عودٌ إلى الصدد

وقد أضحى أكل الثورات أبناءها، أو قتل الثوار رفاقهم وخروجهم بعد ذلك متباكين في جنازاتهم، من منتجات الفعل الثوري ساعة ينزح عن طريقه، ويخاتل في الطرق المأمونة، أي طرق المساومات والتسويات، واستحضار الخيار العقائدي اللعوب الذي اجتُرح من تأويلات عقيدة "المنزلة بين منزلتين"، أو الجلوس بين مقعدين، أي في تلك اللحظة المفرطة في واقعيتها، التي تحيل الواقعة الثورية وتجلياتها إلى العهد ما قبل الثوري،
2014-07-13

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
"حمص طريق العودة" - عمرو فهد (سوريا)

وقد أضحى أكل الثورات أبناءها، أو قتل الثوار رفاقهم وخروجهم بعد ذلك متباكين في جنازاتهم، من منتجات الفعل الثوري ساعة ينزح عن طريقه، ويخاتل في الطرق المأمونة، أي طرق المساومات والتسويات، واستحضار الخيار العقائدي اللعوب الذي اجتُرح من تأويلات عقيدة "المنزلة بين منزلتين"، أو الجلوس بين مقعدين، أي في تلك اللحظة المفرطة في واقعيتها، التي تحيل الواقعة الثورية وتجلياتها إلى العهد ما قبل الثوري، وتكون أعناق الثوار وأحلامهم وبرامجهم هي أول قرابين أضحيتها. لكن المشكلة العميقة تأتت بلفظ القوى الثورية المفترضة حزمة الأهداف المعلنة دفعة واحدة، وإظهارها للعلن وبشكل مبكر أعراض تخليها الجزئي ثم الكلي عنها، وهي لمّا تزل في بدايات طريق وعر قد يؤدي لإنتاج مولود ثوري وقد لا يؤدي إلى ذلك.
نتج ذلك عن الضعف العميق في الحركة السياسية، وهيمنة خطاب القوى الإنتهازية ومقارباتها على مسارها، فضلاً عن تكرار خطأ موضوعي يحمل العديد من السمات الذاتية في تقييم وضع "معارضة الأمر الواقع"... واستكمل بالمراهنة العمياء على إنجازها لفعل تاريخي استثنائي يقارب الإعجاز، وهي ثابتة في موقعه النقيض، وعاجزة عن مغادرته في آن. فقوى المعارضة التقليدية، التي صُنعت لها إطارات تنظيمية جديدة تنطق باسم الثورة، لم تكن يوماً في موقع ثوري، لا من خلال مقارباتها السياسية – الحقوقية - الاقتصادية، ولا من خلال ارتباطاتها التبعية التمويلية، والإستخباراتية التي باتت تسمى بمجاز هزلي: تحالفاتها! وما وجودها في الموقع الثوري إلا نتيجة لتسللها وفرضها بفعل عزيمة القوى العربية والإقليمية والدولية، واعتمادهم عليها بوصفها أدوات زهيدة الثمن، مطواعة لمشروعهم ورهاناتهم، وهي بالضرورة غير رهانات الكتلة الشعبية المنتفضة.

***

جرى في سياق الصراع السياسي طمس العديد من المشتركات التي تجمع هذه المعارضة (بعموم تشكيلاتها الواقعية والافتراضية) بالطغمة العسكرية الحاكمة (البرنامج الإقتصادي - المشروع الوطني -الحقوق العامة..)، واكتُفي بالتركيز على الكلام ذي الثقل الأيديولوجي الذي يحجب تلك المشتركات، وهو بعمومه ينتمي عند بعضها، الأكثر نفوذاً وفاعلية، إلى التعويل على قراءة طائفية مخصوصة لتمايزات طائفية حقيقية، واشتقاق المهام من صلبها، صياغات اعتادت هذه القوى على مضغها ولوكها منذ الانقلاب العسكري في 8 آذار 1963 والحركات الاحتجاجية المتوالية التي حصلت بعده: مدينة حماة نيسان/ابريل 1964 بقيادة الشيخ محمود الحامد ومروان حديد، دمشق كانون الثاني/يناير 1965 بقيادة الشيخ حسن حبنّكة... لنصل إلى احتجاجات 1979-1982 ومسارها الدموي... دون أن تظهر آثار تخلع في أسنانها، أو اهتراء في لسانها، رغم الكلام الثقيل لبعضها (كجماعة الإخوان المسلمين، القائد "الفكري" والمعتمد المالي للتمويل الميداني بفروعه العسكرية – الإعلامية - الإغاثية للمعارضة المقيمة في فنادق إسطنبول) عن مراجعات فكرية وسياسية، أثمرت فيما مضى ما أسموه بمشروعهم الحضاري.
الكتابة عن تمايزات طائفية افتراضية ليس بنية الاستخفاف بالتشكيلات الطائفية وثقلها الاجتماعي والقدرة على توظيفها السياسي وتعبئتها الأيديولوجية وتسليحها لاستكمال أدوات الدخول في المنحى الحربي البهائمي وسيرورته التدميرية، بل لكون من يعول عليها ويعتمدها تعبوياً في معارك سياسية ذات أهداف مصلحية غير محجبة، يتجاهل الأسس الاجتماعية للنظام السياسي الذي تحميه الطغمة العسكرية، والذي أنتج في سيرورته تشكيلاً عابراً للطوائف، تحوز النخبة الطبقية المنحدرة وراثياً من الطائفة السنية على ما يقارب 65 في المئة إلى70 في المئة من مواقعه الاقتصادية الامتيازية، وفق العديد من الدراسات والإحصاءات الاسمية التي باتت تعرف بـ"لائحة المئة الكبار"، المهيمنين على الفعاليات الإقتصادية (شركات/ مجموعات اقتصادية/ وكالات حصرية...). ما يفرض ضرورة مواصلة الكفاح لنزع التحريض الطائفي والديني عن الصراعات السياسية، ليس لتحقيق غايات مثالية من مثل صقل الصراع السياسي وتنظيف لغته التعبوية، بل لعدم مطابقته للوقائع ولنتائجه الكارثية، في مجتمع متعدد دينياً ومذهبياً وقومياً، .. ولن تكون ثماره سوى التهيئة والإعداد للحرب الأهلية، إن لم يكن الولوج بها، وعجز السيطرة على نتائجها. ليست بالمهمة السهلة، وتتعزز صعوبتها بعدم التكافؤ الإعلامي والمالي بين أنصار الخطاب الطائفي السلطوي والمعارض، والجماعات التي لمّا تزل متمسكة بخطاب وطني عمومي. ويكون أولى ضحايا هذا التحريض والتعبئة والفعل هو الحركة الثورية، وأهدافها، لا الطغمة العسكرية الحاكمة، التي تزعم هذه المعارضة الفندقية أنها تريد إسقاطها، وفق الكلام الخفيف الذي وضعه ممولوها في فمها.

***

تظهر بفعل الدأب والمثابرة، علامات التخلي عن الديمقراطية بصيغة الحرية التي طالما رددتها هتافات المتظاهرين وعمّدت بدمائهم، ليس فقط بأعداد السجون والمعتقلات التي سارعت الكتائب المقاتلة لإنشائها، وأعداد المعتقلين الذين باتوا داخلها، فضلاً عن عمليات الخطف والقتل والاغتيالات والمجازر الجماعية.. لكل من يثبت مخالفته عقائدها وبعضا من قناعاتها الطارئة.
الديمقراطية ليست ذاك الكلام الخفيف عن صناديق الاقتراع والخضوع "الصاغر" لنتائجه، الذي غدت تتحكم بنتائجه مصادر التمويل المهولة والشبكات الإعلامية العملاقة الواقعة بحيازة من يقف وراء هذه المعارضة من دول الريع النفطي، بل بالوقوف الحاسم لإنجاز إجابات واضحة عما يخص قضايا المواطنة غير الملتبسة، والمساوة في الحقوق والواجبات، والموقف من قضايا المرأة وتحررها، وقضية الشعب الكردي والأقليات الدينية والعرقية، وسن التشريعات أمام المبادرات القاعدية، والحريات السياسية والنقابية.. مما يطرح كذلك سؤالاً عن الدور المنوط بالإسلام السياسي، والحالة المائعة المسماة بالليبراليين الذين أشهر إفلاسهم عالمياً في الأزمات الاقتصادية التي ضربت متن المراكز الإمبريالية، بعد إفلاسهم سياسياً بالعدوانية الحربية على الشعوب المضطهَدة، التي حكمت من بدايات القرن العشرين وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين؟ أي ماهية العلاقة التي تربط قوى متجذرة في الثورة المضادة والتبعية، تنتحل الموقع الثوري وتعبث في مقولاته وأهدافه. من صنّع هذه القوة الرجعية الظلامية الفاشية، وقذف بها إلى خنادق ثورة، كان يعمل لأن يكون أول نطقها اللهج باسم الحرية والعدالة.
ولاستكمال تعقب موقع المعارضة، يمكن رصد تفلتها من أي لغة تعتمد الأرقام والمعاينات المباشرة، وتعزيز الميل إلى التعميمات: أعداد القتلى في المعارك، أوضاع المهجرين، إدارة المناطق التي تحت سيطرة الكتائب المقاتلة التعليم / الصحة / السجون / الأمن العام / الاقتصاد بشقيه الزراعي والصناعي..
سرديات تُقارب العدمية الفكرية والسياسية، وهو ما برعت به الجماعات الفاشية - الإسلامية، واقتدى بها حلفاؤها الليبراليون الصغار.. كلام بلا معنى محدد، ثابت على انتشال الغوغائية من حضيضها، وإعادة ترميمها وتجميلها، حيث لا يمكن الاستهانة بمسار تجاوز الثلاث سنوات من الصراع الضاري، جرت خلاله عمليات عسكرية نوعية لا يخفى من خطط لها ونظمها، وهو ما يتجاوز قدرات الكتائب المقاتلة، هدفت تعبوياً تحرير المدن (حلب، الرقة، دير الزور) إضافة للتحرير العملي، وهو كناية عن طرد السلطة ورموزها وتحطيم أجهزة الدولة للعديد من البلدات، وإعلانها إمارات إسلامية (القصير، جرابلس، منبج، الباب، الشحيل...)
بوضوح لا يحتمل الخطأ في التأويل، تعلن الكتائب المقاتلة من حين لآخر عن مشاريعها وبرامجها السياسية - الحقوقية، ويتعمق ذلك بممارساتها الميدانية من اعتقال وخطف وقتل، وتبنيها العلني لمجازر جماعية، والسيطرة على حقوق توزيع المواد الإغاثية، وتدميرها لمؤسسات الدولة (التعليم، الصحة، الأمن، القضاء)، وعجزها عن إنتاج بدائل توافق الوضع الثوري والخطابات المنبثقة عنه .. على الرغم من ذلك، تسعى الجماعات المعارضة المقيمة في الخارج لافتعال تمايزات بين الكتائب الإسلامية المقاتلة، لتبرير أعمالها ومسوغات التحالف معها، أو لإسباغ الصفة الثورية عليها والتزامها بالأهداف العمومية للحركة الشعبية. ولا تتأخر هذه الكتائب عن الإسراع بتأكيد رفضها بالوثائق والممارسات لكل المقولات والأهداف التي اجترحتها الحركة الشعبية، ولكل ما تنسبه لها الجماعات المعارضة المقيمة في إسطنبول من كلام عن الالتزام بالحريات العامة، والديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن المساواة بين أبناء "الشعب"... لسنا في غاية إنتاج حكم قيمة على حالة ثورية تعثرت لأسباب متعددة، أساسها القمع الوحشي للطغمة العسكرية، واستكمله قمع الكتائب المقاتلة وإرهابها: الحركة الثورية باتت منذ زمن العسكرة التامة وإستراتيجية تحرير المدن، غريبة عن أهلها وأهدافها، وتزداد يوماً بعد يوم صعوبات استرداد مشروعها.

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..