعنف إقصائي متمماته السياسية – الحقوقية (الحريات العامة - التنظيم النقابي المستقل - ترخيص العمل الحزبي - حرية الصحافة - إيقاف العمل بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية...)، وجناح يعمل على المشروع السياسي بإغفال الأسس الاقتصادية التي ينهض عليها مشروعه. ويجتمع الجناحان على مواقف شبه موحدة كالسخرية من اليسار وأطروحاته وتجاربه المحققة، والتجاهل التام للطبقات الشعبية وحقوقها النقابية والسياسية، والرهان المتجدد على شحذ الهمم الطائفية وتعبئتها وتوظيفها في الصراع السياسي، وتحجبهما خلف الإسلام السياسي بشقيه الجهادي والدعاوي وتسويغ خطاباتهما.
يتجاهل المعارضون أن عموم التجارب الليبرالية التابعة، لم تتناسل من لدن النموذج الأوروبي، بل على النقيض تماماً من ذلك، لم تتحقق الانطلاقات الليبرالية الجديدة إلا على مقابر الحركات الشعبية وأدواتها التنظيمية، واعتماد التشريعات النقابية والحقوقية التي تجرد الشغيلة وعموم الفئات الشعبية من أي وسيلة دفاعية عن حقوقهم.