ينبغي أن أسامح «حسني البورظان» على تلك المتاهة الجغرافية والمعرفية، التي لم تكن حينها تناسب أعمارنا، «إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا... يجب أن نعرف ماذا في البرازيل» التي ما انفك يستهل بها مقالاً لن ينتهي في ثلاثين حلقة من تلك السردية الدرامية، «صح النوم»، ولم ينته بعد انتهائها.
يجب أن أسامحه، ليس لأنني صاحب قلب طيب ما يزال منقوعاً في آنية الحليب الطفولي وخلاصات أعشابه، وأشعر كذلك بنوع من التوحد المصيري معه حيال حُفر النذالة وأخاديد اللؤم التي كان يُرمى بها بلا أي رحمة، بل لأني بت أقع في متاهات أبسط بكثير، من مثل من يصل إلى الحرية قبلاً، الأرنب المغرور أم السلحفاة المثابرة، بعد أن يعبّد التاريخ القصصي الطريق للسلحفاة ليثبت أهمية العمل الدؤوب، وتحدي الكائنات الضعيفة المرتهنة لخصائص بيولوجية ليس عنها انفكاك إلا بالعمل الصبور الجسور.
لأكتشف أنه لم يصل أحدٌ منهما. أجلس وأنتظرهما بشوق على قارعة الطريق، أنقر حصاةً بحصاة وأدخن طويلاً «علّها تنجلي»، وأهرع بعد أيّ هسيس في العشب أو حفيف في الشجر لأدقق النظر في أربعة أطراف المكان، وأنهض لأبحث عنهما من وقت لآخر في تعرجات الدرب الطويل الوعر متناسياً لبرهة الحرية، أصل السباق، لا لأنهما أصدقائي وقضيتهما قضيتي، وأنا من ورّطهما في المسابقة، بل لأكمل الحكاية لولديّ قبل النوم!
وينتهي الوقت، لأنه ما من سباقات بلا نهاية. ولكن هل ينتهي الوقت؟ نعم الوقت المخصص للمسابقة ينتهي، كما رطوبة قميص على منشر الغسيل، في يوم مشرقي مشمس. في ثكناتها وقصورها ونواديها وملاعب خيولها، ستجد خيوطاً معلقة أشبه بمقددات الباذنجان والبامياء اليابسة، إنها حياتنا المسروقة والمثقوبة بعناية، ليمر منها خيط الزمن الرفيع، والمتروكة بإهمال لتجف أو تتعفن، أو تُنسى.
***
أمل الكثيرون، وفق مزاج هندسي رائق، أن تكون الصراعات السياسية كالمباريات الرياضية. للفريقين هويتان مميزَتان، يشعر بهما كل المتابعين بقلق نتائج الواقعة: لون الملابس، حيازة قسم من جغرافية الصراع، التفاهم الانسجامي بين أعضاء الفريق الواحد، والسعي الدؤوب لتحقيق النجاح الجماعي، واستيعاب لأهمية المهارات الفردية وقدرتها وشجاعتها.
لكن في الصراعات السياسية تداخل كبير. في الطرفين متشابهات، قبل جلاء المشهد النهائي ووضوحه: يثقله ثوار حقيقيون مأخوذون بشفاعة الأمل التاريخي العظيم، ويرفدهم لصوص وشحاذون وقناصو فرص، يمينيون ويساريون، جمهوريون وملكيون وإماراتيون (نسبة للإمارة الإسلامية). قحبات وقوادون وراقصات وتجار شنطة، مثقفون يكتبون بدمائهم وآخرون ببول الطغاة ومن يقوم مقامهم، رجالات النظام المتسربلون في ثياب ثورية، عملاء لمخابرات السلطة ولمخابرات دولية وتجار أسلحة... يدلف هؤلاء جميعاً إلى المشهد الثوري العام، لا لاهتمام بالتغيير ودوافعه، أو لتثبيت ما هو قائم إلى الأبد، بل لأن البوابة في الثورات العمومية مفتوحة على مصراعيها.
برغم ذلك، يحلم الناس برجال سياسة على هيئة نجوم الكرة، يركضون نحوهم، بعد تحقيق هدف لتحيتهم وإرضائهم، والناس المتفاعلون وسواهم من الثابتين على كراسيهم خارج الملعب لن يبخلوا عليهم بالتصفيق والهتافات المشجعة الحارّة، ورميهم بالورود وإشعال السماء فوقهم بالنجوم والشهب، ومباركتهم بالموسيقى والغناء. لكن هؤلاء اللاعبون السياسيون لا يحققون أهدافاً على الإطلاق ولا يركضون لتحيتهم كذلك. يكتفون بالكلام الثقيل البليد المغلف باخضرار العفن ورائحته، الناتج بعمومه عن عدم جودة أطقم الأسنان التي يستعملونها بدلاً عن أسنانهم التالفة، ويأملون برطانة تلك الأحاديث المتواصلة، الحفاظ على ثبات موقعها فوق أفكاكهم أكثر من ثبات أقوالهم المتلجلجة، ترافقها سلسلة من أمراض الشرايين والشحوم الثلاثية، والتوترات المتشنجة لمرضى السكري، وبعض الأمراض النفسية الخاصة بالعبيد المزمنين، من الذين واللواتي يتسرعون بتسمية عملية استبدال مالك العبيد القديم بالمالك الجديد باسم: التحرر.
والهامشيون من الشعب المريض بالأيديولوجية التي تسوغ التحكم القدري بالتاريخ، لن يتأخروا عن طرح السؤال، واضعين أنفسهم خارجه في آن، على سبيل الرفعة الأخلاقية، والنأي عن الممارسات التي تحدث في كل الثورات الدنيوية، رغماً عن قناعة الثوار وإرادتهم، ويقظتهم التي تبقي عيونهم مفتوحة كالأسماك. لماذا تحرك هؤلاء؟ هناك من حرّكهم ،أليس كذلك؟ ترى من أقامهم ولم يقعدهم؟
إذاً، ليست كل الأسئلة الاستفسارية سوداء في الليل، كما هي بقرات هيغل، بل الطغمة العسكرية وشبيحتها وبعض معارضيها كذلك.
***
لا يهم في سياق سرد الوقائع، ضرورة التأكيد على ذاك التدقيق الفيزيائي، كأن نقول مثلاً: حملته ساقاه، أو حمل ساقيه. نحاول في حمأة الوقائع وكثرتها، تعقب النتيجة: هل وصل أم قتلوه في الطريق..؟ لم يصل بعد؟!
- ولن يصل إذاً، لأن المسافة بين هاتين المدينتين لا تحتاج شهراً من المشي المثابر لشاب في مقتبل العمر! لنفترض من أجل إيجاد نهاية للواقعة، أنه ضل الطريق، أو قتل فيه، أو أكلته الضواري..
- أما تزال الضواري على عادتها اللئيمة، تتربص بالأجساد الحية والميتة لتأكلها؟
- وتأكل بعضها كذلك، لكن ينبغي غسيل الكفين وذكر نعمة الله قبل الطعام وبعده.
***
فلننتظر ما يأتي به الصندوق!! ليس صندوق الفرجة، وهو صندوق الدنيا في رواية أخرى، أو الصندوق الأسود، أو الصندوق الذي ينفجر فور الشروع بفتحه، أو صندوق العرس. بل صندوق الاقتراع. المصير الشعبي مرتبط إذاً بالنتائج التي سيقدمها. نتائج جلية واضحة، أرقام مسبوكة، أساسها العميق عدد السكان الذين استدعوا بنداءات تلفزيونية تذكرهم أنهم يتمتعون بهذا الحق السياسي المركون منذ زمن قرب سلة النفايات، ووعظهم بضرورة التعبير عن خياراتهم، ومنعكسها الأولي رفع ممثليهم الى السلطة التشريعية، المنفصلة عن السلطتين الأخريين: التنفيذية والقضائية. والدستور هو من سيقوم بالفصل بينهما وتوضيح حدودهما وسماتهما. ليس هذا وقت السؤال عمن أدخل هذه الكذبة الأيديولوجية الحمقاء، وهذا التقسيم الهندسي في رؤوس الطليعة المخمورة، والصحافيين والرياضيين والموسيقيين.. نلمس في هذا التقسيم ضرورات قديمة، تعكس أهمية الحد من عدوانية السلطة التنفيذية وحربيتها، لينتج أن تقسيم السلطات في هذه الحالة تعبير عن ضرورة لجم التوسع في عدوانية السلطة التنفيذية، وهي بالمناسبة عادة استبدادية قديمة جداً، على سلطتين تحولتا بتأثيرها إلى سلطتين مكسورتين تابعتين، فائضتين عن حاجات الطغم العسكرية والاستبداد الآسيوي الذي سبقهم. في هذا الشرط الخاص، يمكن تفهم ضرورة الفصل، كتعبير عن ضرورة وقف الاجتياح وردعه ومراقبته. أما عن تحولها إلى مقولة عامة، أشبه بقاعدة قانونية...تتوخى فهم السلطة بعد تمديدها على طاولة التشريح، فقد يحتاج لملاحظات، بكون السلطة السياسية هي سلطة واحدة لا تحتمل القسمة على ثلاثة أو التجزئة، بها يبدأ حكم الطبقة المسيطرة وبها ينتهي، وما تلك السلطات المزعومة سوى وظائف فرعية لها. تستطيع السلطة الاستمرار بدونها. من هنا نفهم كيف تستطيع السلطات السياسية الاستبدادية اتخاذ قرار حل البرلمان أو تحويله إلى نمط مستحدث من مسرح العرائس، وإيقاف العمل بالدستور وهو دستورها الذي صاغته بروحية التعايش الأبدي بين الأغنـام والذئاب. لكنها بالمقابل لا تسـتطيع الاسـتمرار ليـوم واحـد من دون سـلطة تنفيذية يعلوها الجيش والمخابرات وجبـاة الضرائب وعطاءات المصرف المركزي.