شوارع النار في سوريا

يخالون قبعات الصوف بمنزلة خُوّذات تحمي رؤوسهم من رصاص القناصين، وشظايا البراميل، وأدعية أولادهم دروعأ واقية من مباغتات النار.لم تعد الطرقات طويلة كما كانت قبل بضع سنوات، تنهك الساقين والقدمين، وتدفع نحو استراحات قصيرة على مقاعد خشبية، يستردون خلالها بلاغة الذكريات الآفلة. يتوجب أن يستعدوا الآن لكل المحطات المتناثرة، كأن يهيئوا قطعة نقود معدنية، وهم يهرولون على الأرصفة المنخورة، قبل أن يتمهلوا
2014-04-09

عزيز تبسي

كاتب من سوريا


شارك
من دفتر:
مدن سوريا

يخالون قبعات الصوف بمنزلة خُوّذات تحمي رؤوسهم من رصاص القناصين، وشظايا البراميل، وأدعية أولادهم دروعأ واقية من مباغتات النار.لم تعد الطرقات طويلة كما كانت قبل بضع سنوات، تنهك الساقين والقدمين، وتدفع نحو استراحات قصيرة على مقاعد خشبية، يستردون خلالها بلاغة الذكريات الآفلة. يتوجب أن يستعدوا الآن لكل المحطات المتناثرة، كأن يهيئوا قطعة نقود معدنية، وهم يهرولون على الأرصفة المنخورة، قبل أن يتمهلوا أمام سجادة المتسولين التي تزداد طولاً كل يوم... ويبتسمون للعسكري لسماحه لهم العبور بحزمة الأرغفة وكيس البرتقال إلى الضفة الأخرى من الشارع، وأن يجيبوا العائلة النازحة عن استفساراتها المتعددة حول أماكن توزيع حصص الإغاثة والأطعمة المطبوخة، والعائلة التي تليها عن الموقع الجديد لمبنى الهجرة والجوازات، والرجل اللاهث عن الصيدليات التي تبيع الأدوية الأجنبية المهربة، وقبلئذ أن لا ينسوا شيئاً ممن أوصوا على إحضاره إلى بيوتهم المعتمة.كل العادات السابقة تتغير وكأنها لن تعود في زمن قصير، ها هم يطالبون الحلاقين بقص شعورهم على الصفر، خوفاً من قمل يرسله الأعداء المتناثرون إلى رؤوسهم التي أيقظتها الأحلام، ولم تخلد بعد إلى رقادها المخنوق بالتصبّر. وينتعلون الأحذية الرياضية، لا لغاية مواكبة تسارع الحركة التاريخية للشعوب المضطهدة، بل للفرار ساعة ترعد السماء ويتفجر الإسفلت.لم يعد كافياً الاطمئنان لقَسم البائعين الثابتين في حوانيتهم أو المتجولين خلف عرباتهم أو الدائرين حول بسطاتهم، حتى يتيقنوا أن السلعة صالحة للاستخدام الآدمي. أضحوا يخلطون النشاء المذاب باللبن، والرمل بالزعتر، ونشارة الخشب برب البندورة، ويصبغون الزيتون العفن بالأسود أو الأخضر، ويمزجون الكلس بالحلاوة، ويحقنون الدجاج الذبيح بالماء لتثقيل وزنه، وبخلاصات النباتات العطرية لتبديد رائحة تفسخه، وسوائل جلي الأطباق بالشامبو، ويبيعون لحوم الأبقار الهندوسية النافقة على أنها مذبوحة على الطريقة الإسلامية.. ويستبدلون مغلفات الأدوية المنتهية الصلاحية، بمغلفات تطيل صلاحيتها.ومنهم يلحّ بالنداءات الصاخبة مروجاً للبضائع المكدسة أمامه، ويعرضها بأسعار أدنى من ثمنها، وسيستنبط المتسوقون بعدها بوقت أنها من البضائع المسروقة، من المستودعات أو المعامل التي سيطرت عليها بعض الكتائب المقاتلة، وليس الوقت متاحاً للعابرين بسرعة البرق للاستفسار عن الكيفيّات التي وصلت بها إلى أماكن تحت سيطرة الجيش، وعن جواز شراء بضائع مسروقة، والوقوع في زلة التشارك في سرقتها.لكن لا بد من الالتزام ببعض الواجبات، كالتوقف لقراءة ملصقات أوراق النعي التي باتت تذكر، لفرط طولها، بلوائح الناجحين بالشهادة الثانوية، وتهنئة الشابات الخجولات لأنهن عدن سالمات من كلياتهن الجامعية، من دون أن يخسرن كتبهن وبناطيلهن الجديدة، ولم يبددن دعاء أمهاتهن، بانزلاق أرعن من بوابة الحافلة التي توقفت بغتة، بعد ارتجاف زجاج نوافذها برعود الهاون التي قد تنتهي بهنّ إلى مشافٍ، تدفعهن نفقاتها لبيع ما تبقى من أقراطهن وخواتمهن والاندفاع الخجول لطلب الاستدانة، ممن ما زالوا على قائمة الأقرباء. وانتظار رنة الهاتف المحمول، إيذاناً بتجاوز الصديق المسافر إلى دمشق حدود محافظة حمص.يثبتون عشرات الصور التذكارية قرب الجدران، لقناعة باتت تراودهم، أنه يمكن أن يستيقظوا ولا يرونها، أو، تستيقظ ولا تراهم. ويكادون ينفجرون بقهقهة حين يسألهم الحاجز الحربي عن علاقة أولادهم، المختلجين قربهم كأفراخ السمك، بالعصابات المسلحة. وها هي سانحة لتساؤلاتهم المفردة، لماذا ترك أبونا الحصان وحيداً، ولماذا فعلت أمنا مثله. لماذا تركانا وحيدين، أم حسبا قاماتنا من الفولاذ الناري المسقى بالماء.- ألم تمت بعد؟- لم تدنُ ساعتي.-كن حذراً!!- سأكونه، وسأقتني عما قريب عربة مصفحة، أو أستأجر دبابة، لأتنقل بها بين المخبز وسوق الخضار والمدرسة.ويقول شيوخهم، بذريعة تنفيرهم من الموت: لن تحظوا بجنازة تليق بشباب تضرج بدمه، وبذاك الشهيق النسوي المستمر أمام بوابات التراب. ستنقلون بسرعة كما هي حمولات البضائع المهربة، حتى حفرات قبوركم. لن تكون عميقة بما يكفي لتحجب أصوات النيران وانفجارات الصواريخ. ولإقفال الحديث يردون: نعدكم أن لن نموت الآن، سنؤجل موتنا لما بعد انتهاء الحرب والسلام، وربما الجريمة والعقاب!!وفي استراحات الحدائق، تغزوهم آفة الأشواق، يحاولون علاجها برفع رؤوسهم إلى الأعلى كما تفعل طيور الكراكي وهي تزدرد الماء، ليروا أكواز الصنوبر العاقر، والسماء كبقع زرقاء في قماشة أقل زرقة، ويعالجها آخرون بزرقات في الوريد، من سوائل يعدها النطاسون، وهم يضغطون أنوفهم بمناديل من قرف دهري، يتمددون بعدها على أسرّة لم تلامسْها أكف النساء منذ قرون، مدثرين بأغطية ثقيلة من وبر الماعز السبط. يتذكرون على مهل، كيف فكروا في زمن مضى، جندلة ما أسموه مخططات الاستعمار ومرتكزاته الأشد استعمارية، واعتراضهما بكمائن من جدائل خيوط القنب، وكيف حاصرت طاقاتهم النيرانية متتاليات مخافر الشرطة أو من يقوم مقامها، وباعة الأطعمة الفاسدة، والقوى التي تقف خلف التعبئة الرعوية في مباريات كرة القدم، والتعقب اللاهث للرسوم الكاريكاتورية.ولا بد من التذكر أن الأهم من جرأة الخروج من البيت، يكمن في قدرة العودة إليه دون خسائر، لاستكمال حديث سابق ينتظره الأولاد، عن سماء صافية وشمس مشرقة، وطيور ملوّنة لا تكفّ عن التغريد الجَسور لتمزيق لحاء الأكاذيب. 

مقالات من سوريا

للكاتب نفسه

إبرة وخيط.. في حلب

عزيز تبسي 2017-10-05

حلب مدينة النسيج المرموقة التي دمّر صناعتها الاستيراد المنفلت من تركيا، ثم أجهزت عليها وعلى الحياة نفسها سنوات الحرب. بورتريهات لنساء في مشغل خياطة حاليّ تكشف قدراتهن على التحمّل والمقاومة..

حلب: ليل يحيل إلى ليل

عزيز تبسي 2017-07-03

حلب لن تتحول إلى مدينة منسية مثل "قلب لوزة" و"البارة" و"سرجيلا". إرادات صلبة وعنيدة تعمل على ضخ الحياة في أوردتها والأمل في روحها، ولكن..