في اليمن فئات من المرضى طغت الحرب والجوائح المتكررة على معاناتهم ومآسيهم. ومن هؤلاء مرضى فقر الدم "الثلاسيميا"، و"الأنيميا" المنجلية مع انتشار وباء كورونا في كل بلدان العالم، بقيت اليمن حتى 10 من نيسان/ إبريل الجاري، إحدى الدول القليلة جداً التي لم تسجل فيها حالات إصابة بالفيروس. لم يكن ذلك يكفي للاطمئنان ولاسيما بعد أن سجلت أول حالة في محافظة حضرموت نهاية الأسبوع الماضي. ومع ذلك، لا تزال تحذيرات الأطباء والمختصين من التأثير السلبي للتوتر والخوف على جهاز المناعة، تجد الكثير من الآذان الصاغية.
ففي بلد يعيش حرباً متعددة الاتجاهات، ويواجه الجوع والبطالة وانقطاع المرتبات، يصغي الناس لكل ما يساعدهم في التخلص من رهاب الخروج من البيت. إنهم بحاجة للخروج من أجل كسب العيش في ظل أوضاع بالغة القسوة، كما أن طول أمد الحرب، وكثرة الأوبئة التي نهشتهم على غفلة من اهتمام معظم سكان العالم وحكوماته، جعل الموت أمراً اعتيادياً بالنسبة لهم.
خلال السنوات الخمس الماضية، عانى اليمنيون من عدة أصناف من الجوائح التي ينطبق عليها وصف أوبئة الحرب: كوليرا، دفتيريا، حمى الضنك، إنفلونزا الخنازير، وما سميت أواخر العام 2019، بالحمى الفيروسية. هذه القائمة لا تشمل بالطبع بعض الأمراض الموسمية وغير الموسمية الأخرى، التي قويت شوكتها مقابل ضعف المناعة الناتج عن سوء التغذية المتفشي في البلاد. غالباً ما كان مصابو هذه الأمراض، والوفيات الناجمة عنها ضحايا غير مباشرين للحرب. أما غيرهم الذين عانوا من أمراض مزمنة كالسكري والقلب والفشل الكلوي والربو... فقد سُجلت الوفيات من بينهم ضمن الوفاة الطبيعية، على الرغم من الأوضاع غير الطبيعية التي يعيشها سكان البلاد عموماً.
أوبئة الحرب والعدالة الكونية
حصدت أوبئة الحرب آلاف الأرواح من اليمنيين. لم تفرق بين طفل وشاب وكهل. كانت الكوليرا الأسرع فتكاً، وعاودت الجائحة الانتشار سنة بعد أخرى. وفي انتشارها الثالث حصدت روح الطبيب محمد عبد المغني مطلع العام 2019، بينما كان مرابطاً لمعالجة مئات الحالات في مستشفى السبعين بصنعاء. إنفلونزا الخنازير هي الأخرى أخذت حصتها من اليمنيين، وبالمثل فعلت الدفتيريا وحمى الضنك... ثم أطل شبح كورونا.
غذاء اليمنيين المحروس بشواهد القبور
04-04-2019
حسب التشخيص الطبي لفيروس كورونا، فهو يصيب عادة كبار السن، ما يعني أن أجهزة المناعة الضعيفة عادة ما ستكون فريسته المثلى. المصابون بأمراض مزمنة سيكونون على لائحته إذاً، بمن في ذلك الأطفال المصابون بـ"الأنيميا" و"الثلاسيميا". وماذا عن مرضى السلّ؟ هؤلاء لم يعد أحد يتحدث عنهم، ومن المرجح أن معظمهم التهمتهم أوبئة الحرب التي نافست السلّ على صدور اليمنيين. ربما كانوا يشعرون بحظهم الجيد قبل تسجيل أول حالة مصابة بالنسخة الأحدث من جيل الأوبئة التنفسية، لكن مخاوفهم الآن بدأت ترتفع من نظام العدالة الكوني.
"لقد دفعنا حصتنا من الأرواح خلال خمس سنوات. ليس عدلاً أن ندفع المزيد لكورونا"، قال مسنّ يمني لرفقائه على طاولة الشاي في أحد مقاهي صنعاء.
غير أن اليمنيين مازالوا يدفعون حصتهم من الموتى بأعداد يمكن فقط لحفاري القبور إحصاؤها بصورة أفضل وأدق مما يفعل النشطاء وموظفو المنظمات العاملة في المجال الطبي. وفي حين تتذبذب مؤشرات المخاوف من وصول كورونا إلى اليمن بين الارتفاع والانخفاض، لا يجد المصابون بالأمراض المزمنة ما يهدئ مخاوفهم من اقتراب النهاية. النقص الحاد في الأدوية وارتفاع أسعارها منذ إعلان السلطات الرسمية في صنعاء وعدن عن "الإجراءات الاحترازية"، ضاعف معاناة هؤلاء المرضى، بينما أزاحها كورونا إلى هامش الاهتمام.
في هذه الأثناء، جدد "المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه"، نداءه للمواطنين القادرين على التبرع بالدم، أن يتوجهوا إلى مقره يومياً للتبرع بالدم من أجل إنقاذ حياة مرضى الثلاسيميا. على الرغم من أن هذا النداء مستمر منذ العام 2015، إلا أن صيغته مؤخراً صارت أكثر إلحاحاً. حملت الصيغة الملحة مخاوف المركز من تشديد الإجراءات الاحترازية من فيروس كورونا خلال الفترة القادمة، وبالتالي صعوبة وصول المتبرعين، ناهيك عن قدرتهم على التبرع.
منظمة الصحة العالمية تقول إن عدد الحالات المسجلة سنوياً من مرضى الثلاسيميا في اليمن يبلغ 700 حالة، وأن إجمالي الحالات المسجلة في البلاد بلغ 50 ألف حالة.
منذ بداية الحرب، عانى مرضى الثلاسيميا من نقص ما يتوفر من احتياجهم من الدم، خاصة مع تزايد الاحتياج للدم لإنقاذ جرحى القصف الجوي من المدنيين، وحتى الجرحى من المقاتلين الذين يتم إسعافهم في مستشفيات المدينة. حينها، كان الناس يهرعون للتبرع من أجل تعويض الكميات الناقصة من مخزون الدم في المركز الوطني لنقل الدم وأبحاثه، ومركز رعاية مرضى الثلاسيميا. لكن الخوف الآن قد يمنع الكثيرين من التبرع تفادياً للضعف أمام الجائحة الجديدة. لطالما غيب الموت هذه الفئة من المرضى في صمت لا تكسره حتى تهليلات الترحّم عليهم. أعمارهم القصيرة جعلت موتهم اعتيادياً حتى في الظروف الطبيعية.
700 حالة جديدة سنوياً
في كانون الثاني/ يناير 2020، نعت الجمعية اليمنية لمرضى الثلاسيميا والدم الوراثي، ستة أطفال دفعة واحدة، قالت إنهم قضوا بسبب برد "الشتاء القارس وانعدام الأدوية الأساسية عنهم". وفي 16 أذار/ مارس فارق الحياة الشاب زكريا محسن، بعد شهر من عقد قرانه، وفي اليوم نفسه مات شاب آخر. هكذا يعيشون أعمارهم كالفراشات ويرحلون بصمت رفيف أجنحتها.
اليمن: رحلة التيه والدوران الأعمى
13-07-2018
في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، قالت منظمة الصحة العالمية إن عدد الحالات المسجلة سنوياً من مرضى الثلاسيميا في اليمن يبلغ 700 حالة، وأن إجمالي الحالات المسجلة في البلاد بلغ 50 ألف حالة. ونقلت المنظمة عن مدير الجمعية اليمنية لمرضى الثلاسيميا قوله إن الجمعية تستقبل يومياً 60 - 70 حالة، وأنها تحيلهم بعد الفحص إلى المركز الوطني لنقل الدم للحصول على خدماته. لا توجد إحصائيات معلنة لعدد الوفيات اليومية أو السنوية من مرضى الثلاسيميا والأنيميا المنجلية، غير أن مذكرة مناشدة من جمعية مرضى الثلاسيميا إلى وزارة الصحة، قدّرتهم بالعشرات، وفقاً لوفيات العام 2018. وفي حين يخلو موقع الجمعية على الإنترنت من إحصائية مماثلة، لم يردّ المسؤول الإعلامي للجمعية على استفسارات وجهتُها إليه، على بريد صفحته في "فيسبوك"، بشأن الأوضاع الراهنة للمرضى.
إلى جانب حالات الوفاة الثمان المشار إليها أعلاه، قضت شابة في الخامسة والعشرين من عمرها في 20 شباط / فبراير/ 2020، أثناء خضوعها لعملية تبديل نخاع العظم. هذه الإحصاءات المتفرقة اعتاد القائمون على جمعية مرضى الثلاسيميا نشرها في صفحة الجمعية على فيسبوك. أعلى الصفحة ذاتها، توجد مناشدة مثبتة منذ أواخر شباط/ فبراير من العام 2019، فيها عرض لأبرز المعوقات التي يواجهها مركز رعاية المرضى التابع للجمعية، وإحصائية عابرة بعدد المرضى المسجلين فيه (5100 مريض/ة) في صنعاء وحدها. فيها أيضاً قائمة بسبعة أصناف من أهم أدوية مرضى الثلاسيميا، نفدت من مخازن المركز بسبب موجات النزوح إلى صنعاء، وتزايد المعدل اليومي للمرضى الذين يستقبلهم المركز إلى 80-120 مريضاً ومريضة.
بحسب معلومات طبية، فإن نسبة نجاح عملية تبديل نخاع العظم لمرضى فقر الدم الوراثي، تكون أعلى كلما كان عمر المريض أصغر. قبل العام 2015، كانت فرص حصول هؤلاء المرضى على منح علاجية في الخارج أفضل. غير أن الحرب وانقسام الحكومة إلى حكومتين، وإغلاق المنافذ الجوية، وخارطة الطرق البرية، الطويلة والشاقة، التي فرضتها الحرب، جعلت من الموت الخلاص الأقرب إلى المصابين بأمراض مزمنة، ومن ضمنهم هؤلاء الراحلون في عمر الفراشات.
الحرب وانقسام الحكومة إلى حكومتين، وإغلاق المنافذ الجوية، وخارطة الطرق البرية الطويلة والشاقة، التي فرضتها الحرب، جعلت من الموت الخلاص الأقرب إلى المصابين بأمراض مزمنة، ومن ضمنهم هؤلاء الراحلون في عمر الفراشات.
معلوم أن مرضى فقر الدم المنجلي "الأنيميا" ورديفه "الثلاسيميا"، يعيشون حياة يعرفون أنها قصيرة. ومما لا شك فيه أنهم يواجهون ذلك بشجاعة نادرة كندرة أدويتهم وقِرَب الدم التي تبقيهم على قيد الحياة في ظل ظروف الحرب. أما وقد أطل شبح كورونا، فإن مخاوفهم تتضاعف، وبالمثل، مخاوف ذويهم وأطبائهم. خشيتهم من انتشار الفيروس المستجد ليس لها سبب واحد: هناك أسباب عنقودية تتدلى فوق نفوسهم، من عدم قدرة المرضى على الوصول لمراكز العلاج، إلى عدم قدرة مجيء المتبرعين بالدم أيضاً، النقص الحاد في الأدوية، وأكثر من كل ذلك، مناعتهم التي أضعفها تُكسّر الدم.
هل هناك ضرورة لتكرار ذكر الموت الذي صار يأتي في هيئة أكثر صمتاً من أي وقت مضى على الفئات الأكثر ضعفاً في اليمن؟ إن ما تبقى من قوة لدى هذه الفئات التي كاثرتها الحرب في البلاد، تكمن في الروح المتمسكة بالحياة، وهي التي تحرّك الأبدان التي ينخرها الهزال.