لا يكف هؤلاء الذين يحاولون تقليد بعض من مظاهر سير الثوار والأصوات الحية لضمائرهم، عن تكرار عبارتهم الآسرة، المنفتحة على سقف سماوي، حين ترفع الهتاف إلى ما فوق غيومه «لن نركع إلا لله». لا بد من التربيت على أكتافهم، قبل الهمس في آذانهم: «حسناً تقولون، لكن طالما رآكم العامة تركعون لغير الله!»
يركعون ويسجدون كذلك، ساعة يتأخر وصول الأموال لهم، وساعة لا ترد أسماؤهم في قائمة المدعوين لزيارة البلدان التي تطبخ «الثورات»على نار هادئة في الفنادق، وتشم رائحة شياطها بخبث في الفنادق المجاورة، وذريعة إجراء دورات تأهيلية في فنون الثورات، أي في فنون إحباط الثورات، ودورات تتوخى إعدادهم كمراسلين ومخرجين أي كمخبرين ومجسات في صفوف الثورة، ينقلون أخبارها، ويرصدون تطوراتها والقوى الفاعلة فيها.
ويركعون حين لا يصلهم «مصروف الجيب» والحواسيب الشخصية، وبطاقات الاتصال الدولية المدفوعة الأجر، وآلات التصوير الحديثة، وإسقاط أسمائهم عن جداول التنظيمات الواهية السريعة الإنشاء، الغامضة المهمات. ولا بأس حين تشتد المعارك ويعلو صوت الرصاص على غيره، من تمرير طلب هجرة نهائية للعائلة، لكون البلاد لم تعد آمنة «للثوار» رغم حديثهم اليقيني الطويل عن الجغرافيا الواسعة التي باتت خارج سيطرة السلطة وجيشها، أو طلبا لاستكمال الدراسة في المهجر حتى لا تخسر الثورة طليعتها وتبدد خبراتها، أو التوظيف في وزارات الحكومة «الثورية» القادمة أو سفاراتها أو قنصلياتها، أو إدارة صفحات إعلامية، لا يقرأها أحد لغياب الكهرباء وشبكة الاتصالات. رغم ذلك يتباهون بكونها تهدف إلى تمكين العامة ورفع سويتهم الفكرية، عبر تذكيرهم بأمجاد المعتصم بالله حين كان يلبي نداءات الاستغاثة، أو حين كان رجال البلاد العظام يجلسون معاً لشرب التمر ـ هندي وتدخين النراجيل، كشكل هزلي من أشكال استعادة الوحدة الوطنية، التي لا يلبث أن يفتقدها هؤلاء الأعيان من حين لآخر ويعملوا على استردادها مرة أخرى.
ويركع قبلهم أيضاً ويدربهم عليه، من يرشحهم للخوض في هذه «المهمات النضالية»، رغم تكراره مثلهم تلك اللازمة التي يقتبسوها من الثوار، الذي تفحّم بعضهم بلهيب حرائق لا ترحم، وقتل الآخرون في ساحات التظاهرات أو في أعمال الإغاثة، وغيب منهم خلف الأسوار ليذوب هناك كشمعة، ومن هجر بيته تاركاً أهله في هذه الجغرافيا المتصحرة بلا قطرة ماء.
لكنه يركع كذلك، يركع وهو يتسول الأموال من الأمراء والوزراء والمبادرات الدولية، ويركع حين يؤثر رغد العيش في العواصم التي تقايض الثورة أموالاً بمواقف، على العودة إلى الأماكن المحررة، ليقف مع الأرتال الطويلة للوصول إلى ربطة الخبز، وسطل المياه، وانتظار فسحة الكهرباء... وتفعيل الهاتف للاطمئنان على الأهل المنتظرين رنين جرسه المنذر في عتمة الأحياء المجاورة. لم يدس أحد ورقة تحت أطباقهم العالية ليقرأوا قبل التجشؤ عبارة هيغل الذي لا يكف بعض مثقفيهم من إسناد نصوصهم بعباراته «يثبت المرء حريته فقط في مجازفته بحياته».
الحقيقة تتضح كل نهار وليله، أنهم لن يقفوا على أقدامهم ولن يرفعوا رؤوسهم قط، كأنه قدرهم، ملتصق بجلودهم كوشم نخاس لعبيده المؤبدين.
***
ما زال هؤلاء العجائز في أماكنهم لم يبارحوها، يضربون كفاً بكف، مرددين بلا توقف العبارة المجوفة «العالم لم يقف معنا، تركنا نموت...» وكأنه آن الوقت لإطلاق العبارة من سجنها الأيديولوجي لتتوضح. العالم الإمبريالي لا يقف مع ثورة الشعب السوري، وكأنه كان يقف مع غيرها. لكن ينبغي الإقرار بأنه يقف مع بعض خيارات الناطقين باسمها، وهي «للمصادفة» الخيارات التي تخرج الثورة من أسباب ثورتها وتدفعها للركوع.
وينتحل هؤلاء سير الحكماء كذلك، لتوفر فائض من الوقت عندهم، قبل توضح الإنجازات وانفصال بياض الثورة عن سواد الثورة المضادة، حين يتحدثون عن ضرورة عدم غمط دور أحد في المستقبل، ويبشرون بذلك الجميع بصراخ عال، ويعدون في هياج كلامهم الملائكة كذلك بأنه سيكون لهم دور، حيث سيتوسطون لإيقاظ الموتى أو إحياء العظام وهي رميم، أو حين ينفخ في الصور لإخراج الخراف البيضاء المطيعة إلى خضر المراعي.
***
يطالب المحارب الفاشي وظهيره المثقف، بضرورة أن تكشف الثورات عن وجهها وحقيقتها. يتباكون بدموع التماسيح لا بسواها على النضال السلمي وأيامه الزاهرة، حين كان العامة يقفون كعصافير فوق أغصان شجرة الثورة المستنبتة لتوها، ويتدرب هؤلاء على قنصهم والبصق على ريشهم، وهرس عظامهم بعد السخرية من شدوهم الطويل.
ويتباكى من لم يبارحوا مقاعدهم الوثيرة قيد أنملة، على تلك الأيام كذلك، حين كان العامة يأكلون القتل ويدفعون الخراج، قبلها كان يمضي «الوجهاء الديموقراطيون» ببزاتهم الأنيقة وربطات أعناقهم المسدلة، متفقدين في الجيوب العميقة لمعاطفهم الداخلية الأمشاط الخفيفة وزجاجات العطور، قبل أن يتفقدوا بعضهم، ويبحثوا عن الذرائع لمن تأخر، أيام التظاهر بالتظاهر هو الغاية القصوى من هذه التجمعات المتثائبة، لتتثبّت كعادة نخبوية لا يُدعى إليها العامة بالبيانات الثورية والملصقات، ويبقى ذاك اللعب على الكلمات، كأن نسمي الوقوف الخجول أمام أكشاك بيع الصحف لتلقف آخر أخبار الأنذال تظاهر. حينها لم يكن في الإمكان أكثر مما كان. لكن ساعة تخرج الجموع من سباتها، يتلجلج هؤلاء، يفتخرون من حين لآخر في حيز ضيق بالشبان، الذين يمضون بقلوب نابضة وإرادات عالية وعيون مبصرة، ليعود من يبقى على سجلات الحياة، بعين واحدة وذراع مبتورة وغرزة سكين أو حربة في أعلى الوجه أو الخاصرة. وبقي هؤلاء فوق مقاعدهم الوثيرة، يحتسون أكوابا متتالية من»المليسة» والوعظ بضرورة الحفاظ على السلمية والصمود، وفهموا أن النضال السياسي هو الشكل المبتذل من الإرشادات التربوية للأبناء في فترة المراهقة، كتجنب وضع الساق على الساق، والسعال في حضور كبار السن...
رغم ذلك، لا يكفون عن الحديث عن «ثورتهم»، كما يتحدثون عن سياراتهم ومكاتبهم والمناديل القماشية التي يتمخطون بها لحظة يقترب منهم واحد من العامة برائحة ثيابه وعرقه الجاف. لا نطالب هؤلاء بما هم عاجزون عن تنفيذه، لكن من حقنا مطالبتهم بالتوقف عن الكذب والهراء، وتذكيرهم بالأيام العشرة التي هزت العالم، لا بتلك الطبول والصنوج والرقص والتصفيق التي تهزّ خصر العالم. والأنكى عندما يرفعون صوتهم الاتهامي، يكون هناك من «سرق»، سرق شيئاً ما، نخاله لوهلة كأس المليسة الدافئ الذي لم يبرح طاولاتهم الخشبية الواسعة. لا، هناك من سرق ثورتهم! لكن هل كانت لهم ثورة في مستوى الوعي أو الممارسة أو حتى الخيال السحري؟ ما من ثورات محجبة عبر التاريخ. الذين يتحجبون هم المتسلطون ومن ينام في أحضانهم. يسند الثوار ظهورهم على حائط مهدم، كما أسنده أندريه مالرو على متاريس الثورة الإسبانية ليكتب عن المخطط الثوري: الأمل والقيامة وتنظيم القيامة.