يقع حي "الشيخ مقصود" في الجهة الشمالية لحلب، فوق مرتفع يشرف على المدينة المنبسطة فوق وهدة راسخة على ضفتي نهر قويق الذي يعبرها من الشمال ويتجه ملتوياً نحو الجنوب. ويتحدد من الشرق بسكة القطار التي تصل مدينة حلب بالأراضي التركية، ومن الجنوب بالمقابر المسيحية والمقبرة العسكرية الفرنسية التي أزيلت رفات جنودها وضباطها قبل بضع سنوات، واحتفظت بسورها وبوابتها واللوحة الرخامية التي تشير إليها. أما الجهتان الشمالية والغربية فمفتوحتان على توسع أبنية عشوائية تكاد تكون بلا نهاية يلتقي حيها المعروف بـ "الغربي" بعشوائيات حي الأشرفية، وينتمي، كما سواه من أحياء الهوامش والعشوائيات، إلى "أماكن النفي" (وفق تعبير "بورديو")، حيث يتمركز السكان تحت سطوة القوة القهرية للأزمات الاقتصادية المتواصلة والبطالة.
تمددت المدينة حتى أواخر القرن التاسع عشر إلى الشرق والشمال والجنوب، ولم ينتقل سكانها إلى الغرب إلا بعد تشييد مجموعة من الجسور على نهر قويق، وتوفير الأمن بإنشاء المخافر وتسيير دوريات الشرطة، وانتقال بيوت الولاة وموظفي الإدارة العثمانية إلى أمكنة أكثر رحابة من بيوت المدينة داخل السور والأحياء التي تحاذيه.
بعد العمارات في شوارع الحي الأولى، يبدأ السكن المفرد وتبدأ معه الأزقة والزواريب التي تصل إلى دهاليز. الحي متنوع دينياً وقومياً (أكراد)، سكانه بأغلبيتهم من أبناء قرى محافظة حلب، يتوزعون سكنياً وفق صيغة العصبيات، دينية، قومية، مناطقية، أو قروية. يسكن المسيحيون المنطقة، التي تشكل تاريخياً "النواة" السكانية لهذا الحي، وكانت معروفة باسم "جبل السيدة". حرفيون وعمال مسيحيون عاملون في نحت الأحجار وصقلها ونقلها، شوارعهم الأكثر تنظيماً في هذا الحي الموسوم بالسكن العشوائي. يقدر عدد سكان الحي بحوالي مئتي ألف نسمة، أغلبهم من الشغيلة في القطاعات الحكومية والمعامل الخاصة، والحرفيين الصغار والمتوسطين، ومن العاطلين عن العمل.. واقعين تحت سطوة التمييز المكاني الذي عززه السياق التنموي الليبرالي والآثار البيّنة لتخلي الدولة.
يغيب عن هذا الحي الكبير مخفر شرطة، ويعتمد بعض أهله على "المزايدة بالعنف" أي الانزلاق اليومي إلى الحماقات الصغيرة: هروب الطلاب من المدارس وتسكعهم في الطرقات، وسرقات السيارات وإبر صحون استقبال القنوات الفضائية، وإظهار الرغبة بإلحاق الأذى بالمحيط الاجتماعي والمرافق العامة.. كما غاب عنه أي حضور مباشر لأجهزة الدولة القمعية (شرطة وجيش) بين 2011 و2013. اكتفت السلطة بتلزيمه لجماعات من داخله (عشيرتي الماردل والبكارة، وبعد ذلك إلى ميليشيا الإتحاد الديمقراطي الكردستاني...). وبقيت على علاقة خارجية معه عبر هذه الجماعات.
"التحرير"، وفق قاموس الكتائب الإسلامية المقاتلة، مأسور بمعنى مخصوص لا يبارح ثقافة "الغزو" هو الأكثر تعبيراً عن الحالة التي أنتجتها تلك الكتائب على الأرض:
- الاستيلاء العسكري على الجغرافيا، بعد طرد أو انسحاب الجيش منها.
- العجز عن إدارة المناطق المحررة، التي تتعقد مشكلة إدارتها في حالة تداخل المناطق السكنية مع المناطق الصناعية، والعجز عن توفير بديل واضح الملامح سياسياً / حقوقياً على الأقل، يترافق مع إنهاك السلطة لتلك المناطق بالقصف والاستنزاف العسكري اليومي، مما يشكل دافعاً لمغادرة السكان، فضلاً عن ارتباك آلاف العاملين والعاملات في الوظائف الحكومية الذين يتعثر وصولهم إلى أعمالهم بشكل يومي، بسبب كثرة الحواجز والمساءلات الأمنية.. مما يؤدي مع مرور الوقت إلى فقدانهم عملهم وتعويضات الخدمة ورواتبهم التقاعدية.
- تجاهل الاختلاف الديني والمذهبي والقومي وأنماط المعيشة وتوابعها المسلكية، والعمل على إلغائه قسرياً بفرض نمط أحادي ديني، إسلامي- سني وفق تأويلات محددة له، تنحدر بعمومها من أرومة برامج جماعة الإخوان المسلمين، وتأويلات أخرى تنحدر من تنظيم "القاعدة" وتجاربه التطبيقية في أفغانستان والعراق.
***
بين آذار/ مارس 2013، وأيلول / سبتمبر 2015 سنتان وستة أشهر. يتمدد الزمن الذي قضاه نازحو حي "الشيخ مقصود" خارج بيوتهم بعد "عملية التحرير" التي دفعتهم إلى عبور بوابات خيارات جديدة لم تكن واردة في حساباتهم. بعضهم قرر العودة النهائية لقريته، أو استأجر منزلا في القسم الغربي من المدينة لضرورات متابعة عمله في الوظائف الحكومية، والبعض الآخر هجر البلد مؤقتاً إلى المدن والبلدات التركية، أو نهائياً إلى أوروبا.
حينما التقيا داخل الطابور الذي يسبق كولبة التفتيش والتحقق من الأسماء على الحاسوب، كان يحمل كيساً صغيراً تظهر من أطرافه فوهات عبوات المنظفات وسوائل الجلي. أمامهما كان الطابور طويلاً، لم يتكلما قط، اكتفى الأول بالنظر إلى كيس الآخر، وكأنه يسأله "لماذا تحمل هذا الكيس"، وأجابه بعد تنهيدة طويلة "أريد تنظيف البيت...". حين تشعر بدنو خسران الوطن، لا بد أن تتمسك بالموطن. لا نتحدث عن بيوت فارهة، بل عن سقف وأربعة جدران. خلف أبوابها الموصدة في الليل، تجلس الأسرة لتتفقد كنوزها. بكرات الخيطان التي يرتون بها جواربهم وقمصانهم، الدبابيس التي يشكلون بها البنطلونات والتنانير لتهيئتها للأولاد الأصغر عمراً. المرطبانات الزجاجية للزيتون التي تتناقص حبيباته كل يوم، أوعية البرغل التي تنتفخ حبيباتها بالطهي، قبل أن تنفخ أمعاءهم بعد ذلك.
هم الآن متورطون بالتجربة المباشرة، ولم يسعفهم الوقت بعد للوصول لسكينة وهدأة الحالة التأملية التي تسمح بوعيها واستخلاص النتائج منها، للقبض على اعتقاد يعود إلى التعبير المصطفى من التعليم الثوري: "دروس التجربة".
***
قال الرجل الذي تجاوز الخمسين من عمره، ويعمل في صيانة الكهرباء المنزلية والصناعية، بعد يومين على عملية التحرير: "هؤلاء لا يريدون تحريرنا، بل التحرر منا ومن أعبائنا، ليسرقوا بعد ذلك بيوتنا وممتلكاتنا". أذكر حواره معها وهما ينزلان الدرجات الحجرية المعتمة للالتحاق بحوائجهما التي حمّلاها على ظهر السوزوكي. سألته "دربست الباب منيح؟"، أجابها "لم يعد ينفع الدرباس" لأنه من الليلة الأولى، وبينما كانت زوجته نائمة، تلصص من خلف الستارة، وتابع كيف كان المقاتلون يكسرون أقفال المحلات في البناء المقابل، ويحمّلون محتوياتها على ظهر شاحنات وسيارات، كانوا قد كسروا قبل ذلك أقفالها وهيئوها لنقل المسروقات.
توضحت أسماء الكتائب مدونة على السيارات وعلى الأعلام المثبتة على زوايا الشاحنات العسكرية، والأرجح أنه جرى تنسيق بينها وبين الاتحاد الديمقراطي الكردستاني لتقاسم النفوذ في الحي وامتداداته في المناطق الصناعية: "سهلوا خروجنا من بيوتنا، وكل الحواجز التي مررنا بها تجاهلت الذي حصل معنا، ولم تسألنا لمَ أنتم خارجون؟ وإلى أين ترحلون... وكانت تكتفي بسؤال السائق:
- أأنتم من الشيخ مقصود؟ ويرفقونها بعبارة اعتادوا تكرارها: "الله معكم".. أو "الله مع دواليبكم".
يقول الرجل: عدت الآن من زيارة بيتي. لم أرد زيارته لولا إلحاح زوجتي، ربما لأنني أخمن الذي حصل فيه وفي غيره من البيوت. صعدت الدرج المعتم، بعدما أطلقت أصوات لترهيب الجرذان أو الكلاب الشاردة. الباب الخارجي مكسور ومسروق، ولم أجد أياً من أثاث البيت، باستثناء صورة قديمة لي تركوها معلقة على الجدار. جلت في منزلي ودخلت كذلك لمنزل جاري. لم أستطع تحمل مشهد عودتي إلى تحت الصفر، فكل ما عملته في حياتي فقدته، ولم يعد لي بقية من العمر والفرص لأستعيده. أكملت طريقي عائداً إلى الحاجز الذي يفصل الحي عن باقي المدينة.
***
قال حرفي وصاحب ورشة نجارة صغيرة: في السادسة صباحاً من يوم 29 أيلول 2015، كنت واقفاً في الطابور، وفي الساعة العاشرة دخلت الحي مع المئات، بعد إجراءات أمنية مشددة، تدوين البطاقة الشخصية على الحاسوب يرفقه أحد العناصر أو الضباط بسؤال، هل لك بيت في الحي؟ حسبتها إجراءات شكلية لولا توقيف عدد من الشبان وتقييد أياديهم إلى الخلف، وطلب سيارة من الجهاز الأمني لنقلهم إلى فرع التحقيق. العمارات ركام من الأوساخ وبقايا المسروقات، لا وجود لساعات الكهرباء والمياه، ولا لأبواب الحديد وصنابير المياه. أسلاك الكهرباء مسحوبة من تمديداتها داخل الجدران.. البيوت على العظم.
قررت النوم في المنزل، أزحت الركام والأوساخ من أمام الباب لأتمكن من إغلاقه، فالكلاب الشاردة تملأ الشوارع، وقد تكون مصابة بـ "السعار"، وهي قادرة على شم رائحة الأجسام الحية. تمددتُ على سريري المعدني بلا فراش ولا أغطية، داهمني الخوف لأنني وحيد في العمارة، وبين عشرات العمارات الفارغة. لم أعد أعلم متى غفوت.. هرعت فور استيقاظي إلى الحاجز العسكري الفاصل بين الحي والأحياء الغربية من المدينة، فوجدت عدداً من الرجال نائمين قربه، لعجزهم عن زيارة منازلهم في الوقت المحدد. تساقطت أثناءها أربع أو خمس قذائف من التي تُعرف بـ "قذائف جهنم"، وكأنها رسائل تهديدية لإيقاف العبور والزيارات التفقدية للحي، توزع بعدها القادمون الجدد المتهيئون لزيارة بيوتهم على أطراف الأرصفة وأمام مداخل العمارات، ليعودوا من حيث أتوا.
لم أقتنع على وجه اليقين إن كان حي "الشيخ مقصود" استعيد إلى السلطة، لكني على يقين أنه لن يعود إليه أحد من سكانه، ولن يعود نشاط ورشات الخياطة والحياكة والتطريز وغيرها.. إلا بعد تفاهم بين الأطراف المتحاربة وتوصلهم إلى اتفاق يؤمن قسطاً من الأمان، ويساهم في حل مشاكل ضرورية للعائدين، كتوفير المياه والكهرباء والمواصلات.