تحت ظلال الكارثة

قال شاعرٌ ما مرةً: "الخوف متراس". وافترضَ آخر أننا يجب أن نشعر بالامتنان الدائم لأسلافنا الخائفين، لأن خوفهم كان هو سبيل نجاتهم، فقد حفظ حياتهم وجنبهم الكوارث والحروب، وبعدها تكاثروا وصرنا نحن، واستمرت الحياة، فلزاماً علينا أن نخاف لكي ننجو.
2020-04-02

مبين الخشاني

كاتب من العراق


شارك
علاء الشرابي - سوريا

مع اشتداد وطأة الوباء، تشتد أساليب الوقاية التي تقيد من حرية الواحد فينا، وتجعله يتقبل فكرة حبس نفسه وحجرها ابتغاء أن يفلت من فم الكارثة المفتوح قبل أن يطبق. حتى وإنْ أتت تلك النجاة على حساب حريته التي كان قد يموت من أجلها في وقت سابق أحد الشعراء، قال إنَّه خلال مكوثه في السجن كان يفتقد أكثر الأفعال اليومية بساطة، مثل تناول كوب من الشاي في أول الصباح. قوله هذا جعلني أشرب الشاي كأنني أحقق أمنية شخص ما، وفي الوقت ذاته أكاد أبكي وأنا أنظر إلى كوب الشاي وهو ينتهي، فأسأله بعد ذلك، من سيكتب مرثيتنا؟

الرائحة

إذا نجوت من الكارثة، سأتذكر دائماً رائحة هذه الأيام المليئة بالروائح. ففضلاً عن رائحة الخوف التي تسود الجو العام، فإنَّ الأنف وفي كل يوم يستنشق روائح كثيرة ومختلفة لمستحضرات التعقيم والمنظفات. هذا نشاط لم يألفه أنفي من قبل، إنَّه نشاط يُخرج عملية التنفس من حقل البديهيات، يخرجها عن عاديتها ويجعلها محط تركيز وانتباه.

كل شهيق صار يحمل خبراً جديداً، مثل تغيير نوعية المعقم الذي تستخدمه أمي في البيت. رائحة "الديتول" هنا هي الطاغية، وبالنسبة لي فإنها رائحة مقترنة بالخطر. منطقة الخطر في ذاكرتي عامرة بالديتول، بدءاً من جروح الطفولة حتى المكوث في المستشفيات أو زيارة صديق مريض.

غرفتي الآن، مع رطوبة الزوايا وظلامها وكل تلك الروائح، تشبه مكاناً تنتهي به الحياة. هذا الوصف الأخير هو احتمالٌ يتسع أو يضيق بحسب ما يردني من أخبار عن الكارثة.

لهذا السبب يرافقني شعور بعدم الراحة مع وجود هذه الروائح، على الرغم من محاولات التأقلم معها بعد الأسبوع الأول. إنه شعور يحيل غرفتي إلى ردهة في مستشفى، ليست مثل ردهة الطوارئ لأن غرفتي أهدأ. إنها هادئة مثل ثلاجة الموتى. نعم، غرفتي الآن، مع رطوبة الزوايا وظلامها وكل تلك الروائح، تشبه مكاناً تنتهي به الحياة. هذا الوصف الأخير هو احتمالٌ يتسع أو يضيق بحسب ما يردني من أخبار عن الكارثة.

ومع ذلك فإن النافذة تمرر ضوءاً خارجياً يُمكّنُني من القراءة ليلاً دون الحاجة لتشغيل مصباح الغرفة الأبيض.

مؤخراً، صرت أكره ضوء هذا المصباح لأنه يزيد من شعور الوجود في مستشفى. وإضافة إلى الضوء الخافت، تمرر النافذة أيضاً خيوطاً من دخان البخور والحرمل، ولهذين العطرين حصة في الحفلة.
سآخذ مقطعاً رأسيا للمشهد:

ليل – داخلي

من الأعلى، نشاهد غرفة صغيرة شبه مظلمة فيها نافذة تمرر ضوءاً خافتاً وخيوطَ دخان هزيلة، وبجانب النافذة نشاهد شاباً على سريره يقرأ كتاب شعر، وبجانب السرير طاولة صغيرة عليها كتب وكوب شاي فارغ وتلفون ذكي، في الزوايا التي أمام السرير مكتبة، وفي الزاوية البعيدة طاولة عليها كتب وزجاجة ديتول لغسل اليدين...ظلام.

هذا مقطع رأسي لحياتي الراهنة، غرفتي وأنا فيها وحيداً من وجهة نظر الفيزياء، لكن هنالك حتماً ما لا تلتقطه عين الفيزياء مثل الهواجس التي تملأ فضاء الغرفة وتسهم بتغيير قناعاتي، إضافة إلى الخوف الذي يكاد يخنق هواء الغرفة ويتسرب إلى خارجها.

خوف مختلف

قال شاعر ما مرة: "الخوف متراس"، وافترضَ آخر أننا يجب أن نشعر بالامتنان الدائم لأسلافنا الخائفين، لأن خوفهم كان هو سبيل نجاتهم، فقد حفظ حياتهم وجنبهم الكوارث والحروب، وبعدها تكاثروا وصرنا نحن، واستمرت الحياة، فلزاماً علينا أن نخاف لكي ننجو. لكن خوفي في هذه الأيام بدأ يأخذ شكلاً غير اعتيادي. إنه خوف مختلف، خبرته مرة واحدة فقط من قبل.

أشد ما يعجبني في التاريخ هو قدرته على التكرار. وهذه الصفة أتشارك بالإعجاب بها مع كل محبي التاريخ. لكن التاريخ نفسه يدين للكتابة بفضل وجوده. لان أهمية التاريخ هي جزء من أهمية التدوين.

وأتذكر هذه المرة جيداً، حين كنت طفلاً ألعب كرة القدم في ساحة بعيدة عن البيت، فوجئت بأبي يأتي من بعيد باحثاً عني، تجاوزت الصدمة خلال ثوانٍ قليلة وطلبت من أصدقائي أن يخبئونني، وقد أحسنوا فعل ذلك. خلال الفترة التي كنت مختبئاً فيها وأرقب أبي وهو يبحث عني ويسأل بقية الأطفال، كان جسمي يرتعش، وجبهتي تتعرق، وفمي يجف. دبّت في جسدي رجفة بطيئة، بدأت من رأسي وجعلتني أشعر ببطء العالم من حولي وكأنه سيتوقف، نزولاً إلى صدري حتى صرت أسمع نبضات قلبي وهي تتباطأ وتكاد تنقطع. ثم فجأة، قرر أبي العودة بعد أن يأس من العثور عليّ.

تصاعد إيقاع الرجفة في جسدي وحملني ذلك إلى الركض في طريق آخر يوصلني إلى البيت قبل أن يصله الأب. خلال الركض تصاعدت وتيرة الرجفة وشملت بقية جسدي، بل تركزت في منطقة ما تحت الحزام وحفزت لدي رغبة عارمة بالتبول، وفور وصولي البيت رحت إلى الحمام وكانت الرجفة قد بلغت ذروتها حتى شعرت بأنني أتبول على نفسي، وتلا ذلك خدر رهيب، نعم كانت هذه مرتي الأولى، شعرت بالنشوة دون أن المس أعضائي، بعد ذلك سمعت أبي وهو يدخل البيت لكنني لم أكن مهتماً حينها لأي شيء يحصل خارج جسدي.

شعور الخوف نفسه ذاك عاد إلي هذه الأيام، الرجفة نفسها بتعدد إيقاعاتها تعتريني من وقت لآخر. ومع استنشاق عبق البخور، بينما أقرأ عن اعتقاد بوذي بتناسخ الأرواح، تتكرر النشوة إياها. لذا أعتقد أن خوفي لن يبقى خوفاً خصوصاً أن فكرة تناسخ الأرواح بدأت تمنحني بعض الارتياح، لذا ربما سيكون خوفي سبيلاً للنيرفانا إذا ما حلت الكارثة وغادرتُ جسدي، خصوصاً وأن النافذة في غرفتي المظلمة تصلح استعارة بليغة عن وجود الأمل في أحلك الظروف، بل إنها تقترح أملاً آخرليس بالنجاة، وإنما بالنهاية التي تقترح بدورها بداية جديدة.

تكرار التاريخ المبهر

أشد ما يعجبني في التاريخ هو قدرته على التكرار. وهذه الصفة أتشارك بالإعجاب بها مع كل محبي التاريخ. لكن التاريخ نفسه يدين للكتابة بفضل وجوده. لأن أهمية التاريخ هي جزء من أهمية التدوين. هذا ما يلمسه أي قارئ لطاعون ألبير كامو، الذي يفترض في قصته أنَّ قصته نفسها تدين بالفضل لأحد أبطالها الذي كان يدون يومياته وتأملاته إبان فترة الطاعون.

بالغ الكثير من الدعاة ورجال الدين في مرحلة الوباء الأولى بالاتكال على معتقداتهم وتسلحوا بها لمواجهة الوباء، لكن سرعان ما صدمتهم الحقيقة وجعلتهم ينقلبون على دعواهم، بل إنهم تبرأوا من جمهورهم الذي كانوا يغذّونه طوال العقود الماضية بمعتقداتهم التي تجعل من نفسها نداً غير متكافئ للعلم.

يقف كامو عند كل ما نقف عنده نحن هذه الأيام، مثل مرحلة الإنكار التي تتراوح بين القلق والاقتناع، والتي يعتقد أنها نتيجة اعتقادنا بأن لا معنى لما يحصل.لكنه يجيب بأن ذلك ليس مبرراًلعدم حصوله. يقول كامو: "عندما تقع الحرب يقول الناس لن تستمر طويلاً إذ لا معنى لها. ولاريب في أن لا معنى للحروب، غير أن ذلك لا يحول دون أن تستمر طويلاً" وهذا تماماً ما حصل معنا في الأسابيع الأولى. ثم يعزو كامو عدم الشعور بوقوع الأوبئة إلى كونها أعلى من مستوى البشر، ولذلك"تظل غير حقيقية في عقولهم، تظل حلماً من الأحلام، وغالباً ما يكون أول الضحايا أولئك الذين لا يصدقون، كونهم لا يأخذون الاحتياط اللازم". إن كامو هنا يتكلم عنا تماماً. هذه إحدى مآثر الأدب بل مأثرة كامو إنه تنبأ بما يحصل معنا حالياً وبتفاصيل بالغة الدقة.

مقالات ذات صلة

بالغ الكثير من الدعاة ورجال الدين في مرحلة الوباء الأولى بالاتكال على معتقداتهم وتسلحوا بها لمواجهة الوباء، لكن سرعان ما صدمتهم الحقيقة وجعلتهم ينقلبون على دعواهم، بل إنهم تبرأوا من جمهورهم الذي كانوا يغذّونه طوال العقود الماضية بمعتقداتهم التي تجعل من نفسها نداً غير متكافئ للعلم. وكما هو معتاد استطاع الدعاة ترميم مواقفهم بينما سقط أتباعهم في الفخ المتكرر إلى حد الملل، نتيجة خليط من الجهل والغباء وشيء ثالث لست أعرفه.

مع اشتداد وطأة الوباء، تشتد أساليب الوقاية التي تقيد من حرية الواحد فينا، وتجعله يتقبل فكرة حبس نفسه وحجرها ابتغاء أن يفلت من فم الكارثة المفتوح قبل أن يطبق. حتى وإنْ أتت تلك النجاة على حساب حريته التي كان قد يموت من أجلها في وقت سابق، هذا يرسخ ما قاله كامو أيضاً بأنَّ "لا حرية لأي إنسان مادام هناك أوبئة".

أولمبياد

أتوقع بأن العالم بعد فيروس كورونا لن يكون كما كان قبله. ليس لدي أي تكهن حول شكله القادم لكنني أعرف أن هذا الوباء حدثٌ من شأنه إحداث تغيير كبير. وفي هذه الظروف تطرح أسئلة كبيرة وكثيرة دون أن تلقى أجوبتها، إنه وقت الاحتمالات التي تتكاثر وتزدهر مع كل يوم من أيام الوباء هذا.

مع اشتداد وطأة الوباء، تشتد أساليب الوقاية التي تقيد من حرية الواحد فينا، وتجعله يتقبل فكرة حبس نفسه وحجرها ابتغاء أن يفلت من فم الكارثة المفتوح قبل أن يطبق. حتى وإنْ أتت تلك النجاة على حساب حريته التي كان قد يموت من أجلها في وقت سابق.

رغم ذلك يتسابق الكثيرون لإثبات وجهات نظرهم محاولين إسقاط أيديولوجياتهم على مقاسات الكارثة، ويتنبؤون بالمآلات التي تناسب أحلامهم. وهذا الفعل قد يحالفه الحظ. في حال نجا أحد أصحاب الأيديولوجيات سيحيل نجاته انتصاراً لفكرته ويكتب بعد ذلك تاريخاً جديداً بمزاج المنتصر، لكن هذا أيضاً مجرد احتمال واحد من بين الكثير. في مثل هذه الظروف تمتحن العقائد، وهذا ما يعزز اعتقادي بأنَّ مرحلة ما بعد فيروس كورونا ستشهد سقوط قناعات وصعود أخرى.

محاولات للنجاة

لا بداية لليوم ولا نهاية له، قد استيقظ آخر النهار فيبدأ. إنها أيام غير تقليدية يكتسيها قدرٌ كبيرٌ من الحميمية، يصبح كل فعل عزيزاً رغم أنه يفقد قيمته طردياً مع تضخم هاجس النهاية. في مذكرات أحد الشعراء قال إنَّه خلال مكوثه في السجن كان يفتقد أكثر الأفعال اليومية بساطة، مثل تناول كوب من الشاي في أول الصباح. قوله هذا جعلني أشرب الشاي كأنني أحقق أمنية شخص ما، وفي الوقت ذاته أكاد أبكي وأنا أنظر إلى كوب الشاي وهو ينتهي، فأسأله بعد ذلك من سيكتب مرثيتنا؟

أنتهي بعد تفكير طويل إلى سماع الأغاني، لاسيما تلك التي ترتبط بالطفولة، كونها تحمل حنيناً مجهولاً لمشاعر غير قابلة للامساك، إنها مشاعر لن تعود إلا إذا تكررت الحياة بنسخة ثانية، تكون روحي حينها في جسد أقل حركة وأوسع رؤية مثل شجرة عالية. كل ما يدعو للقراءة ينفي دعوته بنفسه، هذا الصراع بين الجدوى واللاجدوى يشتغل داخلي بعد أن أُنهي قراءة كتاب ما. في نزهة تقترحها الأحلام تكون مشاهد من الأفلام معادلات موضوعية للطموح، إنَّه فعل لا أتجرأ عليه خارج حدود الحلم، لأن هاجس قرب النهاية يحط من قيمة أي فعل. وتحت ظلال الكارثة تفقد كل الأفعال صفة الأهمية ماعدا محاولات النجاة.

مقالات من العراق

"شنكَال"؟

فؤاد الحسن 2024-12-23

لا يقبل الدين الإيزيدي الراغبين في الانتماء إليه، الذين لم يولدوا لأبوَين إيزيديين. وهو بذلك، كديانة، ليست تبشيرية، ولا نبي أو رسول للإيزيديين، وهذا ما يجعل علاقتهم مباشِرة مع خالقهم،...

سجون "الأسد" وسجون "صدام حسين"

ديمة ياسين 2024-12-12

لا أزال إلى اليوم لا أستطيع النظر طويلاً إلى الصور التي التُقِطتْ لوالدي في أول يوم له بعد خروجه من المعتقل، وهو يجلس تاركاً مسافة بيننا وبينه، وتلك النظرة في...

بغداد وأشباحٌ أخرى

نبيل صالح 2024-12-01

عُدتُ إلى بغداد ولم أعد. تركتُ قُبلةً على قبر أُمي ورحلتُ. ما حدث ويحدث لبغداد بعد الغزو الذي قادته جيوش الولايات المتحدة الأمريكية، هو انتقامٌ من الأسلاف والتاريخ معاً.

للكاتب نفسه